شاه زاده باشي.. مسجد تاريخي دنسه أنصار إمام أوغلو وصلى فيه أردوغان التراويح

أثار تدنيس جامع شاه زاده باشي موجة غضب في الشارع التركي
تعرض جامع شاه زاده باشي التاريخي، في منطقة الفاتح بقلب مدينة إسطنبول التركية، للتدنيس من قبل أنصار رئيس بلدية إسطنبول الموقوف أكرم إمام أوغلو؛ إذ جرى تخريب شواهد القبور والكتابة والتبول على الأسوار، وشرب الخمر، وإلقاء القمامة، في باحاته المقابلة لحديقة ساراتشانه، مركز احتجاجات المعارضة التركية.
واتهم محافظ إسطنبول داود غول، أنصار حزب الشعب الجمهوري بانتهاك حرمة الجامع التاريخي، خلال المظاهرات الغاضبة التي بدأت في 19 مارس/ آذار 2025، اعتراضا على توقيف إمام أوغلو ومجموعة من مسؤولي البلديات، على خلفية اتهامات بالفساد والإرهاب.
وأثار تدنيس جامع شاه زاده باشي، موجة غضب في الشارع التركي، لا سيما أنها تزامنت مع حلول شهر رمضان الكريم، ما أدى إلى توجه حشود من المواطنين إلى ساحة الجامع، ورددوا شعارات منددة بالهجوم، الذي مسّ هويتهم الدينية الإسلامية.
خاصة أن احتجاجات المعارضة شهدت أفعالا أخرى مسيئة للدين الإسلامي، منها السخرية من الصلاة، وافتعال ضوضاء خلال وقت صلاة التراويح.
وأعادت تلك الأزمة الإرث الصعب لحزب الشعب الجمهوري مع الحريات الدينية، خلال فترات حكمه السابقة، وأيضا ذكرت بأحداث أخرى جرت منذ انتصار المعارضة في انتخابات البلديات عام 2019، عندما قرئ القرآن ورفع الأذان باللغة التركية.
وكذلك تصوير خمر في أحد المساجد، إضافة إلى اعتداءات ضد بعض المحجبات في الشوارع ووسائل المواصلات العامة.
زيارة أردوغان
وفي عشية اليوم الذي جرى فيه تدنيس جامع شاه زاده باشي، أدى عدد كبير من الأتراك صلاة العشاء فيه.
واحتج المشاركون على ما حدث من تخريب في المسجد ومحيطه بالتكبير والهتافات، ثم أدوا صلاة التراويح في المسجد.
حينها فوجئوا بالرئيس رجب طيب أردوغان يزور المسجد، ويؤدي صلاة التراويح معهم.

بعدها تحدث معترضا على ما حلَّ بالجامع من انتهاكات، وقال: "ليس لديهم مشكلة في تحويل ساحات مساجدنا التاريخية إلى حانات".
ويعد جامع "شاه زاده باشي" من المساجد التاريخية التي تشتهر بها إسطنبول؛ إذ يقع أمام مبنى بلدية إسطنبول الكبرى، بشارع فوزي باشا على مقربة من جامع السلطان محمد الفاتح الشهير.
ويعود تاريخ بناء "شاه زاده باشي" إلى عام 1543، عندما أمر السلطان العثماني سليمان القانوني ببنائه إحياء لذكرى ابنه الأكبر "شاه زاد محمد".
أما الذي عهد إليه بالبناء فهو المعماري التركي الشهير "معمار سنان"، كبير المهندسين المعماريين في الدولة العثمانية خلال القرن السادس عشر، والذي أنتج أعمالا مهمة طوال حياته المهنية، على رأسها تحفته الفنية "مسجد السليمية" في أدرنة.
وتضم باحة المسجد أضرحة عددٍ من كبار رجال الدولة العثمانية، منهم الصدران الأعظمان رستم وإبراهيم باشا.
غضب الأتراك
لذلك فإن تدنيس الجامع حمل تساؤلات من كل وجه، أولا لكونه يمس العقيد الإسلامية، ثانيا لبعده التاريخي وأنه من الآثار المميزة، وثالثا للبعد القومي التركي.
ومن هذا المنطلق غرد الداعية الإسلامي التركي، الشيخ خليل كوناكجي، عبر حسابه بموقع "إكس" قائلا: "لقد تجاوزوا حدودهم وبدأوا يتصرفون بشكل غير أخلاقي تجاه المساجد، في بلد إسلامي".
وتابع: "هؤلاء الأعداء الحقراء والمشينون للإسلام، يبولون على جدار جامع شاه زاد باشي، ويشربون الخمر، وبعضهم صعد إلى القبة ورفع لافتات مسيئة".
وأكمل: "أتمنى أن يتم محاسبة هؤلاء الأعداء الأشرار للإسلام، بأشد العقوبات على أفعالهم المشينة".
ونشرت الناشطة نسليهان كوجا، فيديو لمجموعة أفراد من حزب الشعب الجمهوري، تعزف على الطبول وترقص عند مسجد شاه زاده أثناء صلاة التراويح.
وتابعت: "ظلوا على هذا الحال حتى انتهت الصلاة ثم تفرقوا.. إنه أمر غير أخلاقي، وقح، وغير محترم".
وقال حساب باسم حسين كيليتش: "استفزاز كبير! أحذر السلطات!"، وتابع: "أبدى المخربون عدم احترام لا يصدق لمسجد شاه زاده باشي، أحد بيوت الله".
وأضاف: "هؤلاء يشتمون في باحة المسجد، ويكتبون بالطلاء على البناء التاريخي، ويحطمون شواهد القبور التاريخية، ويتسلقون الجدران، ويهتفون بالشعارات السياسية".
وأوضح أن "هذا الوضع غير مقبول على الإطلاق! المساجد ملك للمسلمين، ولا يمكن التسامح مع استهزاء الغوغاء الكماليين (نسبة لمؤسس الجمهورية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك) واليساريين والملحدين".
وطالب الناشط التركي الجهات المختصة باتخاذ الاحتياطات اللازمة حول المسجد في أسرع وقت ممكن.
فيما غرَّد الداعية الإسلامي التركي، إحسان شنوجاك، قائلا: "عندما احتلت مدينة بورصة، ذهب الضابط اليوناني سوفوكليس إلى قبر عثمان غازي، وركل شاهد القبر".
وأكمل: "إخوتي! لا تقفوا على نفس الجانب مع سوفوكليس، الذي حطم شواهد القبور في شاه زاد باشي وتبول على جدران المسجد.. لا تجعلوا عظام أسلافكم تتألم! أفسدوا تلك اللعبة".
قرآن بالتركية
ويرى 94 بالمئة من الأتراك أنفسهم أنهم متدينون ومؤمنون بالله وفق الدين الإسلامي، بحسب دراسة أعدتها جامعة مرمرة التركية في 21 مارس/ آذار 2023.
ومع ذلك فإن استهداف المساجد والشعائر الإسلامية والمتدينين في تركيا من قبل تلك الأحزاب خلال السنوات الأخيرة، كان ملحوظا.
فمثلا صدمت الأوساط السياسية والشعبية التركية بحادثة رفع الأذان وقراءة القرآن باللغة التركية.
وجاء ذلك في احتفالية نظمتها بلدية إسطنبول برئاسة أكرم إمام أوغلو، في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2020، بمناسبة الذكرى 747 لوفاة جلال الدين الرومي، وهو شاعر وعالم صوفي فارسي الأصل تركي الموطن.

كان الرئيس أردوغان في طليعة المنتقدين لنهج رئيس بلدية إسطنبول الموقوف؛ حيث قال: "شهدت المدينة حادثة غريبة تتمثل في قراءة القرآن ورفع الأذان باللغة التركية".
وأضاف “هذه العقلية هي ذاتها التي انزعجت من إعادة فتح آيا صوفيا للعبادة، وبناء مسجد تشامليجا”.
وأردف: "وقد رأينا هذه العقلية التي تتجنب قول الله أكبر ولا إله إلا الله، وصدق الله العظيم باللغة العربية".
وتابع أردوغان غاضبا وموجها حديثه لإمام أوغلو: "كن مؤدبا، وعليك الانتباه أو التحكم في تصرفاتك ولغتك، وإلا فستكون نهاية ذلك سيئة.. إن كنت تؤمن بالقرآن الكريم فعليك إظهار الاحترام الواجب".
اعتداء على محجبات
لكن تحت ضغوط مزاج محتقن وحالة عنصرية وحنق تنتشر كالنار في الهشيم داخل الدولة التركية، تكررت حوادث تمس المقدسات الدينية.
منها أن دخول ناشط قومي تركي أحد الجوامع، وشرب الخمر بداخله، متحديا مشاعر ملايين المسلمين الأتراك.
ونشر هذا الشخص في 15 سبتمبر/ أيلول 2023، صورة زجاجة الخمر قبالة "القبلة والمنبر"، على موقع التواصل الاجتماعي "إكس"، وغرد "أتاتورك أكبر".
ثم دعا السلطات للبحث في كاميرات 3200 مسجد في عموم البلاد، للقبض عليه إن استطاعوا.
وبعد ساعات قليلة اعتقلت الشرطة الناشط القومي، ونشرت صوره وهو مقيد في طريقه إلى السجن.
وعم الغضب والاستهجان مواقع التواصل، التي عدت الحادثة مؤشرا خطيرا لموجة كراهية باتت تستهدف المتدينين الأتراك.
وفي 20 أغسطس/ آب 2023، كانت سيدة تركية محجبة تستقل حافلة عامة في ولاية كوجالي المتاخمة لإسطنبول، قبل أن تفاجأ بهجوم لفظي من سيدة عنصرية.
وسألتها وقتها: "من أين أنت؟ لا أحد يعيش بهذا الشكل هنا في جمهورية تركيا، اذهبي إلى مكان آخر".
وبعدها تحول الأمر إلى معركة كلامية عندما تدخل أشخاص وطالبوا من المعتدية الصمت، ووجه لها أحد الركاب حديثا لاذعا.
وقال: "هل تستطيعين ترك هذه الوقاحة؟ ما مشكلتك إذا كانت محجبة أم لا؟ هل أحضر الشرطة، اخرسي والزمي حدك".

اركبوا الجمال!
هذه الحادثة التي انتشرت بقوة في وسائل الإعلام التركية لم تكن عابرة، فقبلها بيوم واحد فقط، وداخل حافلة أيضا في حي "بيشكتاش" بمدينة إسطنبول، تصدى شاب لامرأة عنصرية كانت تهاجم سيدة تركية محجبة.
وقالت المرأة للمحجبة: "اذهبوا إلى السعودية واركبوا الجمال"، فرد عليها الشاب: "وأنت اذهبي إلى اليونان واركبي القوارب".
ثم اعتدت المرأة على الشاب ووصفته بأنه "عديم التربية" وضربت هاتفه فطرحته أرضا.
ووقعت حادثة مشابهة في 31 أغسطس عندما دافع شاب تركي عن سيدة محجبة في مترو الأنفاق بإسطنبول.
وجاء ذلك بعد تعرضها لهجوم من قبل سيدة علمانية حاولت خلع حجابها، ثم اشتبكت المرأة مع الشاب يدويا، لأنه أوقفها وقال لها: "أمي أيضا ترتدي الحجاب، ولا تتدخلي في لباس الآخرين".
وفي 14 سبتمبر 2023، انتشر فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، يظهر امرأة وهي تتشاجر مع سيدة محجبة، ثم لاحقت أخرى كانت تسير مع طفلتها في الشارع، في محاولة منها لنزع حجابهما.
وأورد موقع "هابرلار" التركي أن الواقعة حدثت في منطقة "اسنيورت" بإسطنبول، واعتقلت قوات الشرطة المرأة المهاجمة وفتحت تحقيقيا، وبدأت في إجراءات التقاضي.
وتكررت هذه الحوادث أخيرا تجاه المحجبات من قبل سيدات ورجال يرون الحجاب دخيلا على المجتمع التركي ويؤمنون بنهج أتاتورك العلماني ولا يعرفون من الدين الإسلامي سوى اسمه ويرفضون أي مظاهر تعكس ارتباط الناس به.
المتغيرات الأتاتوركية
والصدام مع الهوية الإسلامية في تركيا يرجعه البعض إلى حقبة المتغيرات الأتاتوركية المتعلقة تحديدا بالدين.
وذلك عندما أحدث مؤسس الدولة الحديثة مصطفى كمال أتاتورك تحولات جذرية منذ تنصيبه في 30 أكتوبر/ تشرين الأول 1923.
تلك المتغيرات مست جميع مناحي الحياة في البلاد، وأقرت نهجا مخالفا لسياسة الدولة العثمانية التي حكمت لقرون طويلة.
فقد اعتمد أتاتورك بشكل أساسي على الفصل بين الدين والدولة، وألغى وزارة الشريعة والأوقاف، وأغلق المدارس الإسلامية والمحاكم الشرعية.
وفي 4 أكتوبر/ تشرين الأول 1924، وضع القانون المدني الجديد، وبموجبه ألغى الحجاب والزي الإسلامي للنساء، وحلت القبعة الأوروبية "المنتشرة في ذلك الوقت"، محل الطربوش العثماني.
ويتحسب الأتراك كثيرا من العودة إلى تلك الأيام التي تميزت بقمع شديد لكل من يخالف ذلك النهج.
وحاول رئيس الوزراء التركي الأسبق عدنان مندريس إجراء حزمة من الإصلاحات المتعلقة باقتصاد وهوية الدولة، كان أبرزها إعادة فتح مدارس "الأئمة والخطباء"، وإعادة الأذان باللغة العربية، بعدما كان بالتركية.
وجرى بعدها أول انقلاب عسكري في تاريخ الجمهورية الحديثة، وأعدم مندريس في 17 سبتمبر/ أيلول 1961، في جزيرة "يصي أدا" النائية، في عملية نفذها جنرالات الجيش الانقلابيين.