تحركات لملء الفراغ.. كيف تتعامل واشنطن مع أزمة انتخاب رئيس جديد للبنان؟

12

طباعة

مشاركة

تواصل الولايات المتحدة الأميركية حث الطبقة السياسية في لبنان على إنجاز مهمة انتخاب رئيس للبلاد، لتعجيل الانفراج بالأزمة الاقتصادية التي تتعمق شيئا فشيئا مع الشغور الرئاسي المفتوح.

وتنقسم القوى اللبنانية حول الشخصية التي ستدخل قصر بعبدا في بيروت، وتقف بعضها حجر عثرة أمام الانتخاب، فيما تسعى واشنطن إلى تليين المواقف حيال هذه المهمة الصعبة.

ومنذ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2022، فشل البرلمان 12 مرة في انتخاب رئيس على وقع انقسام سياسي يزداد حدة بين حزب الله المدعوم من إيران بالمال والسلاح وخصومه.

ويريد حزب الله زعيما للدولة "مطمئان للمقاومة" بينما يرغب خصومه في رئيس "سيادي وإصلاحي وإنقاذي".

ومن هنا فإنه لا يحظى أي فريق سياسي بأكثرية تمكنه منفردا من إيصال مرشحه إلى المنصب، الأمر الذي فتح الباب أمام لعبة طرح الأسماء المرشحة للرئاسة وحرقها بناء على ما يمتلكه كل طرف من ثقل في التصويت داخل مجلس النواب.

استهداف المعطلين

وفي رسالة وجهها السيناتور جيم ريش وهو أعلى عضو جمهوري في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي، إلى الرئيس جو بايدن، في 3 أغسطس/آب 2023، قال فيها: "ما جرى في الجلسات الأخيرة لانتخاب رئيس لبناني أثبت أن رئيس المجلس النيابي نبيه بري هو مجرد امتداد لحزب الله".

وانتقد السيناتور على وجه التحديد فشل لبنان في انتخاب رئيس واتهم حزب الله بتخزين الأسلحة، وفق ما نقل موقع "المونيتور".

واتهم ريش، رئيس مجلس النواب نبيه بري بتأخير اختيار رئيس جديد، مرحبا بالدعوات الأوروبية الأخيرة لفرض عقوبات عليه وعلى غيره من السياسيين اللبنانيين.

ورأى السياسة الأميركية الحالية تجاه لبنان أنها "دعم للحياة"، قائلا إنها "فشلت في تحقيق نتائج" لأن الحكومة اللبنانية لم تنفذ الإصلاحات بعد.

ودعا ريش الإدارة الأميركية إلى دعم السياسيين اللبنانيين القادرين على البقاء ومواجهة حلفاء إيران في البلاد بقوة أكبر.

وقال السيناتور في رسالته: "يجب أن نلعب دورا أكثر حزما في تشكيل مسار لبنان أو المخاطرة بخسارته بالكامل كدولة عميلة لإيران".

كما كتب النواب داريل عيسى (جمهوري من ولاية كاليفورنيا) ودارين لحود (جمهوري عن إلينوي) وماكس ميلر (جمهوري-أوهايو) خطابا إلى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في 3 أغسطس 2023 يعبرون فيه عن مخاوفهم بشأن سياسة الإدارة في لبنان.

وأعرب عيسى ولحود وميلر أيضا عن أسفهم لفشل لبنان في انتخاب رئيس ودعوا إلى "عقوبات مستهدفة، بما في ذلك تجميد أي أصول مقومة بالدولار، على أولئك الذين أظهروا نمطا لعرقلة عملية الانتخابات الرئاسية، بمن فيهم نبيه بري وآخرين".

وقد أشاد إد جبرائيل، رئيس فريق العمل الأميركي الخاص بلبنان والسفير الأميركي الأسبق، برسالة ريش.

وقال جبرائيل لـ "المونيتور": "واصل القادة السياسيون في لبنان وضع مصالحهم الخاصة على مصالح البلد. يجب على الولايات المتحدة أن تدرس جميع الإجراءات المتاحة ضد أولئك الذين يعرقلون التقدم لخدمة الشعب اللبناني".

لعبة الأسماء

ويصر الثنائي الشيعي "حزب الله – حركة أمل التي يقودها نبيه بري" على ترشيح رئيس "تيار المردة" سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية اللبنانية، وهو ما ترفضه بعض القوى المسيحية.

وكان زعيم حزب الله حسن نصرالله قد صرح في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 أنه يريد من أي رئيس يجرى اختياره أن يكون "غير خاضع للولايات المتحدة" و"مطمئن للمقاومة"، في حين كان نوابه يصوتون بأوراق بيضاء خلال جلسات الانتخاب.

وفي هذا السياق، استبعدت الزميلة في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى حنين غدار، أن تقدم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على معاقبة بري.

 وقالت غدار لـ "المونيتور" بتاريخ 3 أغسطس 2023: "ما زلت أعتقد أنها تهديد وليست محاولة جادة، لكن هذه رسالة إلى بري تقول إذا واصلت اتباع أجندة حزب الله، فستتم معاقبتك".

وفي ​لبنان​ هناك من يوجه أصابع الاتهام إلى رئيس المجلس النيابي بالمسؤولية عن تعطيل انتخاب الرئيس، بسبب عدم مبادرته إلى توجيه دعوات لعقد جلسات انتخابات متتالية.

بالمقابل فإن قائد الجيش اللبناني العماد جوزيف عون أحد الأسماء المطروحة بقوة لرئاسة لبنان، وهو لديه شبكة سياسية واسعة في الولايات المتحدة أدارت محاولة لنقله من الثكنات إلى القصر الرئاسي.

إذ إن الرأي الجماعي بين صانعي السياسة الأميركية هو أن جوزيف عون، هو الحليف الأساسي لواشنطن في السعي لتجنب تداعيات سياسية خطيرة.

فالولايات المتحدة هي المورد الرئيس للمساعدات المقدمة للجيش اللبناني، والتي تعدها الوسيلة الأكثر فعالية لمواجهة حزب الله، وهي أولوية سياسية طويلة الأمد.

ويقال حاليا إن عون على علاقة ودية مع كبار المسؤولين الأميركيين مثل الجنرال مارك ميلي رئيس هيئة الأركان المشتركة، وبريت ماكغورك منسق مجلس الأمن القومي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا في عهد الرئيس بايدن.

وقد كان جوزيف عون الذي أسس علاقاته لأول مرة في واشنطن منذ أكثر من 30 عاما عندما حضر برنامجا تدريبيا في البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية)، دائما الخيار المفضل للولايات المتحدة ليحل محل الرئيس ميشال عون بعد أن انتهت ولايته الرئاسية.

وقد نظم حملة لوضعه في السلطة دعمتها أيضا فرنسا والسعودية وقطر ومصر، لكن في الوقت الحالي، تعثر ترشيحه بسبب معارضة حزب الله الذي يعتقد أن جوزيف عون مقرب جدا من الولايات المتحدة.

وواجهت مساعي العماد عون عقبة كبيرة أخرى تتطلب إجراء تعديل دستوري، حيث يمنع المسؤولون العسكريون من الترشح للرئاسة ما لم يتقاعدوا قبل ستة أشهر على الأقل من الانتخابات.

وعون تنتهي فترة ولايته كقائد للجيش اللبناني في يناير/كانون الثاني 2024، لكن يمكن أن تسقط المهل لأسباب استثنائية كما جرى عام 2008.

وقتها انتخب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيسا للجمهورية دون تعديل دستوري، وإنما باجتهاد من خبير دستوري وافق عليه بري، استغل مادة دستورية بشأن سقوط المهل أثناء الفراغ الرئاسي.

تحذير خماسي

لكن ومع تجنب واشنطن تسمية مرشح بعينه لرئاسة لبنان، سعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وبعض رؤساء الدول الأخرى الصديقة للولايات المتحدة إلى التفاوض على اتفاق لدفع سليمان فرنجية عبر خط النهاية.

لكن واشنطن لم تكن راضية عن هذا الاحتمال، لكون فرنجية صديق الطفولة لرئيس النظام السوري بشار الأسد، وعدو رسمي للولايات المتحدة وشريك رئيس مقرب من حزب الله.

وقد اجتمع ممثلون عن السعودية ومصر والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وقطر في 17 يوليو/تموز 2023 في العاصمة القطرية الدوحة، لمناقشة الضرورة الملحة المتمثلة في انتخاب القادة اللبنانيين رئيسا جديدا للجمهورية بسرعة وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة.

ووقتها نظر الممثلون في الخيارات العملية فيما يخص تطبيق تدابير بحق الذين يعرقلون إحراز أي وجه من أوجه التقدم على صعيد انتخاب رئيس للبنان.

وجاء في البيان المشترك للقاء الدوحة: "لا بد للبرلمان اللبناني أن ينتخب رئيس قادر على تجسيد نزاهة لبنان وتوحيد الشعب اللبناني ووضع مصلحة البلاد أولًا وجعل رفاه الشعب أولوية وتأليف كتلة واسعة تنفع أكبر عدد ممكن بغية تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الجوهرية".

ولا سيما تلك "التي أوصى بها صندوق النقد الدولي من أجل تحقيق طموح الشعب اللبناني وتلبية احتياجاتهم الملحة".

وأورد البيان: "تستعد البلدان الخمسة للعمل مع لبنان من أجل دعم تنفيذ تدابير الإصلاحات هذه اللازمة لتحقيق الازدهار والاستقرار والأمن في البلاد".

محاولة جديدة

وسبق أن قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية ماثيو ميلر إن "الولايات المتحدة تدعو القيادات السياسية في لبنان للتحرك بشكل عاجل لانتخاب رئيس لتوحيد البلاد وإقرار الإصلاحات المطلوبة على وجه السرعة لإنقاذ الاقتصاد من أزمته".

وأضاف ميلر في بيان بتاريخ 2 مايو/أيار 2023: "على قادة لبنان عدم وضع مصالحهم وطموحاتهم الشخصية فوق مصالح بلدهم وشعبهم".

وأعرب عن "اعتقاد الولايات المتحدة بأن لبنان يحتاج إلى رئيس متحرر من الفساد وقادر على توحيد البلاد (...) وتنفيذ إصلاحات اقتصادية أساسية على رأسها تلك المطلوبة لتأمين اتفاق على برنامج مع صندوق النقد الدولي".

وحينها قالت أوساط سياسية إن البيان المذكور حسب ما نقلت صحيفة "الشرق الأوسط"، "حافظ على لغة الغموض بالنسبة إلى الموقف الأميركي، في ظل عدم امتلاك واشنطن أدوات ضغط كافية لتعديل ميزان الغلبة، في مواجهة هيمنة حزب الله ومحوره على المشهد اللبناني".

وأشارت إلى "أن ملف لبنان لا يزال يحتل مرتبة متدنية في أولويات واشنطن، الأمر الذي أكدت عليه أوساط بعض الوفود اللبنانية التي زارت واشنطن أخيرا".

لكن رغم ذلك فإن مسؤولي الولايات المتحدة يجرون جولات عدة من الاتصالات مع اللبنانيين بشأن استكمال الانتخابات الرئاسية، إذ تظهر واشنطن في العلن أنها تريد تمرير الاستحقاق الرئاسي وأنها لا تفرض مرشحا رئاسيا بعينه.

ولا سيما أن إدارة الرئيس بايدن ربطت المساعدات إلى لبنان بالإصلاحات وهذا ما لا يحصل إلا بانتخاب رئيس جديد ومن ثم تسمية حكومة جديدة كاملة الصلاحيات.

وبحسب مراقبين فإن دعم واشنطن لوصول إحدى الشخصيات إلى سدة الرئاسة يتقاطع مع المبادرات الفرنسية والسعودية المؤثرة في المشهد السياسي اللبناني لحسم الموقف من الانتخابات.

فهناك من يرى أن الولايات المتحدة جددت التفويض لفرنسا لاستمرار جهودها لحل الأزمة اللبنانية، وهذا ما اتضح من خلال تعيين ماكرون لوزير الخارجية الفرنسي السابق، جون إيف لودريان، موفدا خاصا إلى لبنان في 8 مايو 2023 في محاولة جديدة لإنهاء الأزمة السياسية في البلد العربي.

إذ التقى لودريان للمرة الثانية في بيروت بالفرقاء السياسيين في 27 يوليو 2023، وقد "اقترح على كافة الأطراف الفاعلة في عملية انتخاب رئيس للجمهورية دعوتهم في سبتمبر (أيلول) 2023 لعقد لقاء في لبنان هدفه التوصل إلى توافق على القضايا والمشاريع ذات الأولوية التي ينبغي على الرئيس المقبل أن يتولاها".

ويقدم لودريان بذلك رؤية جديدة للحل تعتمد التوافق على برنامج عمل الرئيس قبل انتخابه على وقع الانقسامات السياسية الحادة بين الأطراف اللبنانيين.

وأوضحت الخارجية الفرنسية أن طرح لودريان "يحظى بدعم شركاء وأصدقاء لبنان الذين التقوا في الدوحة"، كما أنه لقي "انفتاحا" من الأطراف اللبنانية.

اهتمام أميركي

وأمام الاستعصاء في انتخاب رئيس للبنان، ينظر إلى الولايات المتحدة على أنها اللاعب الأكبر والخفي بذات الوقت في عملية الانتخاب نظرا لمصالح واشنطن طويلة الأمد في هذا البلد.

وتجلى ذلك في عرقلة واشنطن تقديم صندوق النقد الدولي المزيد من المساعدات إلى لبنان في غياب إصلاحات الحوكمة ومكافحة الفساد.

إذ لم يجر تسليم بيروت خطة إنقاذ من الصندوق بقيمة 3 مليارات دولار عام 2022 بسبب الافتقار إلى الإصلاح.

وما تزال الولايات المتحدة تلعب دورا مركزيا في الشؤون السياسية اللبنانية منذ عام 1958، عندما أرسل الرئيس وقتها دوايت أيزنهاور قوة من مشاة البحرية لإبقاء الزعيم الموالي للغرب كميل شمعون في السلطة.

وبدأت واشنطن لاحقا في تقديم دعم كبير للجيش اللبناني على أمل بناء قوة قتالية محلية موالية لها.

وفي عام 2005 كثفت واشنطن جهودها لدعم الجيش اللبناني عندما انسحبت القوات السورية من لبنان بعد 29 عاما من الوجود فيه.

وأرسلت الولايات المتحدة نحو 2.5 مليار دولار مساعدات عسكرية إلى لبنان منذ ذلك الحين.

يشمل ذلك مدفوعات منتظمة لدعم ضباط وجنود القوات المسلحة اللبنانية منذ أربع سنوات بعد أن انخفضت رواتبهم خلال المراحل الأولى من الانهيار الاقتصادي للبلاد.

كما أن بناء مجمع عملاق جديد للسفارة الأميركية في بيروت والذي يجرى تنفيذه الآن، سيسمح لواشنطن بتوسيع وجودها محليا وفي المحيط الإقليمي الأوسع.

وأيضا لعبت وكالة الاستخبارات المركزية بشكل وثيق مع نظيرتها اللبنانية لسنوات، واتسع نطاق تبادل المعلومات الاستخباراتية كشرط لاستمرار تعهد الولايات المتحدة بدفع رواتب العسكريين.

في المقابل، طُلب من مكتب الاستخبارات العسكرية B2، التابع للجيش اللبناني، منح نظيرتها الأميركية (DIA) حق الوصول إلى ملفاتها، بحسب ما نشرت مجلة "إنتلجنس أونلاين" الفرنسية المعنية بالشؤون الاستخباراتية، خلال تقرير لها في 29 مايو 2023.