من الزراعة إلى التكنولوجيا.. المقاطعة الأوروبية تطرق أبواب إسرائيل

اسم إسرائيل أصبح عبئا تجاريا لا يمكن وضعه بسهولة على رفوف المتاجر الأوروبية
فجأة، تحول الاقتصاد الإسرائيلي إلى ساحة معركة صامتة، تديرها الشعوب الأوروبية وبعض الحكومات، بوعي استهلاكي وقانوني متصاعد، وعبر أدوات الردع الاقتصادي بدل التواطؤ الدبلوماسي.
وجاءت الضربات الأوروبية أخيرا عبر الرفوف ومن فواتير الشراء، وصفقات الاستثمار المجمدة، كرد فعل على عمليات الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023.
فمن دبلن إلى مدريد، ومن ميلانو إلى برلين، تتساقط تدريجيا أقنعة "العلاقات الطبيعية"، ويصعد خطاب المقاطعة الاقتصادية من الهامش إلى صلب السياسات.
ولم يعد ممكنا بيع زجاجة مياه غازية من شركة داعمة لإسرائيل في إيطاليا، ولا تمرير حمولة فواكه من مستوطنات الضفة الغربية في ألمانيا دون أن تثير أزمة أخلاقية.

ضربة أيرلندية
وفي خطوة تعد الأولى من نوعها على مستوى القارة، أقرت أيرلندا في 27 يونيو/ حزيران 2025، مشروع قانون رسمي يحظر استيراد أي بضائع أو منتجات قادمة من المستوطنات الإسرائيلية المقامة في الضفة الغربية وشرق القدس المحتلتين.
وهو ما يمثل تحولا قانونيا يعكس إرادة شعبية متصاعدة في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية.
وجاء إعلان وزير الخارجية والتجارة الأيرلندي، سيمون هاريس، ليمثل لحظة فاصلة، بعد أن وافقت الحكومة على المشروع وأحالته إلى البرلمان لتشريعه الكامل، مستندا في شرعيته إلى رأي محكمة العدل الدولية الصادر في 19 يوليو/ تموز 2024، والذي أدان السياسات الاستيطانية.
وبموجب التشريع المرتقب، ستعامل أي واردات من المستوطنات كجريمة يعاقب عليها وفق قانون الجمارك لعام 2015، ما يعني نهاية محتملة لعشرات الاتفاقيات التجارية مع شركات إسرائيلية تستغل الأراضي المحتلة.
وفي السياق ذاته، دعا رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، الاتحاد الأوروبي إلى تعليق فوري لاتفاقية الشراكة مع إسرائيل.
واستنكر "الازدواجية الأخلاقية" للاتحاد الذي يفرض عقوبات صارمة على روسيا بسبب غزو أوكرانيا، بينما يغض الطرف عن “الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان التي تمارسها إسرائيل في غزة”. بحسب تعبيره.
حملات موسعة
التحركات الرسمية هذه تتوازى مع تحولات تدريجية في المواقف التجارية داخل أوروبا، فقد بدأت حملات المقاطعة تلقى صدى حقيقيا حتى في دول تعرف عادة بتجنب أي تصعيد ضد تل أبيب، وعلى رأسها ألمانيا.
صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية نقلت في 26 يونيو، عن مصدرين ومزارعين في إسرائيل، إعرابهم عن قلق متزايد من تغير سلوك سلاسل التوريد في أوروبا.
ونقل أحد مصدري البطاطا أن “ألمانيا، التي لطالما كانت سوقا مضمونا، بدأت تسمع فيها أصوات تدعو بوضوح للمقاطعة”.
فيما عبر أحد عمال التعبئة الألمان عن واقع جديد قائلا: المستهلكون لا يقبلون رؤية منتجات إسرائيلية على الرفوف عندما تكون عناوين الصحف "إبادة جماعية"، إنها تثقل كاهلنا.
وفي إيطاليا، قرّرت سلسلة متاجر "كوب أليانزا 3.0" الشهيرة اتخاذ موقف صريح، وأوقفت بيع مجموعة من المنتجات الإسرائيلية تضامنا مع المدنيين الفلسطينيين.
وأوضحت الشركة في بيانها أنها "لا يمكنها الاستمرار في تجاهل حجم العنف الذي يتعرض له سكان غزة". مشيرة إلى أن القرار شمل سحب الفول السوداني والطحينة ومياه شركة صودا ستريم من الأرفف".
لم يقف الأمر عند هذا الحد، فبالتوازي قررت سلسلة المتاجر الإيطالية إدخال مشروب "كولا غزة" كبديل رمزي يعكس التضامن الشعبي مع القضية الفلسطينية.
كل هذه الإجراءات، سواء كانت قانونية أو استهلاكية أو رمزية، ترسم ملامح تصدع واضح في العلاقات الاقتصادية بين إسرائيل وأكبر شركائها التجاريين في أوروبا.
وهو ما وضع تساؤلات عن إرهاصات بداية مرحلة جديدة من العزلة الاقتصادية لتل أبيب، شبيهة بتلك التي أسقطت نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.

حصيلة 2025
ولم تكن سنة 2025 عادية في مسار الاقتصاد الإسرائيلي، في ظل استمرار العدوان على غزة، وتزايد الضغوط الأوروبية الشعبية والرسمية.
إذ واجهت تل أبيب ما يشبه العزلة الاقتصادية الزاحفة، التي بدأت تأكل من أطراف القطاعات الحيوية وتضغط على مفاصل مالية في الدولة.
وبحلول منتصف العام، كشفت التقديرات الصادرة عن بنك إسرائيل أن كلفة الحرب مجتمعة، بما فيها الإنفاق العسكري، والخسائر الاقتصادية، وتداعيات المقاطعة الأوروبية، بلغت نحو 67 مليار دولار، وهو رقم يعد من الأعلى في تاريخ الأزمات الإسرائيلية.
وحتى مع احتساب 14.5 مليار دولار من الدعم الأميركي، ظل العجز مهولا ويعكس هشاشة البنية الاقتصادية في مواجهة الضغوط الخارجية، بحسب ما أورده مركز "مودرن دبلوماسي" للدراسات السياسية بمدينة بلوفديف البلغارية.
في الوقت نفسه، تلقت التجارة الخارجية ضربة موجعة، فالاتحاد الأوروبي، الذي يشكل أكثر من 32 بالمئة من حجم التجارة السلعية مع إسرائيل، بات يتراجع تدريجيا عن عقوده.
ويأتي ذلك مع إيقاف محتمل لاتفاقيات شراكة، وتزايد حملات المقاطعة في الشارع الأوروبي، خاصة تلك التي تستهدف المنتجات الزراعية والتكنولوجية القادمة من المستوطنات.
العملة الإسرائيلية لم تنجُ من الارتباك، فمع دخول يناير/ كانون الثاني 2025، بدأ رأس المال الأجنبي يغادر الأسواق بهدوء، وتقلصت الاستثمارات الأوروبية المباشرة في التكنولوجيا والعقارات بشكل كبير.
وفي 23 مايو/ أيار 2025 نقلت مؤسسة "المجلس الأطلسي" الأميركية عن محللين أنهم لا يخفون قلقهم من تقديرات مرعبة.
وتوقعت أن تصل الخسائر المحتملة للاقتصاد الإسرائيلي خلال العقد المقبل إلى 400 مليار دولار، نصفها تقريبا نتيجة المقاطعة الدولية وتراجع الثقة العالمية في السوق الإسرائيلية.

قطاعات تتأثر
ولم تكن آثار المقاطعة الأوروبية لإسرائيل مجرد حملات رمزية وسياسية، بل سرعان ما ظهرت ارتداداتها على دفاتر الاقتصاد الإسرائيلي، في صورة أرقام واضحة تشير إلى انحدار حاد في مؤشرات الأداء الاقتصادي للدولة.
ففي نهاية عام 2023 بعد شهرين من العدوان، سجل الاقتصاد الإسرائيلي انخفاضا بنسبة 29 بالمئة في حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
وهو ما كان عليه الحال أيضا في عام 2024؛ حيث سجل الانخفاض نفس النسبة، ومن المتوقع أن يستمر الأمر خلال 2025، بحسب تقرير المؤسسة الأممية للتجارة والتنمية (UNCTAD).
هذا المشهد دفع الشركات الأجنبية للخوف من ضخ أموال في دولة تتعرض لانتقادات متزايدة بسبب انتهاكاتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ومع دخول عام 2024، لم يأت الربع الأول بأخبار أفضل لدولة الاحتلال، فقد شهدت مبيعات العقارات الجديدة تراجعا بلغت نسبته 32 بالمئة، وسط عزوف المستثمرين الأجانب، خاصة من أوروبا الغربية، عن شراء شقق في تل أبيب أو مشاريع فاخرة في حيفا.
الحديث عن "مخاطر السمعة" بات عاملا حاضرا في قرارات الاستثمار؛ حتى في أكثر القطاعات التي كانت تعد ملاذا آمنا لرؤوس الأموال.
أما قطاع التكنولوجيا، الذي لطالما افتخرت به إسرائيل كأحد أعمدة تفوقها الاقتصادي، فقد تلقى أيضا ضربة قاسية.
وفي نهاية العام 2024، قال التقرير السنوي الحكومي عن حالة التكنولوجيا في إسرائيل: إن صفقات الاستثمار في الشركات الناشئة والتقنيات المتقدمة شهد انخفاضا بنسبة 42 بالمئة.
وجاء ذلك بعد أن تراجعت صناديق أوروبية كبرى عن دعم شركات مقرها تل أبيب، خشية الغضب الشعبي والمقاطعة القانونية في بلدانها الأصلية.
ولم يكن قطاع السياحة أفضل حالا؛ إذ تراجعت أعداد السياح الدوليين بنسبة 80 بالمئة منذ يناير/كانون الثاني 2024 وحتى نفس الشهر من عام 2025.
كما أصبحت الفنادق في القدس وتل أبيب شبه خاوية، وخسرت قطاعات الضيافة والخدمات المرتبطة بها مصدر دخلها الأكثر أهمية، بحسب ما أوردت وكالة “الأناضول” التركية في 15 مايو 2025.

نزيف المستوطنات
وتُعد الزراعة إحدى أكثر القطاعات تأثرا بالمقاطعة الأوروبية؛ حيث مثلت أوروبا لسنوات سوقا استهلاكيا ثابتا للمنتجات الزراعية الإسرائيلية.
إلا أن موجة الرفض الشعبي أدّت إلى تراجع طلب المتاجر الكبرى مثل سلسلة "ألدي" الألمانية، عن استيراد البطاطا والفواكه من المستوطنات، وسط مخاوف من ردود فعل المستهلكين.
مزارعون إسرائيليون أكدوا لصحيفة "تايمز أوف إسرائيل" في 22 مايو 2025، أن "اسم إسرائيل أصبح عبئا تجاريا، لا يمكن وضعه بسهولة على رفوف المتاجر الأوروبية".
كذلك تعاني المناطق الصناعية الإسرائيلية في الضفة الغربية، مثل منطقة باركان الصناعية، من عزوف متزايد من الشركات الأوروبية عن الاستثمار أو التوريد، نتيجة إدراج هذه الكيانات ضمن لوائح المقاطعة الأخلاقية التي تصدرها بنوك وصناديق تقاعد أوروبية.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2024 قالت منظمة DBIO (لا تسهم في تمويل الاحتلال): إن 822 مؤسسة مالية أوروبية كانت لا تزال مرتبطة بأنشطة اقتصادية في المستوطنات، لكن الضغوط الحقوقية دفعت بعضها للانسحاب أو تجميد التعامل.
وهذه المنظمة هي تحالف يهدف إلى فضح العلاقات بين المؤسسات المالية الأوروبية والمشاريع الاستيطانية الإسرائيلية غير القانونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بنشر تقريرها.
وفي خضم هذا التراجع، جاء تقرير وزارة المالية الإسرائيلية ليكشف عن ارتفاع عجز الميزان التجاري بمقدار 7.3 مليار دولار خلال الربع الأول فقط من العام 2025.
وهو ما ينذر بمزيد من التحديات في قدرة إسرائيل على موازنة وارداتها مقابل صادرات بدأت تفقد زبائنها في أوروبا واحدة تلو الأخرى.
المصادر
- أول بلد أوروبي يحظر التجارة مع المستوطنات الإسرائيلية
- إسبانيا: سندعو أوروبا إلى تعليق اتفاقية الشراكة مع إسرائيل
- يديعوت أحرونوت: مقاطعة البضائع الإسرائيلية تتوسع أوروبيا وتشمل ألمانيا
- بدأت ببيع كولا غزة.. سلسلة متاجر كبيرة في إيطاليا تقاطع منتجات إسرائيل
- Boycott of pro-Israel Products as a Diplomacy Tool in the Nonviolent Movement
- Examining the financial effects of boycotting Israel: Event-study and modern portfolio theory approaches with data from Borsa Istanbul
- Can the EU leverage economic pressure to broker a Gaza cease-fire?
- EU, UK review of trade ties over Gaza war could take bite out of business, exporters fear
- EU review indicates Israel breached human rights in Gaza
- The-State-of-Israeli-High-Tech_Annual-Report-2024
- Israel’s tourism sector incurs $3.4B in record losses since Gaza war