"اسألوا السياسيين".. الإندبندنت: رياض سلامة بات رمز دولة لبنان المتهالكة
في 30 مايو/ أيار 2023، استجوب القضاء اللبناني حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، بناء على مذكرة توقيف صادرة بحقه في ميونيخ بجرائم عدة بينها تبييض أموال واختلاس.
وفي 16 مايو، أصدر القضاء الفرنسي مذكرة توقيف دولية أخرى بحق سلامة، بعد تغيبه عن المثول أمام المحكمة، وعلى إثر ذلك أصدر القضاء اللبناني قرارا بمنع سلامة من السفر.
وأنهت ثلاثة وفود قضائية أوروبية في 5 مايو، الاستماع إلى مصرفيين لبنانيين، على رأسهم حاكم البنك المركزي ضمن تحقيقات في قضايا فساد.
وفي 23 فبراير/شباط 2023، اتهم القضاء اللبناني سلامة "بارتكاب جرائم بينها اختلاس أموال عامة وغسل أموال".
وتحقق دول أوروبية عدة في ثروة سلامة، ويشتبه المحققون في أنه راكم أصولا عقارية ومصرفية عبر مخطط مالي معقّد، فضلا عن إساءة استخدامه أموالا عامة لبنانية على نطاق واسع خلال توليه حاكمية مصرف لبنان منذ أكثر من ثلاثة عقود.
وفي هذا الإطار، أكدت صحيفة "الإندبندنت" البريطانية في نسختها التركية، أن سلامة بات رمزا لدولة لبنان المتهالكة ونموذجا للأزمة الأخلاقية التي تنهش في جسد البلاد منذ سنوات.
رمز للفساد
وقالت الصحيفة إنه لأكثر من 20 عاما، لم يكن السياسيون والاقتصاديون اللبنانيون وحدهم من يراقبون محافظ البنك المركزي اللبناني رياض سلامة فحسب، بل المسؤولون الماليون الدوليون والسياسيون في الاقتصادات الكبرى أيضا.
حيث أدار الرئيس اللبناني السابق ميشال عون وصهره جبران باسيل ظُهورَهم له.
وفي الوقت الذي لم يتمكن عون فيه من استدراج السياسيين اللبنانيين إلى جانبه لإقالة محافظ البنك المركزي، تقدم سلامة بطلب لتمديد ولايته لفترة ولاية خامسة أو سادسة في النظام.
لذلك، تم تفويض القاضية غادة عون، التي عينها ميشال رئيسا للادعاء العام في جبل لبنان، في هذا الصدد.
وبدأت غادة بمواجهة بعض مديري البنوك الذين لم يكن جبران باسيل على علاقة جيدة معهم.
وكانت التهَم الموجهة إليهم هي تهريب أموال للخارج بعد الانهيار المالي، ومصادرة أموال المودعين بقرار مشترك بين محافظ البنك وسياسيين آخرين وأصحاب البنوك.
وبعد عام 2010، زادت الديون التي أخذتها الحكومات المتعاقبة من البنك المركزي اللبناني لإنفاقها على إدارة شؤون الدولة.
ولكي يلبي محافظ البنك المركزي احتياجات النظام والسياسيين، قام برفع أسعار الفائدة بالاتفاق مع البنوك.
وبذلك توافد اللبنانيون إلى البنك المركزي من أجل سحب ما أمكن من المال ولو كان قليلا. وبناء على ذلك بدأ البنك المركزي في إقراض الدولة وزيادة ديونها.
وبسبب عدم التوازن في ميزانية السداد، لم تتمكن الحكومات المتعاقبة في لبنان من سداد الديون أو تسويتها.
ذلك لأن الزيادة في الإنفاق الحكومي كانت كبيرة، حيث استفاد منها أصحاب النفوذ وأصحاب البنوك والمشاريع الكبرى وحدهم بحيث لم تتمكن دولة لبنان من الاستفادة منها.
ويكفي القول إن وزارة الطاقة كانت مدينة بحوالي عشرة مليارات دولار عام 2010، ليصل مقدار دينها إلى أربعين مليار دولار عام 2020!
وينطبق الأمر على الوزارات والمؤسسات الأخرى. فعندما يتعرض التوازن الظاهر للتهديد، يقوم محافظ البنك بما يسمى بإعادة الهيكلة على الورق، وسيظل يقوم بذلك حتى انهيار الاقتصاد وإغلاق البنوك للودائع.
لا أحد يعرف مصير الودائع حتى اليوم. ولا أحد يعرف ما إذا كانت لا تزال موجودة أم أنها تبخرت مثل الأمور الأخرى في لبنان.
في الدول الأخرى عندما يصبح النقد على شفا الانهيار في فترات الأزمات الاقتصادية تتخذ الحكومات على الفور مسار دعم البنوك من خلال أخذ الضمانات أو الإقراض، أو كليهما في نفس الوقت.
وذلك كما فعلت بعض البنوك في الولايات المتحدة وسويسرا في أزمة عامي 2008-2009.
إلا أن هذا الحل لم يكن ممكنا أبدا في لبنان لأن إفلاس الحكومة كان واسع النطاق. حيث يتم تهريب الأموال إلى الخارج بسرية كما يحدث دائماً في أوقات الأزمات.
وهذا هو ملخَّص لما حدث بين عامي 2018 و2021.
من الملام؟
وهكذا، وبعد أن تتبعت غادة عون مكاتب التهريب والبنوك، ورُفعت الحصانة عن سلامة، تم اتهام محافظ البنك بـ"تهريب الأموال إلى الخارج بمساعدة إخوته ومساعديه عبر البنك المركزي أو الأفراد لاجئا إلى الأساليب الاحتيالية. ومساعدة السياسيين وأصحاب الأعمال التجارية الكبرى أيضا في تهريب أموالهم".
وفي البداية، لم يأخذ السياسيون اللبنانيون الموضوع على محمل الجد ودافعوا عن سلامة البنك ضد مزاعم غادة عون.
ثم ازداد الأمر صعوبة بالنسبة لهم عندما بدأت السلطات القضائية الفرنسية والألمانية والسويسرية في الاستماع إلى الادعاءات ضد سلامة في بلدانهم وبنوكهم. حتى بات الدفاع عنه مستحيلا.
وكنتيجة للتحقيقات، تبين أن لهذا الرجل ثروة كبيرة وعقارات تراكمت تدريجيا على مر السنين، رغم أن معظمها لم يكن باسمه، وإنما باسم أخيه ومساعديه.
وأكدت الصحيفة أن الضعف في النظام اللبناني ناجم عن عدم إنفاذ القوانين في مختلف المجالات، رغم كونها صارمة.
لهذا السبب يميل الكثير لتحقيق أرباح سريعة بعدة طرق.
والبنوك هي مصارف تجارية وخاصة، حيث يُفترض أن تكون الأموال والقروض لمصالح السوق اللبناني.
ولأكثر من عقد من الزمان، كانت معظم القروض تُمنح فعليا للبنك المركزي.
كما أنه ووفقا لقانون النقد والديون، يملك البنك الحق في عدم إقراض الحكومة إذا لم يكن هناك أمل في السداد خلال المواعيد النهائية المحددة.
ومع ذلك، فإن محافظ البنك قد خدم السياسيين بشكل جيد من خلال التجرؤ على أموال البنك على أساس تسهيل سلوك الدولة ومؤسساتها.
وهكذا اهتزت مصداقية البنوك أمام أصحاب الودائع، وفشل محافظ البنك في أداء واجبه في تطبيق القانون لحماية أموال الناس.
"اسألوا السياسيين!"
وبالطبع، فإن هذين الشيئين كانا السبب الجذري للانهيار الذي حدث وتفاقم. لكن لم يكن هذا هو السبب الوحيد.
لأن الانهيار الاقتصادي لديه وجوه وأسباب أخرى تتعلق بالسياسة العامة الداخلية والخارجية للدولة. حيث قال رياض سلامة بعد مساءلته ولأول مرة: "اسألوا السياسيين!" .
إذا ما السبب في ضعف محافظ البنك المركزي في معركته مع الحكومات والسياسيين؟
السبب الأول هو أن التفويض يتم تمديده من قبل السياسيين. والثاني أنه يطمع في منصب رئاسة الجمهورية سياسيا منذ التسعينيات.
وبالطبع، فمن سيساعد سلامة في الوصول إلى هذا المنصب هم السياسيون في البرلمان.
وقد سبق وذكر رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري في تصريح له؛ أنه عيّن اقتصاديا ليست لديه أية طموحات سياسية في هذا المنصب، قاصداً بذلك رياض سلامة محافظا للبنك المركزي.
غير أنه بدأ في سنواته الأخيرة يشكو من الطموحات السياسية لسلامة، الذي لم يعد بحاجة إلى دعمه في توسيع نفوذه بسبب علاقاته المتنامية مع السياسيين في البرلمان، بالإضافة إلى علاقاته مع السوريين الذين كان جيشهم في لبنان حتى عام 2005.
وذكرت الصحيفة بمقولة الاقتصادي البريطاني جون م. كينز الذي يدعو إلى الانضباط المالي الصارم ومؤسس النظام الكينزي: "الرأسمالية ليست جميلة ولا ذكية ولا حكيمة. وأكبر دليل على ذلك أنه يحفر قبر نفسه بجشعه للربح! "
وأضافت: هناك رأسمالية في لبنان. لكن لم يعد من الممكن تسميته نظاما بسبب إصراره على تجاوز جميع القوانين، بل وأصبح نموذجا للفساد وبعيدا عن الحكمة أو حتى المعقولية. حيث يصل الفساد إلى "مركز النظام"..
وختمت قائلة: موقف سلامة هو جزء من مشاكل لبنان الذي وصل إلى حالة تَفَشَّت فيها الأمور غير الشرعية وغير المنظمة داخل هيكلها، ووصل إلى حدود أزمة أخلاقية تتجاوز حالة الدولة المفلسة.