فورين بوليسي: هذا دليل ترامب لتدمير السياسة الخارجية للولايات المتحدة

“إذا أردت تدمير دولة فتأكد أولا أن أحدا لا يستطيع إيقافك عن اتخاذ قرارات حمقاء"
وجه المنظّر الأميركي في العلاقات الدولية، ستيفن والت، انتقادات لاذعة إلى أداء الرئيس، دونالد ترامب، في السياسة الخارجية بعد نحو 3 أشهر على عودته للبيت الأبيض.
وفي مقال نشرته مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، جمع والت انتقاداته تحت عنوان: "كيف تخرّب بلدا.. إليك دليل ترامب خطوة بخطوة لتدمير السياسة الخارجية" للولايات المتحدة.
وقال والت -وهو أحد أعلام المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية-: "إذا كنتَ قارئا منتظما لهذا العمود، فأنتَ تعلم أنني كثيرا ما أنتقد سياسات الولايات المتحدة على الساحة العالمية".
وفصّل: "كنتُ أعتقد أن رئاسة جورج بوش الابن كارثية في السياسة الخارجية، وأن سنوات باراك أوباما الثماني مخيبة للآمال، وأن ولاية ترامب الأولى فوضى عارمة، وأن سنوات جو بايدن الأربع شابتها هفوات إستراتيجية وأخلاقية مُدمرة".
واستدرك: "لكن للأسف، لم يستغرق ترامب ومساعدوه سوى أقل من ثلاثة أشهر ليتفوقوا عليهم جميعا في تخريبهم للسياسة الخارجية، وكان هذا سيظل صحيحا، حتى لو لم تظهر فضيحة سيغنال جيت".
ويشير "والت" هنا إلى حادثة تسريب محادثة سرية على تطبيق "سيغنال" بين مسؤولين رفيعي المستوى في إدارة ترامب، حول توجيه ضربات عسكرية للحوثيين؛ حيث أُضيف بالخطأ رئيس تحرير مجلة "ذي أتلانتيك" إلى المجموعة.
وقال: "للتوضيح، لا أعتقد أن ترامب يتصرف نيابة عن قوة أجنبية، أو أنه يسعى عمدا إلى إضعاف أمن الولايات المتحدة وازدهارها؛ لكنه يتصرف وكأنه يهدف لهذا، كما لو أنه يتبع الدليل المختصر لتخريب السياسة الخارجية الأميركية في خمس خطوات فقط".
التعيينات والصراعات
وتابع والت: “إذا أردت أن تدمر دولة، فتأكد أولا من أن أحدا لا يستطيع إيقافك عن اتخاذ قرارات حمقاء وكارثية”.
لذلك، "أحط نفسك بغير الأكْفَاء، أو الموالين على عمًى، أو المعتمدين كليا عليك، أو أولئك الذين يفتقرون إلى الشجاعة والمبادئ، وتخلص من أي شخص قد يكون مستقلا، أو مبادئيا، أو بارعا في عمله".
وكما لاحظ الكاتب الأميركي والتر ليبمان، بحكمة: "حين يفكر الجميع بالطريقة نفسها، لا أحد يفكر فعليا"، وتلك هي التربة المثالية التي ينمو فيها الجنون السياسي بلا رادع.
وقال والت: إن "السياسة الدولية تنافسية بطبيعتها، وهذا هو السبب في أن وضعك يكون أفضل إذا كان لديك الكثير من الحلفاء والقليل من الأعداء".
"وبالتالي، فإن السياسة الخارجية الناجحة هي تلك التي تعظّم الدعم الذي تحصل عليه من الآخرين، وتقلل عدد الخصوم".
واستطرد: "بفضل جغرافيتها المواتية للغاية، كانت الولايات المتحدة ناجحة جدا في الحصول على دعم من حلفاء مؤثرين في أجزاء أخرى من العالم، وكانت أكثر نجاحا في هذا الأمر بالأخص من معظم خصومها".
"أحد العناصر الرئيسة لهذا النجاح كان إحجامها عن التصرف بطريقة عدوانية أو استفزازية، حتى في الوقت الذي تمارس فيه نفوذا هائلا".
في المقابل، تبنت ألمانيا القيصرية، والاتحاد السوفيتي، والصين الماوية، وليبيا، وعراق صدام حسين سياسات تهديدية وعدائية، مما شجع جيرانهم وآخرين على التحالف ضدهم، وفق قوله.
وأضاف: "على الرغم من أن القوى الكبرى تمارس الضغط أحيانا، فإن الذكية منها تغلف قبضتها الحديدية بقفاز مخملي، كي لا تثير معارضة لا لزوم لها".
وتساءل والت: "ماذا يفعل ترامب بدلا من ذلك؟ في أقل من ثلاثة أشهر، أهانت إدارته حلفاءنا الأوروبيين مرارا وتكرارا؛ حيث هددت بالاستيلاء على أراضٍ تابعة لإحدى هذه الدول (الدنمارك)؛ واختارت معارك لا داعي لها مع كولومبيا والمكسيك وكندا والعديد من البلدان الأخرى".
"كذلك، تعرض الرئيس ترامب ونائبه (جي دي فانس) للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي علنا في المكتب البيضاوي، وكأنهم زعماء مافيا، محاولين إكراه أوكرانيا على التنازل عن حقوق المعادن مقابل استمرار المساعدات الأميركية".

علاوة على ذلك، وسط ضجة كبيرة، فككت إدارة ترامب الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، وانسحبت من منظمة الصحة العالمية، وأوضحت بجلاء أن حكومة أكبر اقتصاد في العالم لم تعد مهتمة بمساعدة المجتمعات الأقل حظا.
وتساءل المنظّر الأميركي مستنكرا: هل هناك طريقة أفضل لجعل الصين تتفوق على الولايات المتحدة عند مقارنتهما؟
وأخيرا، تجاهل ترامب بخفة تحذيرات متكررة من خبراء الاقتصاد من مختلف التوجهات السياسية، وفرض مجموعة من التعريفات الجمركية الغريبة على قائمة طويلة من الحلفاء والخصوم.
وجاء حكم "وول ستريت" فوريا على هذا القرار الجاهل، وتمثل في أكبر هبوط في السوق المالي الأميركي خلال يومين في التاريخ، وارتفعت التوقعات بحدوث ركود، وفق قوله.
وأردف: "لم يكن هذا القرار المتهور ردا على حالة طارئة ولا كان مفروضا على البلاد من قِبل آخرين؛ بل كان جرحا ذاتيا سيزيد من فقر ملايين الأميركيين، حتى لو لم يمتلكوا سهما واحدا".
وأكد أن "بدء حرب تجارية مع حلفائنا الآسيويين يتعارض مع الرغبة المعلنة للإدارة الأميركية في منافسة الصين".
انتهاك الاتفاقيات
وقال والت: "عندما يمعن ترامب في مهاجمة قادة الدول الأخرى، وتهديده بأخذ أراضيهم، أو حتى التحدث عن دمجها، فإنه يثير الكثير من الاستياء القومي، وسرعان ما يكتشف السياسيون في هذه الدول أن الوقوف في وجهه سيزيد شعبيتهم داخل بلادهم".
وأشار إلى أن "محاولات ترامب المتهورة لإهانة كندا قد أغضبت الكنديين وأعادت إحياء الحزب الليبرالي؛ حيث استخدم رئيس الوزراء السابق جاستن ترودو، وخلفه مارك كارني، ورقة القومية بفاعلية".
إحدى النتائج الفورية هو أن عدد الكنديين الذين يرغبون في زيارة الولايات المتحدة قد انخفض، وهو أمر غير جيد لقطاع السياحة الأميركي، كما تسعى الحكومة الكندية إلى إبرام اتفاقيات اقتصادية وأمنية جديدة مع آخرين.

وأضاف ساخرا: "يتطلب الأمر درجة استثنائية من انعدام الكفاءة الدبلوماسية لتحويل جارة صديقة مثل كندا ضدنا، لكن ترامب كان على قدر المهمة".
وقال والت: "يدرك القادة الحكماء في الدول القوية أن الأعراف والقواعد والمؤسسات يمكن أن تكون أدوات فعّالة لإدارة العلاقات فيما بينها وللسيطرة على الدول الأضعف".
وأضاف: "قد تعيد القوى العظمى صياغة القواعد أو تتحداها عند الضرورة، لكن فعل ذلك بشكل متكرر أو متقلب سيجبر الآخرين على البحث عن شركاء أكثر موثوقية".
وأشار إلى أن "الدول التي تشتهر بانتهاكها المتكرر للقواعد -مثل كوريا الشمالية أو عراق صدام حسين- ستعد دولا خطرة، ومن المرجح أن تُنبذ أو تُحتوى".
لكن لا يفهم ترامب وأتباعه أيا من هذا -وفق الكاتب- بل يعتقدون أن المؤسسات والأعراف الدولية مجرد قيود مُزعجة على قوة الولايات المتحدة، وأن التصرف بشكل غير متوقع يُبقي الدول الأخرى في حالة من الارتباك ويعزز النفوذ الأميركي.
وقال: "إنهم لا يُدركون أن المؤسسات التي تُشكل العلاقات بين الدول وُضعت في الغالب مع مراعاة المصالح الأميركية، وأن هذه الترتيبات عادةً ما تُعزز قدرة واشنطن على إدارة الآخرين".
وحذر والت من أن "انتهاك القواعد أو الانسحاب من المنظمات الدولية الرئيسة يُسهّل على الدول الأخرى إعادة صياغة القواعد بما يخدم مصالحها".
"علاوة على ذلك، فإن التصرف بشكل غير متوقع يضر بالأعمال التجارية، فالشركات لا تستطيع اتخاذ قرارات استثمارية ذكية إذا كانت سياسة الولايات المتحدة تتغير بين عشية وضحاها، كما أن الاشتهار بأنك غير موثوق يثني الدول الأخرى عن التعاون معك في المستقبل".
وتساءل والت: لماذا ستعدّل أي دولة عاقلة سلوكها بناءً على وعد قدمه ترامب لها، بينما يُظهِر مرارا أن وعوده لا تعني الكثير؟
تقويض أسس القوة
وأوضح المنظّر الأميركي أنه "في عالمنا الحديث، تعتمد القوة الاقتصادية والقدرة العسكرية ورفاهية الشعب في المقام الأول على المعرفة، ذلك أن التفوق العلمي والتكنولوجي لأميركا هو السبب الرئيس لكونها أقوى اقتصاد في العالم لعقود، وسبب قوة جيشها الهائلة".
ونوه إلى أن “الحاجة إلى مؤسسة بحثية قوية هي سبب ضخ الصين تريليونات الدولارات في هذا القطاع، وتأسيسها عددا متزايدا من الجامعات والمؤسسات البحثية المرموقة عالميا”.
لذا، فإن "أي رئيس يطمح لعظمة الولايات المتحدة، سيبذل قصارى جهده لإبقائها في طليعة التقدم العلمي والابتكار".
واستدرك: "لكن ماذا يفعل ترامب في المقابل فضلا عن تعيين أشخاص جاهلين بالعلوم في المناصب الحكومية المهمة؟ وأنا أتحدث عن روبرت كينيدي جونيور (وزير الصحة الذي يشكك في جدوى اللقاحات).
وأردف الكاتب: "أعلن ترامب حربا مفتوحة على المؤسسات التي غذّت الإبداع المعرفي والتقدم العلمي في الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، ليس فقط القرار بمهاجمة جامعات كولومبيا أو هارفارد أو برينستون أو براون بناءً على أسس متهاوية".
بل أيضا أغلقت الإدارة "معهد الولايات المتحدة للسلام"، وحلّت "مركز وودرو ويلسون الدولي للعلماء" وطهّرت وزارة الصحة، ودمرت "مؤسسة العلوم الوطنية"، وهددت بحجب مليارات الدولارات من أموال البحث الطبي.
وتابع: "والنتيجة؟ إغلاق برامج البحث العلمي وتقليص برامج الدكتوراة، مما يعني أن البلد سيكون لديه عدد أقل من الباحثين المؤهلين في المجالات الرئيسة في المستقبل".
واستطرد: "سيبحث العلماء الأجانب عن متعاونين آخرين، وستتعرض قدرة أميركا على جذب أفضل العقول للدراسة والعمل هنا للخطر".
وقال: "في الواقع، من المحتمل أن يهاجر بعض العلماء الأميركيين إلى دول تدعم أعمالهم وتحترمهم، وبذلك يضع ترامب أحد أعمدة القوة الأميركية، وهيبتها، ونفوذها تحت المطرقة".
وقال: "ليست العلوم الطبيعية أو الطبية وحدها ما يجب الحفاظ عليه، فاستهداف علماء الاجتماع، والعلوم الإنسانية، أمر خطير أيضا؛ لأن هذه المجالات هي التي تطرح لمجتمعنا أفكارا جديدة لمعالجة المشكلات الاجتماعية".

"وهي أيضا المكان الذي تُفحص فيه الأفكار والمقترحات السياسية الجديدة، وتُنتقد، وتُدحض، أو تُعدّل".
وأكد والت أن "الدولة التي تطمح إلى العظمة تسعى إلى أن يبحث باحثوها من جميع ألوان الطيف السياسي في السياسات الاقتصادية القائمة، والممارسات السياسية، والظروف الاجتماعية، ليتسنى للمواطنين وقادتهم تحديد ما هو ناجح وما ليس كذلك، واقتراح بدائل وتقييمها".
وشدد على أنه "عندما يُسكِت السياسيون الأصوات المعارضة من مختلف الأطياف أو يُهمّشونها، تزداد احتمالية تبني سياسات حمقاء، ويقلّ احتمال تصحيحها عند فشلها".
"وهذا هو السبب في أن الطغاة دائما ما يستهدفون الجامعات ومصادر المعرفة المستقلة الأخرى عندما يحاولون توطيد سلطتهم، حتى لو أدى ذلك حتما إلى زيادة غباء البلاد وفقرها".
وقال والت: "باختصار، ينتهك نظام ترامب معظم ما نعرفه عن كيفية اتخاذ القرارات، وكثيرا مما نعرفه عن السياسة العالمية، فهو يرحب بتفكير القطيع، ويُفضّل الطاعة العمياء على النقاش السياسي الصادق".
كما أنه "يتجاهل الميل الطبيعي للدول إلى موازنة القوى في مواجهة التهديدات، ويُخاطر بتنفير حلفائها الحاليين أو حتى تحويل بعضهم إلى خصوم، ويتجاهل القوة الراسخة للمشاعر القومية".
كذلك فإنه “يرفض ما يُعلّمه لنا التاريخ والمبادئ الأولية للاقتصاد عن الأثر المدمر للحمائية الاقتصادية".
وبدلا من أن تجعل أميركا عظيمة مجددا، ستجعل هذه الأخطاء أميركا أفقر، وأقل قوة واحتراما ونفوذا حول العالم”، وهكذا، سيداتي وسادتي، يمكنك تدمير السياسة الخارجية لأي دولة، وفق تقديره.