تُربك الحسابات.. كيف أصبحت تركيا قوة ردع ترعب إسرائيل واليونان؟

"أنقرة باتت تمتلك الأدوات اللازمة لإعادة رسم خارطة الردع في الشرق الأوسط"
في رقعة الشطرنج الفوضوية للسياسة العالمية، تبرز تركيا كقطب إقليمي يصعب تجاهله، وكفاعل لا يكتفي بلعب الأدوار التقليدية، بل يكتب قواعده الخاصة.
ونشرت صحيفة "يني شفق" التركية مقالا للكاتب، فاروق أونالان، ذكر فيه أنه “في الصورة الجديدة لم تعد تركيا مجرد لاعب في المنطقة، بل قوة تعيد كتابة القواعد”.
ويرى أن “تركيا في نظر إسرائيل ليست عدوا فوضويا مثل إيران ولا تهديدا محدودا مثل حزب الله”.
مخاوف تتضاعف
وقال أونالان: “من تطور صناعاتها الدفاعية إلى قدرتها على تشكيل موازين القوى، يبدو أن أنقرة قد أطلقت مسيرتها في مسار تصاعدي لا عودة منه".
وأضاف “فالطائرات المسيّرة مثل (بيرقدار تي بي 2) و(أنكا-3)، إلى جانب دبابات (ألتاي) وصواريخ (توساش) قد باتت رمزا لقدرة تركيا المتزايدة في فرض حضورها على الأرض والجو، وذلك ضمن منظومة عسكرية حديثة مدعومة بقدرات إلكترونية وكوادر مدرّبة وفق معايير الناتو”.
وأشار أونالان إلى أن “تحركات تركيا لم تبقَ محصورة في حدودها، بل امتدّت إلى ليبيا وإقليم قره باغ والصومال، وأخذت طابعا أكثر تعقيدا وخصوصية في سوريا”.
وأكد أن “ثاني أكبر جيش في الناتو لم يعد مجرد كتلة عسكرية تقليدية، بل يمتلك اليوم خبرات حرب إلكترونية، وتفوقا في تكنولوجيا المسيّرات، وقوات مدربة بمعايير أطلسية، وكلها مؤهلات تجعل من أنقرة لاعبا دوليا ذا تأثير عابر للحدود”.
واستطرد: “في هذا السياق، لم يكن من الغريب أن تُطلق صحيفة جيروزاليم بوست تحذيرا يُفهم منه أن إسرائيل لم تعد ترى في تركيا شريكا متقلب المزاج فقط، بل تهديدا إستراتيجيا مباشرا”.
وتابع: "فإن دخول طائرة مسيّرة تركية إلى الأجواء الإسرائيلية لم يعد سيناريو خياليا بل احتمالا واقعيا، كما جاء في تقريرها”.
ورأى أونالان أن “هذا القلق الإسرائيلي المتصاعد لا ينبع فقط من التقدم العسكري التركي، بل من براعة دبلوماسية تجعل أنقرة حاضرة في كل الملفات الساخنة: من صفقة مقاتلات F-16 مع واشنطن، لمشاريع الطاقة مع موسكو، إلى النفوذ الاقتصادي والثقافي المتزايد في إفريقيا والبلقان”.
ولفت الكاتب إلى أن "إسرائيل تنظر إلى هذه التحركات كمؤشرات على تصاعد ظل أنقرة في المنطقة".
وقال أونالان: "ما يزيد الطين بلّة من وجهة نظر تل أبيب هو الخطاب التركي الحازم بشأن القضية الفلسطينية، ودور أنقرة في الساحة السورية بما يتقاطع مع مصالح إيران وروسيا، بل ويضعها أحيانا في موقع الوصاية حسب الاتهامات الإسرائيلية".
وأضاف أن “تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر، الذي وصف الدور التركي في سوريا ولبنان بالسلبي، تفتح نافذة على عقلية المؤسسة الأمنية الإسرائيلية التي ترى في تركيا خطرا وجوديا لا يُستهان به”.
تتحدى "القبة"
واستدرك الكاتب: "يبدو أن تركيا قررت ألا تبقى على الهامش.. فلم تعد تكتفي بلعب أدوار ثانوية في الملفات الإقليمية، بل باتت اليوم تمتلك الأدوات اللازمة لإعادة رسم خارطة الردع في الشرق الأوسط".
ورأى أن "أحدث تحذيرات صحيفة جيروزاليم بوست لم تكن مجرد تحليل صحفي عابر، بل مؤشرا صارخا على أن التكنولوجيا العسكرية التركية بدأت تقترب من كسر ما بدا لسنوات حصنا منيعا وهو (القبة الحديدية) الإسرائيلية".
فوفقا للواء المتقاعد إيرال أورطال، فإن الطائرات المسيّرة التركية المتقدمة، مثل بيرقدار وأنكا-3، إلى جانب قدرات الحرب الإلكترونية والتدريب الأطلسي المحترف تمثل "تحديا حقيقيا" لمنظومة الدفاع الجوي الإسرائيلي.
وهذا الاعتراف الصريح من قلب المؤسسة العسكرية الإسرائيلية يُظهر أن أنقرة لم تعد تُرى كفاعل سياسي مزعج فحسب، بل كخصم قادر على فرض معادلات جديدة.
وأشار الكاتب إلى أن "عدّ الوجود العسكري التركي في شمال سوريا أخطر من التهديد الإيراني، فذلك يعني أن المخاوف الإسرائيلية لم تعد تُقاس فقط بعدد الصواريخ، بل بجودة الذكاء الاصطناعي، ودقة المسيّرات، ونفوذ إلكتروني قد يَشلّ قدرة إسرائيل على الحركة في مسرح عمليات كالجولان".
في مقابل هذا التصعيد التكنولوجي تتحرك تركيا بدبلوماسية حذرة، ولكن بلهجة سياسية لا تخلو من التحدي.
فدعم أنقرة العلني لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”، وانخراطها القانوني في ملف الإبادة الجماعية عبر دعم دعوى جنوب إفريقيا ليست مواقف رمزية، بل هي أدوات ضغط سياسية مدروسة تعزز من حصار إسرائيل دبلوماسيا، وتُظهر أن المواجهة معها لم تعد محصورة في الميدان العسكري فقط، يؤكد أونالان.
وتابع: “لذلك فإن تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 30 مارس/ آذار 2025، والتي دعا فيها إلى (إزالة إسرائيل الصهيونية)، لم يكن مجرد خطاب حماسي، بل إشارة إلى تحول في سقف الخطاب التركي”.
وقد التقط الإعلام الإسرائيلي الرسالة جيدا، حين وصفت صحيفة جيروزاليم بوست هذه التصريحات بأنها نذير "صدام مباشر وشيك".
ومع ذلك، تبقي أنقرة خطوطا خلفية للتواصل وضبط التصعيد، كما يتضح من تأسيسها آلية أمنية لتجنب التصادم المباشر مع إسرائيل في سوريا.
وأكد أونالان أن “هذه البراغماتية ليست ضعفا، بل هي امتداد لفكر إستراتيجي يدرك أن القوة لا تُمارس فقط من فوهة بندقية، بل من حنكة سياسية وموطئ قدم مدروس على رقعة جيوسياسية شديدة التعقيد”.
وأوضح أن “تركيا اليوم لا تسعى لحرب شاملة، لكنها ترسل رسالة واضحة: قواعد اللعبة تغيّرت، ومن لا يواكب التطور فسيكون خارج الملعب".
وأضاف: "لذلك فإن إسرائيل التي لطالما تمتعت بتفوق نوعي في التكنولوجيا والدفاع، تجد نفسها الآن أمام خصم يتقن لغة المستقبل”.
واستطرد: "اليوم نجد أن الطائرات التي تحلق فوق الحدود الشمالية لم تعد كلها مرئية بالرادارات.. لذلك، من الممكن أن الحرب لا تزال بعيدة، لكن التحول في موازين الردع بدأ... وصدى أزيز المسيّرات التركية يُسمع بوضوح في أروقة تل أبيب".
قلق في أثينا
وقال أونالان: “في الوقت الذي تعيد فيه المنطقة ترتيب أوراقها الجيوسياسية، تبدو اليونان وكأنها تراقب المشهد من حافة قلق إستراتيجي عميق”.
وذكر أنه “ليس من قبيل الصدفة أن تُحدِثَ تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والتي يشيد فيها بنظيره التركي أردوغان، كلّ هذا الاضطراب في الإعلام والسياسة اليونانية”.
ولفت إلى أنه “بالنسبة لأثينا هذا ليس مجرد رأي عابر لرئيس، بل هو (تصويت ثقة) من أحد رموز السياسة الأميركية البارزة، ومن قائد يعده كثيرون في أثينا خصما إقليميا مقلقا”.
وأشار إلى أن "الصحف اليونانية لم تخفِ انزعاجها، فصحيفة (تو فيما) وصفت تصريحات ترامب بأنها دعم صريح لأردوغان، فيما رأت صحيفة أخرى أن ترامب يرى في أردوغان زعيما (فعل ما لم يفعله أحد منذ ألفي عام)".
وأردف الكاتب بأن "تركيا لم تعد فقط تتحدث بثقة، بل تتحرك بثقة أيضا.. فالاتفاقات العسكرية بين أنقرة ودمشق، وحضورها العسكري في سوريا، ومناورات حاملة المسيّرات (تي جي غي أناضولو) في شرق المتوسط، جميعها إشارات على أن أنقرة ترسم حدود نفوذها بنفسها".
وتابع: “لذلك، فإن أثينا تخشى من أن هذا التمدد التركي المدعوم بصمت أو قبول الولايات المتحدة قد يعيد تشكيل ميزان القوى في بحر إيجة وشرق المتوسط لصالح أنقرة”.
وأشار أونالان إلى أن “القلق لا يقتصر على اليونان.. فإسرائيل بدورها تشعر بتحول مقلق في ديناميكيات القوة”.
وأوضح أن “تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بقوله: (علينا تجنب المواجهة مع تركيا) ليس مجرد موقف حذر، بل اعتراف ضمني بأن أنقرة باتت قوة لا يُستهان بها، وأن مواجهتها قد تكون مكلفة أو غير محسوبة النتائج”.
ورأى أن “ما يميز تركيا اليوم هو امتلاكها قوة متعددة الأبعاد: استثمار بـ20 مليار دولار في الصناعات الدفاعية عام 2024، وتجارب ناجحة لمقاتلتها المحلية (قآن)، ودخول أول حاملة مسيّرات في العالم إلى الخدمة، بالإضافة إلى دور محوري في ممرات الطاقة الإقليمية، وحضور إنساني نشط في القارة الإفريقية”.
وشدد الكاتب على أن “هذا النموذج التركي لا يُصنّف كقوة فوضوية كإيران ولا كتهديد محدود كحزب الله، بل كقوة منضبطة”.
ولفت إلى أن “تركيا تُعَدّ عضوا في الناتو ذا نفوذ اقتصادي وتكنولوجي متزايد، بل وتعرف كيف تمارس تأثيرها الناعم والخشن في آن معا.. وهذا بالضبط هو ما تخشاه إسرائيل وتراقبه اليونان بعين القلق”.
وأكد أن “التقييمات المتعددة، تتفق على أن تركيا لم تعد مجرد لاعب في الإقليم، بل أصبحت قوة تعيد كتابة القواعد في ربيع 2025، وتفرض على الجميع إعادة حساباتهم”.
وختم الكاتب المقال قائلا: "يبدو أن تركيا دخلت مرحلة جديدة من الحضور الإستراتيجي، تتداخل فيها السياسة مع التقنية، والدبلوماسية مع الجغرافيا، والقوة العسكرية مع التأثير الثقافي".