الأطلسيون في مواجهة الأورواسيين.. أي التيارين سيحدد مستقبل ألمانيا؟
"من المنطقي إعادة التفكير بشكل جذري في الطاعة المسبقة لواشنطن"
منذ اشتعال الحرب الروسية الأوكرانية قبل عامين، تسعى أميركا إلى توحيد الكتلة الغربية، وتحديدا أوروبا، تحت رايتها لدعم كييف سياسيا وعسكريا وإضعاف روسيا عبر العقوبات الاقتصادية.
وفي سياق هذه الإستراتيجية الأميركية، يسلط موقع "تيليبوليس" الألماني الضوء على التنافس في السياسة الألمانية بين تيارين متضادين.
الأول هو تيار "الأطلسيين"، الذين يدعمون تحالف ألمانيا الوثيق مع الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى، والآخر تيار "الأوراسيين"، الذين يدعون إلى نهج أكثر توازنا بين الغرب والشرق، خاصة تجاه روسيا والصين.
وفي هذا الإطار، يناقش الموقع أيضا كيف أن التوجهات الجيوسياسية العالمية المتغيرة قد تمنح ألمانيا فرصة لإعادة تقييم علاقاتها وتحالفاتها الدولية.
لافتا النظر إلى وجود تساؤلات حول "فائدة الاستمرار في الاعتماد على الولايات المتحدة فقط في ظل التباينات المتزايدة بين المصالح الألمانية والأميركية".
مساران متضادتان
يستشرف الموقع الألماني تقريره بالقول إنه "مع بداية الحرب الروسية الأوكرانية، اندلع في ألمانيا نزاع داخلي حاد حول توجهها الدولي".
حيث يطالب الأطلسيون بشدة بـ "عزل روسيا وتعميق توجه ألمانيا نحو الغرب"، في حين يجادل الأوراسيون بـ "ضرورة اتخاذ موقف أكثر توازنا بين الغرب والشرق".
ويرى الموقع في هذه النقطة أنه "من الضروري للغاية وضع تقييم موضوعي للمصالح الألمانية".
ومن وجهة نظره، يمكن القول إن "الاندماج الألماني مع الغرب، الذي استمر إلى حد كبير منذ عام 1945 وبالكامل منذ عام 1990، يخضع الآن للاختبار".
ويعود ذلك من جهة إلى أن القوة العالمية المهيمنة، الولايات المتحدة، وكذلك الغرب السياسي بشكل عام، في حالة تراجع نسبي، بينما يشهد الجنوب العالمي، وخاصة القارة الآسيوية، صعودا نسبيا.
وبناء على هذه المتغيرات، يعتقد الموقع أنه "من المنطقي مراجعة وضع المصالح الألمانية وتوجهاتها في النظام الدولي ليتماشى مع الظروف الحالية".
وبهذا الشأن، يفصل قائلا: "إذا أخذنا في الحسبان حجج الأجزاء المتأثرة بالتحالف الأطلسي من النخبة الحاكمة الألمانية، فإن الوضع الجيوسياسي الحالي يقتضي العودة إلى التحالفات التقليدية".
مضيفا أنه "يجب معالجة الأخطاء التي ارتُكبت في الماضي في التعامل مع العمالقة الأورو-آسيويين، روسيا والصين، ومراجعتها عند الضرورة".
وفي هذا السياق، يعد الموقع الألماني إعادة تحديد موقع ألمانيا أقرب إلى ما وصفه نائب المستشار السابق روبرت هابيك بـ "دور القيادة الخادمة".
لكن السؤال المطروح، بحسب الموقع، هو "من الذي تخدمه الحكومة الألمانية حقا في إطار هذا التوجه؟".
إذ إن تحسن الظروف بالنسبة للاقتصاد الألماني، ناهيك عن ظروف المعيشة العامة للشعب الألماني، قد يكون موضع شك، وفق ما ذكره الموقع.
وفي هذه النقطة تحديدا، يشير إلى أن فئة ذات توجه أوراسي -بشكل أكثر وضوحا- تتساءل عن دور ألمانيا الحالي.
وهي ترى، على النقيض من التركيز الأطلسي، أن الفرصة قد حانت لجعل الموقف الألماني أكثر مرونة، وتستند في حججها إلى مصالح ألمانية قابلة للتحقق.
إرث الأطلسية
وبالنظر أكثر تفصيلا في أمر التيار الأطلسي، يذكر "تيليبوليس" أن الهياكل الطبقية وحكم الأطلسية، التي تربط بين أوروبا (الغربية) وأميركا (الشمالية)، ترجع في أصولها إلى القرن التاسع عشر على الأقل.
وفي هذا السياق، يوضح أن "ألمانيا كانت سياسيا خارج المشهد فيما يتعلق بـ"المسألة الألمانية"، أو كانت، خلال الحربين العالميتين، خصما لأنظمة التحالفات الغربية.
ثم تغير هذا الوضع مع الاستسلام غير المشروط في عام 1945 والاحتلال الواسع لألمانيا من قبل الحلفاء الغربيين".
وأردف موضحا: "فخلال العقود التي تلت عام 1945، تطورت جمهورية ألمانيا الاتحادية، خاصة بعد توحيد الدولتين الألمانيتين عام 1990، مرة أخرى إلى قوة إقليمية مهيمنة في أوروبا".
ولكن ينوه الموقع إلى أن "هذه المرة، على غرار اليابان، لم تكن ألمانيا مستقلة، بل مدمجة في نظام التحالف الغربي تحت القيادة المهيمنة للإمبراطورية الأميركية".
وهذا يعني، أن "جمهورية ألمانيا الاتحادية لم تستطع العمل على المستوى الدولي إلا بقيود متفاوتة الشدة، وكانت في كثير من الأحيان تواجه تضارب مصالح مع واشنطن".
ووفقا لبعض النخب الأطلسية الألمانية، فإن "هذا النوع من السيادة المحدودة لا يمثل مشكلة حقيقية طالما أن ألمانيا تحتفظ بمكانة مميزة نسبيا في إطار دورها "القيادي الخادم" داخل الهرمية الغربية".
ومع ذلك، يبرز الموقع الألماني، كما أُشير في البداية، وجود تساؤل حول "مدى جدوى هذا التوجه الدولي الأحادي نحو الغرب، خاصة وأن المصالح الألمانية والأميركية ليست دائما متطابقة".
الأحادية الجيوستراتيجية
من زاوية أخرى، تلعب مسألة إمدادات الطاقة في ألمانيا وأوروبا، كملف جيوسياسي محوري، دورا مهما في هذا السياق، كما أوضحت هيلين تومبسون في الفصول الثلاثة الأولى من كتابها "الفوضى".
حيث تصف تومبسون كيف أن واشنطن وموسكو تتنافسان منذ عقود على إمدادات الطاقة الأوروبية وعلى النفوذ الأساسي في أوروبا.
ويعقب الموقع الألماني بالقول: "تظل مثل هذه الروابط غير مذكورة في كثير من الأحيان عند مناقشة موقف ألمانيا بين هاتين القوتين العظميين في الوقت الحالي.
خصوصا في سياق إمدادات الطاقة الألمانية، فقد كانت الولايات المتحدة منذ فترة طويلة تعد مشروع "نورد ستريم 2" شوكة في خاصرتها. وكذلك في موقف برلين تجاه موسكو بشكل عام، يبدو أن واشنطن قد مارست تأثيرا كبيرا أخيرا على برلين، بهدف دفع النخبة الألمانية لتبني المسار الأميركي".
وأضاف: "لا يتعين علينا العودة إلى أحد أبرز رجال الدولة الألمان، أوتو فون بسمارك، لتقديم حجج تبرهن على أن الدخول في صراع جديد مع موسكو، أو حتى السعي إليه، يبدو خيارا غير حكيم من منظور إستراتيجي ألماني. يكفي ببساطة النظر إلى الموقع الجغرافي لألمانيا، كقوة إقليمية أوراسية تقع بين الغرب والشرق، لفهم ذلك".
طريق خاطئ
وبالنظر بواقعية إلى أكبر سبب للصراع الحالي بين موسكو والغرب بقيادة الولايات المتحدة، وهو الحرب الروسية الأوكرانية، يظهر "تيليبوليس" أن التفسير الغربي التقليدي للصراع حول أوكرانيا "يفتقر إلى الدقة".
موضحا أنه "غالبا ما نفتقد التعامل الصادق مع حقيقة أن أسباب الصراع، إلى جانب العوامل الداخلية الأوكرانية، قد تأثرت بشكل كبير أيضا بالتدخلات الخارجية من كل من الغرب والشرق".
وعلى عكس إلقاء اللوم بشكل أحادي والتسبب في معاداة روسيا بشكل كبير، يذهب الموقع إلى أن "هناك قدرا كبير من الأدلة يشير إلى أن الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، هو من ضحى بعلاقة محتملة بناءة وتعاونية مع موسكو".
وأشارت إلى أن "الولايات المتحدة اتخذت هذا الموقف بسبب تقديرات جيوستراتيجية قصيرة النظر، وربما مضللة أيضا".
ويتضح هذا الانطباع بشكل خاص عند النظر إلى أنه "حتى الجيوستراتيجيين الأميركيين المحافظين، مثل هنري كيسنجر وزبغنيو بريجنسكي، عارضوا المواجهة الحالية بين الغرب والشرق منذ وقت مبكر نسبيا".
إذ كتب كيسنجر في عام 2014، في مقال رأي في صحيفة "واشنطن بوست": "إذا أرادت أوكرانيا البقاء والازدهار، فلا يجب أن تكون مركزا أماميا لطرف ضد الآخر، بل يجب أن تكون جسرا بين القطبين".
أما بريجنسكي فقد دعا في آخر كتاب له عام 2012 إلى "تقارب تاريخي" بين الغرب وروسيا.
وأوضح أن "مثل هذا التقارب التاريخي يعني أن عملية التقارب بين الغرب وروسيا يجب أن تُتابع بطريقة صبورة ومثابرة، إذا كان من المفترض أن تكون مستدامة حقا".
موقع ألمانيا
وفي إطار ما ذُكر سابقا، يستنتج الموقع أن "برلين تخضع حاليا لنخبة واشنطن المضللة، التي لم تعد منذ فترة تتصرف حتى وفقا للمصالح الجيوستراتيجية طويلة الأمد للولايات المتحدة نفسها".
وبالتالي، يرى الموقع أنه "قد يكون من المنطقي، من منظور ألماني، إعادة التفكير بشكل جذري في الطاعة المسبقة تجاه واشنطن".
واستدرك: "وهذا لا يعني أن على ألمانيا أن تنفصل تماما عن الولايات المتحدة أو يجب أن تفعل ذلك".
"فالنقاشات الثنائية التي تدور حول "إما هذا أو ذاك" في هذا السياق لم تعد ملائمة للعصر الحالي"، على حد وصف الموقع.
ولكن في غضون ذلك، يذهب الموقع إلى أنه "بدلا من أن تضيع في اتباع أعمى إلى حد ما في ظل إمبراطورية آخذة في التراجع، يمكن لبرلين أن تعيد وعيها بمصالحها الأطلسية والأوراسية على حد سواء، وأن تعبر عنها بثقة أكبر أمام واشنطن".
ويؤكد الموقع أن "التغيرات التي تظهر منذ فترة طويلة داخل هرم القوة العالمية تفتح نافذة مناسبة لهذا الأمر".
ومن وجهة نظره، "يجب تذكير الجميع باستمرار أن هيكلية أمن جماعية في أوروبا لا يمكنها ضمان السلام والازدهار طويل الأمد إلا من خلال إشراك روسيا".
وعلى وجه الخصوص، ينبغي لألمانيا أن تأخذ هذا الأمر في الحسبان، خاصة في ظل تاريخها المعقد مع روسيا، حسب الموقع.
وفي النهاية، يوضح الموقع أنه "بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة الأولى، أُهدر العديد من الفرص لتحقيق سلام دائم في أوروبا".
مشيرا إلى أنه "لا يمكن إلقاء اللوم في ذلك على موسكو وحدها، بل يقع جزء من المسؤولية على كل من برلين وواشنطن أيضا".