"أردوغان يجهزه".. صحيفة يونانية: هل يكون فيدان رئيس تركيا القادم؟
"قد يكون فيدان هو الشخص الذي اختاره أردوغان لضمان انتقال سلس للسلطة"
كان بروتيوس، إله البحر في الأساطير اليونانية القديمة، قادرا على تغيير شكله باستمرار، مثلما تتقلب أمواج البحر، ولم يكن يعبر عن مشاعر أو ردود فعل ثابتة، ما مكّنه من تجنب الإجابة على الأسئلة.
اليوم، في خضم التوترات حول المناطق البحرية في بحر إيجه وشرق البحر الأبيض المتوسط، يبدو أن اليونان تتعامل مع شخصية "بروتيوس" في تركيا، وزير خارجيتها هاكان فيدان، الذي يتسم بقدرة فائقة على المناورة والتكيف مع الأوضاع المختلفة.
وفي تقرير لها، وصفت صحيفة "كاثيمرني" اليونانية "فيدان" بأنه "رجل الدولة العميقة الذي يجمع بين أسلوب الدبلوماسي وأدوات الجاسوس"، بحسب تعبيرها.
أوجه متعددة
وتابعت: "لا يدرك معظم من يجلسون مع فيدان أنه غالبا يعرف عنهم أكثر مما يعرفون هم عن أنفسهم، فنظراته الهادئة التي تحمل بريقا طفيفا لا توحي بأي تهديد؛ بل تبث شعورا بالراحة والاطمئنان".
يصف المراقبون شخصية فيدان بأنها تتسم ببراعة فريدة، إذ يَظهر منذ اللحظات الأولى في الاجتماعات بمزيج مدروس من الدهشة الخفيفة والابتسامة الرقيقة، مصحوبة بلمسة من الحرج البسيط، ما يضفي على حضوره طابعا ودودا ويترك انطباعا بأنه مستعد لتقبل الكثير.
وقالت الصحيفة: "بعضهم يؤكد أنه رجل عسكري ودبلوماسي مخلص وجدير بالثقة، يتسم بالهدوء والحياد في نقاشاته، بينما يحذر آخرون من كونه لاعبا غامضا وغير متوقع على الإطلاق".
"يُقال إنه قد يصافحك في حوار ودّي، لتدرك لاحقا أنك فقدت اثنين أو ثلاثة من أصابعك دون أن تشعر بأي ألم".
واستدركت: "مع ذلك، قد تكون هذه التصورات مجرد مبالغات أو تحامل، فربما لا يتظاهر فيدان بشيء بتاتا؛ إذ قد تكون كل أوجهه حقيقية ومقنعة بالقدر نفسه، وهذا ما تشير إليه مسيرته الشخصية".
وُلد هاكان فيدان عام 1968، الرجل الذي يُسهم الآن في تشكيل تركيا الحديثة في "حي حمام أونو" بأنقرة المرصوف بالحجارة، والمليء بالمنازل والمباني المصممة على الطراز العثماني المتأخر.
وهو حي ساحر يعج بالمطاعم وأماكن الفنون، يشبه أحياء بلاكا ومونستيراكي في أثينا، واسمه نفسه يعني "المنطقة المبنية حول الحمام".
وتطرقت الصحيفة إلى شخصية "زين الدين قره جه بك" وهو زعيم قبلي عاش في القرن الرابع عشر بمنطقة أنقرة الكبرى ومؤسس سلالة "ذي القدر" التركمانية، التي لعبت دورا في تشكيل الدولة العثمانية.
اسمه لا يزال يُذكر حتى اليوم، ومن أبرز معالم إرثه "حمام قره جه بك" الذي بُني قبل ستة قرون ويقع في "حي حمام أونو" بأنقرة.
وهنا تساءلت الصحيفة: هل سيُخلَّد اسم فيدان في المستقبل كما خُلد اسم زعيم الحي قبل قرون؟
وعن حياته، قالت إن وزير الخارجية التركي متزوج من نوران فيدان، وهي محاسبة قانونية تنحدر من مدينة سيفاس، ولهما 3 أبناء ويعيشون في أنقرة.
والده كردي، وكان موظفا حكوميا في بلدة وارتو الصغيرة التي تقع على بُعد 742 كيلومترا شرق أنقرة. أما والدته، فهي من مدينة دنيزلي، التي يُقارب عدد سكانها سكان مدينة سالونيك اليونانية، أي نحو 319 ألف نسمة.
وبينت الصحيفة أن "فيدان" يمثل تجسيدا لمختلف الجوانب الثقافية والعرقية التي تميز تركيا، ما يمنحه قدرة استثنائية على التعامل مع القضايا برؤية متعددة الزوايا، تجمع بين وجهات نظر متباينة -بل ومتعارضة أحيانا- وهذا بدوره يتيح له فهما أعمق وإدراكا أشمل للمواقف المختلفة.
ووفق الصحيفة اليونانية، فهذا يعني أنه قادر على فهم كل من الأكراد والأتراك، والشرقيين والأوروبيين، والكماليين (نسبة إلى مؤسس الجمهورية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك) والإسلاميين بذات الكفاءة.
وقالت: "مع أنه ليس إسلاميا، فإن ذلك لا يعني أنه لا يؤدي صلواته اليومية". وأفادت بأن فيدان يتبنى عادات غربية، ويرتدي بدلات زرقاء كلاسيكية وربطات عنق من ماركة "فاكو" التركية الفاخرة، وهذا لا يمنعه من تدخين الشيشة التقليدية أو النرجيلة.
وأكدت أن هذه الصفات تصبح سلاحا فعالا عند الحاجة لجمع الأسرار والتنقل بمهارة بين وضوح النهار وغموض الليل.
منذ صغره، حمل "بروتيوس التركي" -كما تسميه الصحيفة- إحساسا رومانسيا بالواجب تجاه الدولة، وهو شعور يُثير الإعجاب في تركيا على عكس النظرة السلبية التي قد يُقابل بها في اليونان.
كانت له علاقة خاصة بالتاريخ، مصحوبة برغبة مراهقة حالمة ليكون جزءا منه، وهي الرغبة التي قادته في نهاية مراهقته إلى الانضمام للقوات المسلحة التركية.
وتلقى فيدان تدريبه في الأكاديمية العسكرية التركية ومدرسة اللغات التابعة للقوات البرية، ليصبح ضابطا خدم لعدة سنوات في فيلق الرد السريع التابع لحلف شمال الأطلسي (الناتو) بألمانيا، حيث أنهى خدمته العسكرية عام 2001.
بفضل طموحه واجتهاده وحبه للعلم، استغل الفرص التي أتاحها له الناتو لدراسة الإدارة والعلوم السياسية بجامعة ميريلاند في الولايات المتحدة، وهناك، تعمّق في فهم الأميركيين، وبدورهم، تعرفوا عليه.
وعاد "فيدان" إلى تركيا عام 2001 ليواصل دراساته العليا، حيث حصل على درجة الماجستير والدكتوراه من جامعة بيلكنت في أنقرة.
كان عنوان أطروحته للماجستير، "الاستخبارات والسياسة الخارجية"، بمثابة البوصلة التي وجهت مسار حياته المهنية لاحقا.
وسعى من خلالها لفهم الدور الخفي الذي تلعبه الاستخبارات في تشكيل السياسة الخارجية، من خلال التأثير الصامت والمستتر الذي يمكن أن يترك بصمة حاسمة على التطورات والقرارات.
السرية كقيمة كبرى
وقالت الصحيفة اليونانية: سرعان ما أتيحت له الفرصة لتطبيق بعض النظريات التي تعلّمها عندما عُيّن رئيسا لوكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا)، التي كانت معنية بـ "التنمية الدولية" و"العمل الإنساني"، ونشطت في العديد من الدول.
خلال تلك الفترة، كان فيدان جزءا من مجموعة شبابية في منتصف الثلاثينيات من عمرها، أصابها الإحباط من القيادة الكمالية التي اتسمت بالجمود، خاصة مع توجه البلاد نحو صندوق النقد الدولي.
وجدت هذه المجموعة ضالتها في الزعيم الإسلامي رجب طيب أردوغان، والذي كان آنذاك، من أشد المتحمسين لأوروبا، بحسب وصف الصحيفة.
وفاز أردوغان في انتخابات البرلمان عام 2003، ثم أصبح رئيسا للوزراء بعد إطلاق سراحه من السجن، حيث قضى 4 أشهر، من عقوبة 10 أشهر بتهمة التحريض على الكراهية الدينية.
وفي عام 2007، انضم فيدان إلى مكتب رئيس الوزراء كنائب وزير، ومستشار في قضايا السياسة الخارجية والأمن.
وأشارت الصحيفة إلى أن "علاقة فيدان توطدت سريعا مع أردوغان، الزعيم القوي الذي شغل منصب رئيس وزراء تركيا حتى عام 2014"، قبل أن يصبح رئيس الجمهورية.
ورأى أردوغان في فيدان شخصية تجمع بين الفطنة التحليلية والقدرة على الكتمان والاجتهاد، إلى جانب مهارة فريدة في بناء شبكات من الموثوقين، وربما الأهم من ذلك، تواضعه وبساطته.
وبفضل هذه الصفات، عُيّن فيدان عام 2010، وهو في عمر 42 فقط، كأصغر رئيس لجهاز الاستخبارات التركي (MIT).
وقالت الصحيفة: "اتضح سريعا أن فيدان يتبع سياسة العصا والجزرة بمهارة، فقد صعّد الحملة ضد التنظيمات الكردية في إطار مكافحة الإرهاب، بينما كان في الوقت ذاته يجري مفاوضات سرية للسلام مع حزب العمال الكردستاني (بي كا كا) وزعيمه المسجون في جزيرة إمرالي، عبد الله أوجلان".
وأضافت: عندما تسربت أنباء هذه المحادثات عام 2012 واستُدعي للتحقيق من النيابة العامة، تدخل "السلطان" دفاعا عنه، مؤكدا أن فيدان كان ينفذ أوامره"، وحينها، وصفه أردوغان بأنه "حافظ أسرار الدولة".
ويزعم خصوم فيدان أنه في عام 2016، لم يحذر أردوغان من محاولة الانقلاب الفاشلة التي تتهم تركيا جماعة فتح الله غولن بتنفيذها.
أما مؤيدوه، فيؤكدون أنه سبق أن أخطر رئيس الأركان حينها، خلوصي أكار، بوجود تحركات مريبة داخل الجيش.
وتشير شائعات إلى أن أردوغان قد يكون تلقى التحذير من الروس بدلا من فريقه الداخلي.
لكن عدم تعرض "فيدان" لأي عواقب عقب المحاولة الانقلابية قد يدل على أنه قدّم لرئيسه أكثر مما كُشف عنه علنا، بحسب تقييم الصحيفة.
وقالت: "في الواقع، يُقال إن علاقاته مع الروس ممتازة، كما يظهر من خلال دبلوماسيته السرية في سوريا وأوكرانيا".
"وبعد الانقلاب مباشرة، شرع فيدان في العمل على تفكيك شبكات جماعة غولن، وهي عملية أدت إلى أحكام سجن بحق الآلاف".
ممسك بزمام الدبلوماسية
وفي عام 2023، صعد فيدان إلى منصب وزير الخارجية، ووفقا لما يقال داخل الأوساط التركية، فقد بدأ فورا في تحويل الجهاز الدبلوماسي إلى هيكل موحد يجمع بين الاستخبارات والدبلوماسية.
وبحسب الصحيفة اليونانية، فإن بعض الشخصيات التركية البارزة تهمس بأن وزير الخارجية يهمش الدبلوماسيين ذوي الخبرة.
وفي 13 سبتمبر/أيلول 2023، وبمرسوم من أردوغان، أُنشئت وحدة مسلحة داخل وزارة الخارجية التركية، مكرسة لحماية حوالي 260 سفارة وقنصلية ومهمة دبلوماسية تركية حول العالم.
ويشير المتشككون إلى أن هذه الخطوة منحت جهاز الاستخبارات غطاء دبلوماسيا معززا، مما يسهل تنظيم العمليات السرية في الدول التي تحتفظ فيها تركيا بمصالح حساسة.
وقالت الصحيفة: "بعد أن تولى فيدان منصب وزير الخارجية، ورغم انشغالاته العديدة بالقضايا العالقة في العديد من الدول، بدأ في المشاركة بحوارات متواصلة مع اليونان".
ويرى البعض أن تركيا لا تسعى لحل القضايا اليونانية-التركية (خلافات جزيرة قبرص والحدود البحرية في شرق المتوسط) بشكل حقيقي، بل تتظاهر بالإلحاح؛ لإرسال رسالة إلى الغرب، كما حدث بين عامي 2020 و2022.
ومع ذلك، فقد بدأت المناقشات منذ سبتمبر/أيلول 2024 للتحضير للجولة التالية من المحادثات.
وأضافت الصحيفة: "قد تكون الجولات الدبلوماسية أكثر أهمية من المتوقع؛ إذ يُولي أردوغان قيمة كبيرة لنوعية هذه اللقاءات بصفتها علامة ملموسة على الاحترام".
وقد أكد هذا في مقابلة مع صحيفة "كاثيمرني"، مشيدا بالاجتماعات اليونانية-التركية على هامش إعلان أثينا.
وفي 7 ديسمبر/كانون الأول 2023، وقعت تركيا واليونان "إعلان أثينا بشأن العلاقات الودية وحسن الجوار"، خلال زيارة أردوغان، إلى البلد الجار.
وجاء في الإعلان "تركيا واليونان تقرران إجراء مشاورات مستمرة وبناءة حول الحوار السياسي وجدول الأعمال الإيجابي وإجراءات بناء الثقة".
وبالطبع، يبرز فيدان، الذي التقى عدة مرات بنظيره اليوناني جورج جيرابيتريتيس -في أنقرة ولندن ونيويورك، وآخرها في أثينا- أن "الخلافات التي تفرّقنا تظل على الطاولة إلى جانب الأطباق الشهية التي توحدنا".
وتابعت: "أولئك الذين يتابعون مسيرة فيدان يرون تشابها مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي أمضى فترة طويلة في الاستخبارات وكان يحظى بثقة الرئيس بوريس يلتسين، ما أدى إلى اختياره خليفة له".
وكذلك، قد يكون فيدان بالفعل هو الشخص الذي اختاره أردوغان لضمان انتقال سلس وآمن للسلطة في أنقرة، بحسب الصحيفة.
وقالت: "لا شيء مؤكد، لكن حتى اسمه يبدو أنه يزرع في الذاكرة فكرة مستقبل بطولي".
فـ"هاكان" في التركية تعني "الحاكم" ويعود أصلها إلى الكلمة التركية والمنغولية القديمة "خان" (الإمبراطور).
أما "فيدان" في التركية، فتعني "الفرع" أو "الغصن"، وهي كلمة تشير إلى شجرة صغيرة تنمو بقوة وحيوية، ما تعرف بـ "الغرسة".
لذلك، إذا سار كل شيء كما هو متوقع، فقد يكون "الخان" هاكان -هذا الغراس الواعد في السياسة التركية- من الشخصيات التي تستحوذ على اهتمامنا لسنوات طويلة قادمة.