إفلاس وضرائب وانتحار.. كيف أصبحت فرنسا في عهد إيمانويل ماكرون؟

12

طباعة

مشاركة

قالت وكالة الأناضول التركية: إن إيمانويل ماكرون "ربما سجل اسمه في التاريخ كرئيس لأكثر فترة مخيبة للآمال في الجمهورية الخامسة" في فرنسا.

وأضافت الوكالة في مقال للكاتب التركي ياشار ديمير: "مع أنه كان من المتوقع حدوث قفزات جادة، خاصة في الاقتصاد والضمان الاجتماعي والأمن، فقد حدث عكس ذلك، ويعترف الجميع بأن الأوضاع في فرنسا ساءت أكثر من ذي قبل (مع تولي ماكرون)".

يشرح قائلا: في البداية كانت المجموعة التي أُطلق عليها اسم "السترات الصفراء" تمثل صوت المعارضة ضد الأزمة الاقتصادية المتصاعدة، وخفض رواتب المتقاعدين، وتمديد ساعات عملهم، وتكاليف المعيشة والعديد من المشاكل الأخرى، رغم أنها غير منظمة ولا تحظى بالدعم الكافي من أحزاب المعارضة.

وتابع: "اشتعلت الشوارع مرة أخرى، بعد أن ساد اعتقاد بأن الحراك الشعبي، الذي نما في البداية مثل كرة ثلجية تمت التضحية به من أجل زيادة الرواتب بمقدار 100 يورو فقط بعد المفاوضات، فتوقعات كل شريحة من شرائح المجتمع الفرنسي مختلفة والجميع ينتظرون الحل".

ولفت إلى أن "الأجانب غاضبون مع تزايد العنصرية وكراهية الإسلام وخطاب الكراهية، ويعاني المتقاعدون من عدم قدرتهم على الحصول على نتيجة تضحياتهم لسنوات، ويتوقع جميع العمال، بما في ذلك الشرطة، تحسين مستوياتهم المعيشية".

وفي هذه المرحلة، شكلت "السترات الصفراء"، جبهة شعبية، تمثل جميع المطالب، وقد كانت جميع أنشطتهم تتعرض للتخريب بعد الهجمات الإرهابية التي كانت تظهر فجأة لتتأجل مطالب المجتمع بحجة ظهور هذه الهجمات. 

وبسبب وباء كوفيد-19، اضطر المجتمع الفرنسي إلى تعليق مظاهراته الديمقراطية، وفقا للكاتب التركي.

وأضاف: "بينما كانت السلطة تفكر في أن تستخدم الوباء كذريعة لإيقاف الأعمال الاجتماعية، تأججت المظاهرات مرة أخرى. فالمجتمع الفرنسي ليس متجانسا بالطريقة التي يود اليمين المتطرف رؤيتها".

وأوضح أن أيديولوجية "فرنسا تخص الفرنسيين فقط" لا يمكن أن تتجاوز كونها فكرة مدينة فاضلة.

تعميق الفجوة

وبحسب ديمير فإنه وفقا للعلوم السياسية المعاصرة والعالمية، فإن الحكومة تقوم بإعداد مسودات للقوانين التي من شأنها توفير حياة أكثر ازدهارا للناس، ومن ثم يوافق البرلمانيون المسودة أو يرفضون. 

ويعتبر البند الذي تم استخدامه في مسودة قانون "تخطيط تعليم" لحكومة إيمانويل ماكرون بتاريخ 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، دليلا مهما على ما آلت إليه نظرة فرنسا، حيث "سيتم ممارسة الحريات الأكاديمية وفق قيم الجمهورية".

 وهذا يعني باختصار أنه لا يجب على أي أكاديمي إجراء بحوث أو إنتاج أفكار بحرية. ولم يكن من الممكن رؤية هذه التصريحات إلا في فرنسا التي يحكمها نابليون بونابرت أو روبسبير. ولحسن الحظ، تم تعديل نص القانون بسبب رد فعل المجتمع الجامعي، يقول الكاتب.

واستدرك قائلا: وهكذا نرى أن الحكومة قد وجدت الحل في اتخاذ المزيد من القرارات الأمنية الصارمة بل وحتى القاسية أحيانا لقمع المطالب الاجتماعية المتزايدة تحت مسمى تزايد معدلات الجريمة والابتزاز والهجمات الإرهابية. 

نتيجة لذلك، تمت زيادة ميزانية الأمن الداخلي بمقدار مليار يورو في أكتوبر/تشرين الأول 2017 كما جرى تجنيد 10 آلاف شرطي جديد.

ورغم أن إحلال السلام وضمان أمن الشعب هو أحد الواجبات الأساسية للدول إلا أنه وعند القيام بذلك، يجب عليهم الاعتماد على البيانات والتحليلات العلمية واتخاذ الخطوات اللازمة في إطار القواعد الديمقراطية، حيث يتطلب الأمر الحفاظ على التوازن بين الحرية والأمن، برأي الكاتب.

ويرى أن الإجابة على السؤال المتعلق حول سبب تحول الوضع في فرنسا، مهد الديمقراطية، وأرض الحرية، ومركز الفن والجمال، والتي يحلم كثير من الناس بالعيش فيها، إلى وضعها الحالي، هو أمر يصعب الإجابة عليه.

ويضيف: أن "الإجابة على هذا السؤال بعيدا عن نظرية المؤامرة سيكون صعبا بالنسبة للعديد من المثقفين. ومع ذلك، فإن الجميع يتفقون تقريبا على أن العلاقات بين المجتمع وأولئك الذين يديرون الدولة بدأت في الانهيار وأن من تم انتخابهم قد ابتعدوا عن اتباع السياسة التي تعطي الأولوية لرفاهية وإجابة مطالب وتوقعات الشعب".

وقد انعكست الفجوة بين الحكومة والمجتمع على الصحافة. فمثلا بينما تتبع صحيفة لوفيغارو المملوكة للمجموعة التي تنتج طائرات رافال، والصحف المشابهة لها خطا قوميا صارما إلى جانب الحكومة في العلاقات الدولية، تتبنى لوموند ومثيلاتها موقفا معتدلا نسبيا وتعطي مكانا لمطالب الشعب، بحسب الكاتب التركي.

قانون الأمن

ويلفت إلى أن "قانون الأمن الجديد" الذي عصف بفرنسا لعدة أيام يشكل جزءا لا يتجزأ من هذه التمزقات التي تحدثنا عنها. ويتألف مسودة هذا القانون، الذي وقعه جميع أعضاء الحزب الحاكم، الحركة الجمهورية، من 32 مادة.

وفي إطار بالغ الحساسية، يناقش مجلس الوزراء الفرنسي في 9 ديسمبر/كانون الأول، مشروع قانون يدعمه إيمانويل ماكرون ويشمل تعزيز الإشراف على الجمعيات الدينية وتمويلها وتجريم الكراهية عبر الإنترنت.

وتقول باريس: إن المشروع يأتي استجابة لمخاوف الفرنسيين من عمليات إرهابية ينفذها من تصفهم بـ"إسلاميون متطرفون" أججها اغتيال المدرس الفرنسي صامويل باتي بقطع الرأس في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول بعدما عرض على تلاميذه رسوما كاريكاتورية للنبي محمد وتلاه هجوم على كاتدرائية في نيس.

وعند النظر في مواد هذا الدستور، يتبين أنه قد تم منح قوات الأمن سلطات كافية للقيام بما يكفي لإرهاب الشعب. 

فعلى سبيل المثال، عند قيام أحد عناصر الأمن بالشك دونما أي سبب، يمكن أن ينبني عليه انقلاب حياة أحدهم رأسا على عقب كما يمكن أن يتم التحقيق مع الجمعيات وإغلاقها بمجرد شك لا أساس له.

ويذكر الكاتب أنه يمكنهم أيضا من التعامل بقسوة مع أماكن العبادة التي لا يتم المساس بها حتى في أوقات الحرب. ورغم أن جميع بنود القانون تقريبا تحتوي إشكاليات، إلا أنه تم توجيه المعارضة على البند  24. 

وبحسب هذا البند، فإن من يقاوم ضابط الأمن المسؤول، ويلتقط صورا له أو لأجهزته ويستخدم لغة تهديد معه، يعاقب بالسجن لمدة عام وغرامة قدرها 45 ألف يورو.

ويعلق قائلا: "لذا، لن يتمكن أحد في فرنسا من الرد على أي عمل تقوم به قوات الأمن، كما لن يتمكن أحد من تصوير عملهم وعرضه على المحكمة. وباختصار سيستسلم المواطن بالكامل لرحمة العسكريين، وفي أي نزاع معهم لن يكون له الحق أو الفرصة في توثيق العنف الذي تعرض له".

ورغم كل الخلافات والفوضى، من المهم الإشارة إلى أن مشروع القانون المقدم إلى مجلس الأمة في 24 نوفمبر/تشرين الثاني تم اعتماده بمعدل مرتفع للغاية، حيث حصل على 388 صوتا من أصل 577 نائبا في التصويت الأول.

ويعلم الجميع أنه ليس كل مسودة قانون في فرنسا يجري الموافقة عليها بهذا العدد من الأصوات العالية، بحسب الكاتب.

ورغم أنه يمكننا اعتبار نسبة المشاركة العالية هي لفتة إلى الرئيس ماكرون من نواب حزبه، إلا أنه من الممكن أيضا قراءة هذه النسبة من الموافقة كنتيجة لرد فعل على الجمهور من النواب الذين لن يتمكنوا من الفوز مرة أخرى، يقول الكاتب.

خياران اثنان

ويؤكد ديمير على أن العنف الذي تم استخدامه في أحداث باريس يومي 28 و29 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، كان بمثابة وصمة عار من شأنها أن تسجل في التاريخ. 

إذ تعرض عشرات المتظاهرين من بينهم الصحفي واللاجئ السوري، أمير الحلبي، للعنف وأصيبوا بجروح خطيرة على أيدي الشرطة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الصحافة الفرنسية لم تنجح في نقل هذا الحدث أيضا.

وتساءل الكاتب: ماذا يمكن أن يكون سبب عدم نشر الصحافة والتلفاز للصور الذي يتم تناقلها على وسائل التواصل الاجتماعي؟ لماذا لم يتفاعل الصحفيون حتى عندما أصيب زميلهم الصحفي؟ لماذا لم يظهر الإعلام الفرنسي الذي ينقل الأحداث الاجتماعية من أنحاء العالم وعلى رأسها تركيا بالبث المباشر ذات الاهتمام لما يحدث عنده؟

ومع ازدياد عدد المتظاهرين بدأت البيانات تأتي من داخل الحكومة لتغيير القانون، حيث بين رئيس كتلة "حزب الجمهورية إلى الأمام" كريستوف كاستانير أن إعادة كتابة المادة 24 قيد المناقشة. 

ويلفت الكاتب التركي إلى أننا نواجه وضعا يتم فيه سن القوانين التي تسكت الأفواه في بلد تزيد فيه الضرائب ويضعف نظامه التعليمي ويزداد فيه معدل الانتحار بين المعلمين، وتتأجل الإصلاحات في حقوق العمال لسنوات، وتفلس فيها الشركات الصغيرة.

ويأتي هذا في ظل تضخم خفي بالإضافة لضعف التسامح بين المجموعات الاجتماعية والعرقية التي يتكون منها المجتمع بدعم من بعض المنظمات الإعلامية في فرنسا، بدلا من سن القوانين التي تسهل تقديم الخدمات بما يتماشى مع المطالب والاحتياجات الأساسية للمجتمع.

ويختم ديمير مقاله: "عندما ندقق في حالة فرنسا بعمق، نرى أن المشاكل فيها أكبر".

وتابع: "إذا صمت أغلبية المثقفين الذين يديرون الدولة ويضمنون تنمية السلام والازدهار في المجتمع بأفكارهم الموضوعية والعادلة، وإذا كانت أصوات الصحافة مع الأقوى لا مع المحق، فلا يمكننا توقع مستقبل جيد لتلك الدولة، بل سيتعمق استبداد الحكومة، وسينهار المجتمع، لتظهر بنية سياسية تضر بمحيطها وتنشر ظلامها".