المكتبات العربية في تركيا.. "مصالح شخصية" تهدد بهدم جسور التواصل
مثلت تركيا الحاضنة الاجتماعية والسياسية لملايين العرب الذين توافدوا إليها عقب اندلاع ثورات الربيع العربي، والاضطرابات التي حلت بأوطانهم.
وفتحت بلاد الأناضول أبوابها للدراسة لعشرات الآلاف من الباحثين، داخل جامعاتها المتعددة، إضافة إلى هجرات طوعية لمستثمرين وآخرين توجهوا نحو شراء عقارات وأقاموا في البلاد.
وبحسب تقدير الجمعية العربية في إسطنبول، بلغ عدد العرب المقيمين داخل تركيا حتى مارس/ آذار 2022 نحو 5 ملايين.
وبالتالي تلعب المكتبات العربية دورا محوريا في خدمة تلك الجالية، وتعد جسرا للتواصل بين الثقافات، إذ يعتمد عليها العرب والأتراك في آن واحد.
لكن المعضلة أن الأمر دائما لا يسير بالطريقة المثالية، مع حدوث شد وجذب، ما يعكر صفو عمل بعض المؤسسات الثقافية والمكتبات المنتشرة في عموم البلاد.
الشبكة العربية
كانت آخر الإشكاليات ما حدث لمكتبة الشبكة العربية للأبحاث والنشر، في إسطنبول، في 23 ديسمبر/كانون الأول 2022، عندما أعلن مديرها نواف القديمي، عن مصادرة معظم كتبها في الفرع الموجود بمنطقة الفاتح وسط المدينة.
وقال القديمي في منشور له عبر صفحته بموقع "فيسبوك": "كنت خارج إسطنبول، وإذ يتصل بي الشباب العاملون في المكتبة، يبلغوني بقدوم 6 عناصر من الشرطة مع ضابط، ومعهم قرار من النائب العام بمصادرة كتب المكتبة بحجة عدم وجود ما يسمى العلامة المائية أو الستيكر أو البندرول الذي يجب أن يوضع خلف كل كتاب".
وأضاف: "أن هذا القرار تم بناء على ورود شكوى من (أحد ما) في 4 أكتوبر/تشرين الأول 2022، وقد تأكد الضابط من سلامة الرخص والأوراق وأذونات العمل للموظفين والفواتير والتأمينات، ووجد كل شيء سليما وكما يجب".
وذكر أنه "على الرغم من ذلك، جرى خلال 4 ساعات، مصادرة 26700 كتاب من المكتبة، حُملت في 3 حاويات نقل كبيرة، قيمتها تقدر بـ 200 ألف دولار، وغادروا المكان".
واختتم: "أي متجول على أكثر من 15 مكتبة عربية في إسطنبول سيعرف مباشرة أن معظم كتب هذه المكتبات بلا (ستيكر/بندرول) وأنه إجراء شكلي لا يهتم به أحد منهم".
لذلك بعد مصادرة كتب مكتبة الشبكة العربية، أغلقت جميع المكتبات العربية في إسطنبول بسبب رعبها مما جرى، وفق القديمي.
وبعد ساعات من المنشور، وعقب اتصالات مع السلطات التركية، جرى حل المشكلة، وردت الكتب إلى المكتبة مرة أخرى.
وكتب حينها الإعلامي السوري غسان ياسين، قائلا: "يجب على السلطات التركية محاسبة الجهة التي تريد تطفيش المستثمرين العرب لأجل مصالح شخصية".
وذكر: "المكتبة عاودت نشاطها وهذه المرة بزخم أكبر، كل التوفيق والنجاح للأصدقاء في مكتبة الشبكة العربية".
شديدة الأهمية
وبدأت الشبكة العربية للأبحاث والنشر، نشاطها في إسطنبول، بافتتاح مكتبة لها في 23 سبتمبر/أيلول 2017 في منطقة الفاتح التي تضم نسبة عالية من الجالية العربية.
ومكتبة إسطنبول هي الفرع الخامس للشبكة العربية، بعد أول فرع لها سنة 2011 في القاهرة، ثم فرع المغرب منتصف 2013.
وبعد ثلاث سنوات افتتحت فروعا في بيروت والإسكندرية، ويعد فرع تونس هو الفرع السادس للمكتبة.
وتتجاوز فكرة فرع الشبكة العربية للأبحاث والنشر في إسطنبول أنها مجرد مكتبة لعرض الكتب، وتعتمد على فريق عمل من الباحثين والأكاديميين القادرين على مساعدة الطلاب والقراء في العثور على أفضل المراجع.
وتعتمد المكتبة أيضا على نمط المقهى، بحيث يستطيع القارئ أن يستفيد من مساحة المكتبة سواء للدراسة أو للمطالعة بداخلها.
كذلك تستضيف مكتبة الشبكة في إسطنبول محاضرات ثقافية ونقاشات موسعة بين المثقفين العرب، وحفلات توقيع لكتاب ومفكرين عرب، سواء كانوا مقيمين في المدينة، أو أثناء زياراتهم العلمية.
وتحرص الشبكة أيضا على توفير رافد للأدباء والمترجمين المهتمين بترجمة الأدب التركي إلى اللغة العربية والعكس.
مكتبات متعددة
وتعج إسطنبول بعشرات المكتبات العربية، غير الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ونشرت صحيفة "الاستقلال" في 8 مارس/آذار 2019، تقريرا عن تلك المكتبات بعنوان، "المكتبات العربية في إسطنبول.. ملتقى المثقفين وعشاق القراءة".
وذكرت: "تضم مدينة إسطنبول حوالي 20 مكتبة عربية بين شاملة ومتخصصة، تتمركز معظمها في منطقة الفاتح، وهو ما يساعد على الترويج للكتب والمراجع المختلفة التي تعرضها رفوف هذه المكتبات".
ومن أبرزها المكتبة والمقهى الثقافي "كتاب سراي" الذي افتتح عام 2008، ويحرص على توفير مختلف الكتب والمؤلفات في مجالات السياسة والأدب والدين والاقتصاد، مراعاة لوجود الجمهور العربي.
وتحدث التقرير عن مكتبة "توتيل" التي نقلت مقرها من شارع حربية وسط إسطنبول إلى منطقة الفاتح التي تعرف أكبر تجمع عربي بالمدينة.
ونقلت "الاستقلال" على لسان مديرها أن "الإقبال على الكتب أفضل مما كان عليه في السابق، وأن هذا الإقبال يتوزع بين العرب المقيمين، والسياح الذين يبحثون عن الكتب المترجمة أو النادرة أو الممنوعة في بلدانهم، وأن 70 بالمئة من قراء المكتبة هم من الباحثين عن الروايات المترجمة".
ومن المكتبات البارزة في إسطنبول مكتبة "بيجز" في منطقة الفاتح، التي افتتحت عام 2015، وهي مكونة من 4 طوابق في حي "بلاط كاريير" على مقربة من كنيسة كاري (أول كنيسة بيزنطية).
ما يميز هذه المكتبة تحديدا أنها تقع في منطقة بلاط، وهي من الأحياء التاريخية القديمة التي يتوافد عليها مختلف الجنسيات من جميع أنحاء العالم، لذلك توفر المكتبة كتبا باللغة العربية، والتركية، والفرنسية والإنجليزية.
وتهتم بإقامة الندوات والمحاضرات وورش العمل، لجميع الأعمار والاختصاصات كافة.
وتقام فيها معارض فنية للتعريف بالفنانين والأدباء العرب، كما تخصص أياما لعروض الأفلام السينمائية، وفيها جناح خاص لكتب الأطفال .
لا غنى عنها
يقول سالم الراعي، الباحث في جامعة صباح الدين زعيم التركية: "إن المكتبات العربية المنتشرة في إسطنبول لا غنى عنها للعرب الوافدين والمقيمين في المدينة".
فهي من جهة تمثل رافدا ثقافيا لهم، والأهم أنها تقدم خدمات تعليمية أساسية لتلك الفئة التي يقدر عددها حاليا بالملايين، بحسب ما أوضح الراعي لـ"الاستقلال".
وأضاف أن "المكتبات العربية قبلة للباحثين في مختلف الجامعات، وأنا شخصيا اعتمدت على الشبكة العربية للأبحاث والنشر في إعداد رسالة الماجستير، من خلال توفير كتب كنت سأحتاج مبالغ كبيرة، ووقتا ضائعا، وجهدا مضاعفا، للإتيان بها من الخارج".
وعلى النسق نفسه عشرات الآلاف من الباحثين والطلاب العرب، يتعاملون مع المكتبات العربية في تركيا، بحسب رأيه.
وأوضح: "كذلك الأطفال الصغار من الجالية العربية الحريصون على الارتباط بثقافتهم، وعدم ضياع هويتهم، يعتمدون على عشرات المكتبات في الحصول على الكتب والإصدارات الملائمة لهم، وهي ضرورية للغاية بعيدا عن الكتب والمواد الإلكترونية".
وذهب الراعي إلى أبعد من ذلك عندما ذكر اعتماد باحثين أتراك وأكاديميين متخصصين في القضايا العربية والشرق الأوسط، أو علوم اللغة العربية والأدب العربي، على تلك المكتبات في الحصول على الكتب والدراسات المناسبة لهم، أو التواصل مع جهات في البلاد العربية لإحضارها.
وأورد: "لذلك تمثل المكتبات العربية جسرا مهما من جسور التواصل والثقافة بين الحضارات وبين الشعوب، وهي تخدم العرب والأتراك، ولا يجب التعامل معها بعدم اعتناء، أو أن تكون ساحة للتجاذبات والخلافات".
وتسجل هذه المكتبات في تركيا وإسطنبول خصوصا، إقبالا ملحوظا، خاصة من الطلاب والباحثين، عربا أو دارسين باللغة العربية.
وتتحول يوما بعد آخر من وظيفة تلبية احتياج ثقافي ودراسي إلى حلقة تواصل بين عرب تركيا، بالأخص مثقفيهم.