"سيناريو لبنان".. كيف أسهمت سياسات الرئيس التونسي في أزمة معيشية خانقة؟

طارق الشال | 2 years ago

12

طباعة

مشاركة

وسط أزمات اقتصادية تعاني منها تونس، مازال قطار التضخم يسير مسرعا دون السيطرة عليه متخطيا 10 بالمئة، ليفاقم من تلك الأزمات التي تنعكس سلبا على المستوى الاجتماعي للأفراد والأسر.

وتسارع نمو تضخم أسعار المستهلك في تونس إلى 10.1 بالمئة على أساس سنوي، خلال ديسمبر/ كانون الأول 2022، صعودا من 9.8 بالمئة في نوفمبر/ تشرين الثاني السابق له.

وحذر محافظ البنك المركزي التونسي، مروان العباسي، في 4 يناير/ كانون الثاني 2023، من أن بلاده "قد لا تستطيع السيطرة على معدلات التضخم إذا لم يتم اتخاذ إجراءات"، مدافعا عن قراره برفع سعر الفائدة الرئيس بمقدار 75 نقطة أساس نهاية عام 2022.

وأشار العباسي إلى أنه من المتوقع أن يبلغ معدل التضخم 11 بالمئة في المتوسط عام 2023 ارتفاعا من 8.3 بالمئة في 2022.

مستوى قياسي

ويصاحب هذا الصعود التضخمي غير المسبوق -حيث يعد الأعلى في تونس منذ تسعينيات القرن الماضي- شح في المواد الأساسية مما يرهق المواطنين، فيما حددت أغلب المتاجر لزبائنها كمية الشراء لبعض المنتجات، على غرار الحليب والزيت والدقيق والبيض والقهوة والزبدة.

وعادة ترجع السلطات ندرة هذه المواد إلى "احتكار" كبار التجار لهذه المنتجات، ولجأ الرئيس سعيّد إلى إقالة وزير التجارة فضيلة الرابحي في 13 يناير 2023، لكن سهام الانتقاد توجه للرئيس التونسي جراء الأوضاع الاقتصادية المتأزمة.

وبحسب المختصة في الشأن الاقتصادي، جنات بن عبد الله، فإن "ارتفاع التضخم إلى هذا المستوى القياسي يعود للظروف التي يمر بها الاقتصاد التونسي، وهناك عدة عوامل أدت إلى ذلك منها الداخلي والخارجي".

وأوضحت جنات لـ"الاستقلال"، أن "العوامل الخارجية مثل تداعيات جائحة كورونا على الاقتصاد العالمي من تباطؤ للتبادلات التجارية وارتفاع لأسعار الشحن، بجانب آثار الحرب الروسية الأوكرانية على إمدادات العالم من المواد الأساسية والطاقة انعكست محليا".

وأشارت إلى أنه "باعتبار أن تونس بلد مستورد صافٍ للمواد الغذائية الأساسية والطاقة، فقد ترجمت هذه التبعية بارتفاع الأسعار في السوق المحلية، وزادها فوق ذلك انخفاض سعر صرف الدينار أمام الدولار".

وانخفض الدينار التونسي إلى أدنى مستوياته تاريخيا مقابل الدولار، مسجلا خسارة في قيمته بنحو 17.5 بالمئة خلال عام 2022. 

أما فيما يتعلق بالعوامل الداخلية الدافعة لزيادة معدل التضخم، فترى، أن "طبيعة الخيارات والسياسات التي انخرطت فيها تونس بالنظر إلى حاجتها للاقتراض الخارجي".

وتحديدا الاقتراض المشروط من صندوق النقد الدولي الذي يقوم على اتباع الحكومة لسياسة تقشفية تمر عبر تجميد الأجور ورفع الدعم عن المواد الأساسية والطاقة وزيادة الضرائب والتفريط في المؤسسات العمومية حولت الدولة "لتكون مصدرا لارتفاع الأسعار"، تضيف المختصة في الشأن الاقتصادي.

وخلال عام 2022، أعلنت السلطات عن الزيادة في أسعار أسطوانات غاز الطهي 14 بالمئة لأول مرة منذ 12 عاما، بينما زادت أسعار الوقود في خمس مناسبات خلال العام ذاته، بنسبة إجمالية بلغت 3 بالمئة.

وتترقب تونس بحلول عام 2023، وتحديدا الربع الثاني، مرحلة حاسمة وفاصلة في ملف دعم المواد الأساسية والمحروقات بالشروع بصفة رسمية في الرفع التدريجي عن دعم مواد الحليب والسكر والزيت النباتي وزيادة أسعارها، الأمر الذي يزيد معاناة التونسيين.

كما تعتزم الحكومة مواصلة التخفيف من عبء الدعم عام 2024 بتحريك أسعار الخبز، أحد أهم المكونات الغذائية للمواطنين، إضافة إلى مشتقات الحبوب والمعجنات إلى حين بلوغ حقيقة الأسعار العالمية في 2026.

تدمير الاستثمار

وأوضحت الخبيرة الاقتصادية، أن "السياسة النقدية المتبعة منذ عام 2016 من خلال زيادة معدل الفائدة كلما ارتفعت نسبة التضخم من قبل البنك المركزي دمرت كل منظومات الإنتاج".

وأشارت إلى أن تلك الآلية "أدت إلى إفلاس المؤسسات وتدمير الاستثمار في كل القطاعات المنتجة، بسبب ارتفاع كلفة الاستثمار التي تؤثر على كلفة الإنتاج وبالتالي الأسعار عند المستهلكين".

ورأت أن "القول إن التضخم خرج عن السيطرة صحيح، في غياب حكومة وطنية وبنك مركزي وطني يقدمان الاقتصاد الوطني ومصلحة التونسي على شروط صندوق النقد الدولي، بجانب التعويل على الاقتراض الخارجي".

بدوره، يرى أستاذ الاقتصاد بجامعة قرطاج، رضا الشكندالي، أن الضرائب المرتفعة بشكل كبير داخليا انعكست على مستوى الأسعار، فضلا عن اتجاه الدولة للاقتراض الداخلي عبر البنوك، وهذا يؤدي إلى ضخ سيولة إضافية في السوق بدون مقابل نماء للثروة فيحدث كذلك تضخم مالي".

وأضاف الشكندالي، لـ"الاستقلال"، أن "السياسة المعتمدة النقدية والتي أدت إلى ارتفاع الفائدة عدة مرات خلال عام 2022 بواقع 175 نقطة أساس زادت من تكلفة التمويل على مستوى المستثمر".

وتابع: "بالتالي انعكست هذه الكلفة على مستوى الأسعار، بجانب عدم اليقين وعدم استقرار المشهد السياسي الذي لا يشجع المستثمرين على الاستثمار ما أسهم في تراجع الإنتاج محليا".

وتسعى الحكومة إلى زيادة الإيرادات الضريبية 12.5 بالمئة إلى 40 مليار دينار (12.9 مليار دولار) مع زيادة النسبة لبعض الوظائف إلى 19 بالمئة ارتفاعا من 13 بالمئة.

وأوضح الشكندالي، أن "الصراع الروسي الأوكراني أدى أيضا إلى التضخم محليا".

وبين أن "ارتفاع أسعار المحروقات عالميا انعكس محليا، بجانب زيادة أسعار الأسمدة الزراعية التي أدت إلى ارتفاع الكلفة على الفلاحين، ما دفع بعض المزارعين إلى ترك هذا القطاع بعد أن (أفلس تماما) ليتراجع الإنتاج على مستوى المودا الزراعية".

ويسهم القطاع الزراعي بحوالي 10 بالمئة من الناتج الداخلي الخام، كما يمثل نسبة 10 بالمئة في الصادرات التونسية، ويستقطب 8 بالمئة من جملة الاستثمارات في الاقتصاد الوطني، و14 بالمئة من اليد العاملة النشيطة.

تداعيات التضخم

تأتي تلك المعطيات لتزيد من الأعباء الاقتصادية المتفاقمة في البلاد فضلا عن زيادة معدل الفقر الذي يلتهم ثلث سكان تونس ويهدد بتآكل الطبقات المتوسطة.

وتوقع البنك الدولي أن معدل الفقر سيزداد بمقدار 2.2 نقطة مئوية في تونس تأثرا بأسعار السوق العالمية في 2022 ما قد سيؤدي إلى تفاقم التفاوت وعدم المساواة.

وأشارت عبد الله إلى أن "ارتفاع التضخم من أخطر الآفات الاقتصادية، كونه يهدد القدرة الشرائية للمواطن والاستثمار والقطاعات المنتجة"، مشيرة إلى أن "القدرة الشرائية للمواطن تدهورت وتآكلت ليصبح غارقا في معاناة يومية تعمقت بفقدان المواد الغذائية الأساسية وفقدان الأدوية والمحروقات".

وبلغ العجز التجاري أكثر من 25 مليار دينار (8.1 مليار دولار) لعام 2022 بأكمله مقابل 16.2 مليار دينار (5.2 مليار دولار) في 2021، وهو مستوى قياسي لم تسجله البلاد سابقا.

وقال وزير الاقتصاد والتخطيط، سمير سعيّد، خلال ديسمبر 2022، إن "عام 2023 سيكون صعبا جدا على التونسيين".

وأكد في تصريحات صحفي، وجود صعوبات تحول دون استعادة النمو الاقتصادي، متوقعا أن النمو خلال العام ذاته لن يتجاوز 1.8 بالمئة.

من جهته، يرى الشكندالي، أن تداعيات التضخم "تنعكس بشكل واضح على الاقتصاد المحلي"، مشيرا إلى أن "المواطن هو من يتحمل الكلفة في نهاية المطاف".

وقال أستاذ الاقتصاد بجامعة قرطاج: "في الوقت الراهن يجد التونسي صعوبة كبيرة في توفير ما يلزمة من مواد أساسية خاصة مع تجاوز المواد الغذائية الـ20 بالمئة".

في المقابل، توقع صندوق النقد الدولي في بياناته "تباطؤ النمو في تونس على المدى القريب، بينما سيؤدي ارتفاع أسعار السلع الأساسية الدولية، إلى الضغط على التضخم وكذلك على الميزان الخارجي والمالي المحلي".

الحالة اللبنانية

ويتوقع أن تزداد احتياجات البلاد من الاقتراض الخارجي عام 2023 بنسبة 34 بالمئة إلى 16 مليار دينار (5.2 مليارات دولار).

كما تشير التقديرات إلى أن خدمة الدين العام سترتفع بنسبة 44.4 بالمئة إلى 20.7 مليار دينار (6.7 مليار دولار).

وتوصلت تونس، في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 2022، إلى اتفاق مع صندوق النقد يتم من خلاله منح قرض للبلاد بحوالي 1.9 مليار دولار على مدى 4 سنوات، إلا أن هذا الاتفاق يشهد عراقيل حاليا لعدم رضا الصندوق الكامل عن السياسات الاقتصادية التي انتهجتها البلاد في ميزانيتها لعام 2023.

وأشارت عبد الله إلى "أن إصرار الحكومات التونسية المتعاقبة التعويل على الاقتراض الخارجي وخاصة من صندوق النقد الدولي لا يمكن أن يخرج عن أجندة رأس المال العالمي والشركات العالمية التي تريد تحويل البلدان التي تعاني أزمة المديونية وتحولها إلى أسواق لاستهلاك منتوجاتها وخدماتها".

وأوضحت أن "أجندة رأس المال العالمي لا يمكن فصلها عن أجندتها السياسية في منطقتنا العربية والتي تتقاطع مع مشروع صفقة القرن (الأميركية التي أعلن عنها الرئيس السابق دونالد ترامب عام 2022)".

وتابعت: "ومن هذا المنظور يتم استدراج حكومات البلدان العربية التي تتعامل مع صندوق النقد الدولي إلى اتباع سياسات تقشفية غير وطنية مدمرة وسياسية نقدية متشددة للبنك المركزي مدمرة ليتضح السيناريو الذي ينتظر هذه البلدان العربية وشعوبها متمثلا في مزيد من تفقيرها وتجويعها لفتح المسارات أمام التطبيع".

من جانبه، قال الشكندالي، إن "الزيادة في الاقتراض لتمويل نفقات الدولة غير مضمون كونها لم تحصل بعد على القرض من صندوق النقد الدولي"، مؤكدا أن "المؤسسات المانحة لن تقبل إقراض تونس إلا بعد موافقة الصندوق".

وتتصاعد الضغوط على رصيد النقد الأجنبي لدى البنك المركزي مع بداية الربع الأول من عام 2023، وحلول آجال دفع الديون الخارجية في ظل عجز جار للموازنة يقدر بحوالي 12 مليار دينار (3.8 مليار دولار).

وسيدفع استمرار تعثر خطة الاقتراض الخارجي السلطات التونسية إلى استعمال رصيد العملة لتجنب سيناريوهات التخلف عن سداد الديون الخارجية، ما قد يؤدي هبوط الاحتياطي النقدي للبلاد إلى مستوى يتراوح ما بين 40 و50 يوما من الواردات قبل نهاية النصف الأول من 2023، مقابل 96 يوما في الوقت الحالي.

وأوضح الخبير الاقتصادي، أنه عندما لا تُفتح الأبواب على مستوى تعبئة الموارد الخارجية من العملة الصعبة تلجأ الحكومة إلى مزيد من الاقتراض الداخلي، مشيرا إلى أن تلك الآلية ترهق النظام النقدي وتزيد من تفاقم التضخم.

وأوضح الشكندالي أنه "عندما تقرض البنوك مبالغ كبيرة للدولة وتكون الدولة غير قادرة على تسديد تلك القروض فقد ينهار النظام النقدي وتصل البلاد إلى حالة فقدان الثقة في القطاع المصرفي، كالحالة اللبنانية".