صحيفة فرنسية تحذر من توسع "الإسلام السياسي" في شمال قبرص.. ماذا يقلقها؟

"عملية أسلمة شمال قبرص التي تقودها تركيا تندرج ضمن إطار أوسع لطموحاتها الإقليمية"
في 9 أبريل/ نيسان 2025 أقر مجلس الوزراء في جمهورية شمال قبرص التركية تعديلات على اللائحة التأديبية التي تحدد زي الطلاب في المدارس الثانوية، مما سمح للطالبات بارتداء الحجاب في المدارس الثانوية، في خطوة أثارت غضبا علمانيا في قبرص وعدد من الدول الأوروبية.
وتفاعلا مع الحدث، لفتت صحيفة "أتلانتيكو" الفرنسية إلى ما أسمته “تصاعد النفوذ التركي في شمال قبرص”، محذرة من أن هذا التحول لا يقتصر على البعد المحلي، بل يُعد جزءا من مشروع سياسي أوسع أسماه "العثمانية الجديدة".
وقالت: إنه بعد مرور خمسين عاما على "الغزو التركي" للجزيرة، تمضي أنقرة بدعم من حزب "العدالة والتنمية"، في عملية ممنهجة لتحويل هوية الشمال القبرصي، من خلال مشاريع دينية ورمزية كبرى، مما يثير مخاوف من فرض واقع ثقافي وديني جديد.
وحذرت الصحيفة من أن هذه التحركات تتجاوز قبرص لتنعكس على الأمن الأوروبي ككل، عبر توظيف الإسلام السياسي كأداة للنفوذ، وهو ما يستدعي يقظة إستراتيجية من صناع القرار في الاتحاد الأوروبي.
وتعاني قبرص منذ 1974 انقساما بين شطرين تركي في الشمال ورومي في الجنوب، وفي 2004 رفض القبارصة الروم خطة قدمتها الأمم المتحدة لتوحيد شطري الجزيرة.
ومنذ انهيار محادثات إعادة توحيد قبرص التي جرت برعاية الأمم المتحدة في كرانس مونتانا بسويسرا في يوليو/ تموز 2017 لم تجر أي مفاوضات رسمية بوساطة أممية لتسوية النزاع في الجزيرة.

نفوذ تركي متصاعد
وعلى حد قول الصحيفة الفرنسية، فإن "التغيير في شمال الجزيرة القبرصية بات أكثر وضوحا"، مشددة على أن ما يحدث "ليس عشوائيا"، زاعمة أنه نتيجة لـ "مبادرة متعمدة من أنقرة، تنسجم مع طموحاتها الأوسع في إطار (العثمانية الجديدة)".
وفي هذا السياق، تحذر من أن "الانجراف التدريجي نحو الإسلام السياسي في شمال قبرص يحمل تداعيات عميقة على الاستقرار الإقليمي والأمن الأوروبي والحفاظ على التراث الثقافي".
وهنا، تقول الصحيفة إن "الغزو التركي لقبرص عام 1974، والذي أدانته معظم دول المجتمع الدولي وعدته غير قانوني، أدى إلى تهجير قسري لما يقرب من 200 ألف قبرصي يوناني. كما ترافق ذلك مع عملية محو منهجية للتراث الثقافي اليوناني في شمال الجزيرة".
وتابعت مزاعمها: "حيث استُبدلت أسماء الشوارع والمعالم والأماكن الجغرافية اليونانية بنظائر تركية، كما تعرضت أكثر من 520 كنيسة أرثوذكسية ومقبرة للانتهاك أو النهب، ودُمرت أو سُرقت أكثر من 23 ألف أيقونة بيزنطية، وهو ما وصفته اليونسكو بأنه (طمس مؤسسي) للتراث المسيحي".
وفي الوقت نفسه، تزعم الصحيفة أن "تركيا كانت قد سهلت الاستيطان غير القانوني لآلاف الأشخاص من الأناضول، مما غير بشكل عميق من التركيبة الديمغرافية للمنطقة".
وأردفت: "وهذا التحول السكاني، الذي يُعد انتهاكا للمادة 49 من اتفاقية جنيف، حول شمال قبرص -التي كانت في السابق مجتمعا علمانيا في الغالب- إلى مجتمع متأثر بالأيديولوجيا الإسلامية".
"أسلمة" قبرص
وفي هذا السياق، تلفت "أتلانتيكو" النظر إلى أن "وصول حزب "العدالة والتنمية" إلى السلطة شكل مرحلة جديدة في عملية أسلمة شمال قبرص، وهي مرحلة باتت ملموسة في عدة مجالات رئيسة".
وأوضحت: "إذ تضاعف عدد المدارس الدينية الممولة من تركيا، إلى جانب انتشار برامج التعليم الإسلامي، وغالبا ما تعارض ذلك بشكل مباشر مع الهوية العلمانية التي طالما تمسك بها القبارصة الأتراك"، وفق زعم الصحيفة الفرنسية.
وفي هذا الصدد، تشير الصحيفة إلى أن "نقابات المعلمين المحلية عبرت عن رفضها المتكرر لهذه التوجهات، منددة بما وصفته بمحاولة (غسل دماغ أيديولوجي)".
علاوة على ذلك، توضح الصحيفة أن "المساجد ذات الطراز العثماني انتشرت بسرعة في شمال قبرص، حيث شُيد 213 مسجدا بحلول عام 2022، من بينها أكبر مسجد في المنطقة والذي يضم 62 قبة وست مآذن، وقد اكتمل بناؤه مطلع عام 2024".
ومن وجهة نظر الصحيفة الفرنسية، "يجسد هذا التحول المعماري الجذري محاولة متعمدة لإعادة تشكيل الهوية الثقافية للمنطقة".
"بالإضافة إلى ذلك، عززت رئاسة الشؤون الدينية التركية نفوذها في المناطق المحتلة، ما أدى إلى توجيه الشؤون الدينية بما يتماشى مع الأهداف الإستراتيجية لأنقرة"، حسب التقرير.
وأشارت الصحيفة إلى أحد أبرز المشاريع الرمزية في إطار هذه الإستراتيجية، حيث تمول تركيا مشروعا ضخما، تقدر تكلفته بـ 2.5 مليار ليرة تركية، في مدينة نيقوسيا، وهو يضم قصرا رئاسيا وبرلمانا ومسجدا وحديقة ومحكمة.
وتوضح الصحيفة أن هذا المشروع يمتد على أكثر من مليوني قدم مربع للمباني الحكومية، وخمسة ملايين قدم مربع للمسجد وحدائقه، وهو مصمم على الطراز المعماري العثماني، وذلك "بهدف ترسيخ السيادة والهيمنة الثقافية التركية في شمال قبرص"، وفق زعمها.
وعلى عكس المشاريع التقليدية التي كانت تاريخيا تركز على الرعاية الاجتماعية والرفاهية الروحية، فقد أثار هذا المشروع -حسب ادعاء الصحيفة- انتقادات من القبارصة الأتراك، الذين يرون فيه "امتدادا سياسيا ورمزيا لأجندة أنقرة"، أكثر من كونه "استجابة لاحتياجات دينية محلية".

أداة جيوسياسية
وفي إطار ما ذُكر سابقا، تشدد الصحيفة الفرنسية على أن "عملية أسلمة شمال قبرص التي تقودها تركيا تندرج ضمن إطار أوسع لطموحاتها الإقليمية".
وتابعت: "إذ استخدمت إدارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الإسلام بشكل منهجي كأداة للقوة الناعمة، مستغلة المجتمعات المسلمة في الخارج لتوسيع النفوذ التركي".
وأردفت: "ففي أوروبا، دعمت أنقرة حركات سياسية مثل حزب "نيانس" في السويد، الذي يسعى إلى توحيد المجتمعات المسلمة تحت راية الإسلام السياسي".
ومن وجهة نظر “أتلانتيكو” تشكل هذه الجهود التي تهدف إلى إعادة تشكيل الخطاب الأوروبي حول الإسلام والاندماج، تحديا مباشرا لتماسك الاتحاد الأوروبي.
وأكملت: "حيث تجاوز النفوذ التركي حدود أوروبا، فقد وسعت أنقرة حضورها من خلال شبكات دينية ودبلوماسية ثقافية في البلقان وشمال إفريقيا، ما عزز أشكال التبعية السياسية والاقتصادية في مناطق كانت خاضعة تاريخيا للإمبراطورية العثمانية".
"وعلى مستوى الأمم المتحدة، دعا أردوغان إلى تخصيص مقعد دائم في مجلس الأمن لدولة ذات أغلبية مسلمة، في خطوة تهدف إلى تعزيز قيادته لحركة عالمية للإسلام السياسي"، بحسب ما ورد عن الصحيفة.
ونتيجة لذلك، ترى الصحيفة أن "ما تقوم به تركيا في قبرص لا يُعد مسألة محلية، بل قضية تمس الأمن الأوروبي".
وفي هذا الصدد تقول: "إن أسلمة المناطق المحتلة تحمل معها عدة مخاطر، أبرزها تدمير المواقع المسيحية في شمال قبرص، وهو ما يُشكّل سابقة خطيرة تهدد جهود الحفاظ على التراث داخل الاتحاد الأوروبي".
علاوة على ذلك، تعيد الصحيفة التأكيد أن "تصاعد نفوذ الإسلام السياسي في شمال الجزيرة يُعد جزءا من إستراتيجية أوسع تسعى من خلالها تركيا إلى تصدير أيديولوجيتها الإسلامية في أنحاء أوروبا وحوض البحر الأبيض المتوسط".
وفي الوقت نفسه، تحذر من أن "توظيف أنقرة للهجرة والنفوذ الديني كأدوات إستراتيجية يقوض جهود الاتحاد الأوروبي في تعزيز الاندماج، خاصة فيما يتعلق بالنماذج القائمة على الحكم العلماني".

ما الرد الأوروبي؟
ولمواجهة هذه “التهديدات”، تشدد الصحيفة الفرنسية على أن "صناع القرار في أوروبا يجب عليهم تبني نهج متعدد الأبعاد".
وقالت: "فعلى سبيل المثال، من الضروري أن يزيد الاتحاد الأوروبي من التمويل المخصص لتوثيق وحماية التراث المسيحي القبرصي، وضمان المساءلة عن أعمال المحو الثقافي".
إضافة إلى ذلك، تقول الصحيفة: إنه "ينبغي تعزيز آليات تبادل المعلومات الاستخباراتية لمراقبة الشبكات السياسية والدينية التابعة لأنقرة داخل المجتمعات الأوروبية".
وأردفت: "وأخيرا، على بروكسل أن تتخذ موقفا أكثر حزما تجاه انتهاكات تركيا للقانون الدولي، مع التأكيد مجددا على دعمها لسيادة قبرص".
وأخيرا، تؤكد الصحيفة أن "توجهات تركيا في هذا الصدد تشكل تحديا مباشرا أمام استقرار أوروبا والحفاظ على تراثها الثقافي وتوازنها الجيوسياسي".
وتختتم الصحيفة تقريرها بالتأكيد على أن "المحافظين الأوروبيين يجب عليهم أن يدركوا حجم هذا التهديد المتصاعد، وأن يدفعوا باتجاه اتخاذ إجراءات حاسمة للدفاع عن هوية القارة وأمنها وسيادتها".