أسلحة إبادة غزة.. ما الذي تخفيه شحنات ميرسك في موانئ طنجة والدار البيضاء؟

داود علي | منذ ٩ ساعات

12

طباعة

مشاركة

في وقت تنهمر فيه القنابل على غزة وتدفن العائلات تحت الركام، تمر سفن الحاويات بهدوء عبر مضيق جبل طارق، لتفرغ حمولتها في ميناء مغربي، قبل أن تعاد تعبئتها وتوجه صوب الموانئ الإسرائيلية.

ورغم أن الرأي العام المغربي يهتف في الشوارع "فلسطين قضية وطنية"، فإن ما يجرى في موانئ طنجة والدار البيضاء يقول شيئا آخر.

في قلب هذا التناقض تقف شركة ميرسك الدنماركية، عملاق الشحن البحري، التي وثقت تقارير استقصائية متطابقة استخدامها للأراضي والموانئ المغربية كممر لوجستي ثابت في طريق توريد الأسلحة والمكونات العسكرية إلى إسرائيل.

وذلك في خضم واحدة من أكثر حالات العدوان الإسرائيلي دموية ضد الشعب الفلسطيني، الذي يتعرض في غزة لإبادة جماعية ممنهجة على مرأى ومسمع من العالم.

وبينما تصر "ميرسك" على أنها لا تنقل "ذخائر إلى مناطق نزاع"، تكشف خطوط الشحن، وأسماء السفن، وأرقام الرحلات، أن المغرب بات محطة عبور أساسية في سلسلة الإمداد التي تغذي آلة الحرب الإسرائيلية.

ممر لوجيستي صامت

وفي تقرير نشره موقع "ميدل إيست آي" البريطاني، مطلع يوليو/ تموز 2025، كُشف أن الشحنات العسكرية المتجهة إلى إسرائيل عبر الموانئ المغربية لم تتوقف، رغم موجات الاحتجاج الشعبي المتكررة رفضا للعدوان الإسرائيلي على غزة.

وسلط التقرير الضوء على سيطرة شركة "ميرسك" على حركة الحاويات في موانئ المغرب، خاصة ميناء طنجة المتوسط. 

مشيرا إلى أن هذا الوجود المكثف لا يبدو مقلقا لولا أن الشركة معروفة بارتباطها الوثيق بشحن المعدات العسكرية إلى إسرائيل، بما في ذلك مكونات مقاتلات الشبح الأميركية "F-35" التي شاركت في تنفيذ غارات على القطاع المحاصر.

فقد تم تحديد شحنة عسكرية في أبريل/ نيسان 2024 انطلقت من ميناء هيوستن في الولايات المتحدة، على متن السفينة "ميرسك ديترويت" التي ترفع العلم الأميركي.

وبعد أسبوعين، وصلت السفينة إلى ميناء طنجة المتوسط، حيث نقلت الشحنة إلى سفينة أخرى تدعى "نيكسو ميرسك"، واصلت الرحلة عبر البحر المتوسط إلى ميناء حيفا في فلسطين المحتلة. 

ثم تم تفريغ الشحنة العسكرية في قاعدة نيفاتيم الجوية، وهي قاعدة جوية رئيسة يستخدمها الجيش الإسرائيلي في تنفيذ عملياته الجوية ضد غزة.

استقالات كاشفة

وإثر الكشف عن هذه الشحنة، اندلعت موجة من الغضب الشعبي داخل المغرب، حيث خرجت تظاهرات في موانئ طنجة والدار البيضاء.

 ووفق صحيفة "هسبريس" المغربية في 23 أبريل 2025، فإن ما لا يقل عن ثمانية عمال قدموا استقالاتهم من "ميرسك"، بينهم كوادر لهم صلاحيات الاطلاع على طبيعة الشحنات. 

وقد كشفوا أن الشركة الدنماركية مارست ضغوطا شديدة عليهم لتنفيذ عملية التفريغ، باستخدام أساليب تمويه كتغيير الأرقام التسلسلية، في محاولة لإخفاء الطابع العسكري للشحنة.

وبرغم عدم وجود وثائق رسمية تفيد بموافقة الحكومة المغربية على مرور هذه الشحنات، إلا أن تكرار عمليات التوقف والتحميل في الموانئ المغربية، بعد أن رفضت موانئ إسبانية استقبال السفن ذاتها في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، يشير إلى تنسيق غير معلن بين الرباط وشركاء ميرسك، بحسب موقع "ميدل إيست آي". 

شبكة من التحايل 

وعلى خلفية هذا الجدل، أصدرت شركة ميرسك بيانا في مارس/آذار 2024 زعمت فيه أنها "تلتزم بعدم نقل الأسلحة أو الذخائر إلى مناطق النزاع النشط"، لكن الوقائع الميدانية وشهادات باحثين تناقض هذا الادعاء.

فقد أوضح الباحث في شؤون السلام ونزع السلاح، أليخاندرو بوزو، للموقع البريطاني، أن هذه الشحنات ليست استثناء، بل جزء من "حركة مرور منتظمة لم تتوقف"، وفقا لقواعد البيانات التي اطلع عليها مركز ديلاس الإسباني.

وأضاف أن شركة ميرسك تتحصن خلف "صياغات مضللة"، مثل استخدام تعبيرات "مكونات طائرات" بدلا من "مكونات عسكرية"، للتهرب من المساءلة القانونية.

كما كشفت الوثائق أن شركة ميرسك تشارك في برنامج الأمن البحري الأميركي (MSP) منذ عام 1996، من خلال فرعها الأميركي "Maersk Line Limited"، ما يجعلها ملزمة بنقل المعدات العسكرية للجيش الأميركي مقابل عقود مالية ضخمة، تشمل دعم حلفاء واشنطن، بما في ذلك إسرائيل.

وعبر هذا الاتفاق، أصبحت ميرسك ناقلا إستراتيجيا في حروب الولايات المتحدة، بما في ذلك نقل الأسلحة إلى مناطق نزاع نشطة مثل العراق وأفغانستان وإسرائيل.

معلومات عن ميرسك 

وتعد شركة ميرسك الدنماركية (A.P. Møller – Maersk Group) واحدة من أكبر شركات الشحن البحري والخدمات اللوجستية في العالم. 

وقد تحولت في السنوات الأخيرة إلى فاعل غير مرئي في منظومة الحروب الحديثة، عبر علاقاتها الوثيقة بوزارات الدفاع وشبكات الإمداد العسكري حول العالم، خاصة مع الولايات المتحدة وإسرائيل.

تأسست الشركة عام 1904 ومقرها الرئيس في كوبنهاغن، الدنمارك، وتدير أسطولا ضخما يضم أكثر من 700 سفينة حاويات. 

وتعمل في أكثر من 130 دولة، مما يجعلها شبكة نقل لوجستي عالمية، تستخدم في السياقات التجارية والمدنية، ولكن أيضا في نقل المعدات العسكرية والبضائع المرتبطة بالحروب.

وتكمن خطورة ميرسك في أنها تقدم الغطاء اللوجستي لحرب تتهم فيها إسرائيل بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. 

ومع غياب الشفافية، لا يعرف أحد على وجه التحديد حجم الشحنات التي تمر من خلالها، لكن تقارير صادرة عن حركات حقوقية، مثل حركة المقاطعة العالمية "BDS"، وحركة الشباب الفلسطينية، تشير إلى نقل أكثر من ألفي شحنة عسكرية من الولايات المتحدة إلى إسرائيل خلال عام واحد فقط (من سبتمبر/ أيلول 2023 حتى سبتمبر 2024). 

وذلك عبر السفن التابعة لميرسك، بعضها مر بالمغرب بعد أن تم منعها من الرسو في موانئ إسبانيا.

صمت رسمي مغربي

ورغم تصاعد الضغوط، لم تصدر الحكومة المغربية أي توضيحات بشأن مرور هذه الشحنات عبر موانئها. 

ويرى مراقبون أن هذا الصمت هو في حد ذاته مؤشر مقلق، لا سيما في ظل ما يُعرف عن قدرة الأجهزة السيادية على مراقبة الموانئ، وتحديد طبيعة الشحنات العابرة منها وإليها.

وقال أليخاندرو بوزو: "بالطبع يمكن للحكومة أن تعرف ما في داخل الحاوية، إذا أرادت أن تعرف".

لكنه أشار إلى أن الرباط تفضل الالتفاف عبر الغموض، حفاظا على شراكتها مع الولايات المتحدة وإسرائيل، خصوصا بعد توقيع اتفاقيات التطبيع في ديسمبر/ كانون الأول 2020، مقابل اعتراف واشنطن بسيادة المغرب على الصحراء الغربية.

ووفقا لزين حسين، الباحث في معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، فإن إسرائيل تعتمد بشكل كبير على واردات الأسلحة، خاصة من الولايات المتحدة، لتغذية قدراتها في حرب غزة. 

وأضاف: "وجود ممرات شحن آمنة مثل المغرب، أصبح عنصرا حاسما في إمداد إسرائيل".

ويرى مركز "ديلاس" أن اختيار المغرب ليس فقط لأسباب لوجستية وجغرافية، بل لأنه أصبح "محطة موثوقة" للغرب في مقابل مواقف سياسية.

فالموقع القريب من مضيق جبل طارق يتيح تخفيض التكاليف والوقت مقارنة بخيار الالتفاف حول إفريقيا، والرباط، التي أصبحت شريكا إستراتيجيا أمنيا لإسرائيل والولايات المتحدة.

ميرسك في مواجهة الشارع

وفي الوقت الذي تواصل فيه شركة ميرسك شحن تلك المكونات العسكرية، تصاعدت موجات الغضب الشعبي ضدها على مستوى دولي، من العواصم الأوروبية إلى الشوارع العربية.

وفي صباح يوم 24 فبراير/شباط 2025، تحول محيط المقر الرئيس لشركة ميرسك في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن إلى ساحة احتجاج صاخبة، حيث نظم ناشطون اعتصاما سلميا أمام بوابات الشركة للمطالبة بوقف توريد المعدات العسكرية إلى إسرائيل.

ورفع المحتجون لافتات كتب عليها، "أوقفوا التعامل مع الإبادة الجماعية"، و"ميرسك تدعم الإبادة الجماعية في فلسطين"، و"الهجوم على فرد هو هجوم على الجميع". 

وتسلق عدد من النشطاء سطح المبنى الذي يضم مكاتب الشركة، فيما أغلق آخرون المداخل المؤدية إلى المقر الرئيس.

ورغم سلمية الاعتصام، تدخلت الشرطة الدنماركية بعنف، معتبرة أن الاعتصام "تعطيل غير قانوني"، وأطلقت قنابل الغاز لتفريق المتظاهرين الذين رفضوا مغادرة الموقع.

قبل ذلك، في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، شهدت العاصمة التونسية احتجاجات مماثلة أمام مقر فرع شركة ميرسك، حيث نظم ناشطون تونسيون وقفة ضد تورط الشركة في إمداد الإبادة الجماعية الإسرائيلية ضد غزة. 

ورفعوا أعلام فلسطين فوق مبنى الشركة، وقاموا برش وطمس شعارها باللون الأحمر في رسالة رمزية واضحة.

واتهم المتظاهرون ميرسك باستخدام موانئ عربية، مثل طنجة في المغرب والعريش في مصر، كمسارات عبور نحو الموانئ الإسرائيلية.

وأكدت إحدى الناشطات، في مقطع مصور انتشر عبر وسائل التواصل، أن الشركة حاولت أخيرا الرسو في ميناء بنزرت التونسي، إلا أن تحرك الناشطين أسهم في إحباط المحاولة.

ودعت التنسيقيات المنظمة للوقفة، وعلى رأسها حركات دعم فلسطين ومناهضة التطبيع، إلى ما وصفته بـ"العصيان العمالي ضد شركات الدم". 

مطالبة عمال الرصيف والموانئ التونسية بعدم التعاون مع أي سفينة تابعة لشركة ميرسك.

وتظهر هذه التحركات، من أوروبا إلى شمال إفريقيا، أن دور ميرسك اللوجستي في دعم إسرائيل لم يعد ملفا سريا أو تقنيا، بل بات جزءا من النقاش العام حول مسؤولية الشركات الكبرى في تغذية العدوان وتسهيل جرائم الإبادة.