هل يستنسخ العالم تجربة الصين الاستبدادية في محاربة كورونا؟

12

طباعة

مشاركة

لم تتسبب جائحة كورونا فقط في وفاة عشرات الآلاف من الأشخاص، وحدوث دمار اقتصادي، وإغلاق في كثير من مناطق العالم، بل يتوقع أيضا أن تسهم في تفاقم مشكلة التوسع في استخدام وسائل المراقبة الرقمية؛ لما حققته من نتائج إيجابية في مقاومة الفيروس.

ففي تقرير نشرته مجلة أميركية، سلطت الضوء على التأثير الذي تحدثه جائحة الفيروس التاجي الحالية في مشكلة أخرى تجتاح العالم منذ عدة سنوات، وهي صعود وانتشار المراقبة الرقمية التي أتاحها الذكاء الاصطناعي (AI).

وقالت مجلة "فورين أفيرز": إنه "لطالما اعتمدت تدابير الصحة العامة على الترصد، فقد استخدمت الصين ترسانتها من أدوات المراقبة لمقاومة الوباء". 

تمثلت هذه التقنيات بنشر مئات الآلاف من أجهزة المراقبة في الأحياء لتسجيل تحركات ودرجات حرارة الأفراد، إلى المراقبة الجماعية للهواتف المحمولة والسكك الحديدية وبيانات الطيران لتعقب الأشخاص الذين سافروا إلى المناطق المتضررة.

لم يختلف الوضع في الدول الديمقراطية في شرق آسيا، فقد استخدمت أيضا سلطات مراقبة موسعة لمحاربة COVID-19. 

وعليه، استفادت كوريا الجنوبية من بيانات الدوائر التلفزيونية المغلقة وبطاقات الائتمان لتتبع تحركات الأفراد، وأتاحت تايوان قواعد البيانات الصحية وغيرها من قواعد البيانات لجميع المستشفيات والعيادات والصيدليات التايوانية حتى يتمكنوا من الوصول إلى معلومات سفر مرضاهم.

وتابع التقرير: "بينما تكافح من أجل احتواء انتشار الفيروس، تتطلع الديمقراطيات الغربية الليبرالية إلى أدوات الصين للحد من تفشي المرض وتتساءل عما إذا كان ينبغي عليها اعتماد بعض تلك الأساليب الاستبدادية".

على مدى العقد الماضي، كانت الصين تبني دولة مراقبة رقمية استبدادية في الداخل بينما تتنافس مع الولايات المتحدة على المسرح الدولي لتحديد المعايير العالمية وتشكيل البنية التحتية للشبكة الرئيسية، وتصدير تكنولوجيا G5 وأنظمة Orwellian للتعرف على الوجه في الخارج. 

إن تداخل هذين الاضطرابين الدوليين - الوبائي والتكنولوجي - سيشكل السنوات القليلة القادمة من التاريخ العالمي.

لقد أثبتت دول شرق آسيا أن وجود نظام مراقبة قوي أمر ضروري لمكافحة الوباء. يقول التقرير: "يجب أن ترقى الديمقراطيات الغربية لتلبية الحاجة إلى مراقبة ديمقراطية لحماية سكانها".

 ولكن ما هي النماذج التي يمكن أن يثبت الغرب أنها تستفيد من الفوائد العظيمة للمراقبة التي تدعم الذكاء الاصطناعي دون التضحية بالقيم الليبرالية؟، يتساءل التقرير.

ويتابع: "على الرغم من عدم إدراك أحد لذلك، كان أحد أكبر الآثار طويلة المدى لهجمات 11 سبتمبر/أيلول (2001) هو توسيع المراقبة في الولايات المتحدة والديمقراطيات الأخرى".

وبالمثل، فإن أحد أهم تأثيرات COVID-19 على المدى الطويل سيكون إعادة تشكيل المراقبة الرقمية في جميع أنحاء العالم، بدافع من حاجة الصحة العامة إلى مراقبة المواطنين عن كثب. 

وإذا فشلت الديمقراطيات في تحويل مستقبل المراقبة العالمية لصالحها، فإن المنافسين الاستبداديين الرقميين مستعدون لتقديم نموذجهم الخاص إلى العالم.

جون سنو

لطالما تطلبت محاربة الأوبئة مراقبة السكان لفهم المرض ومن ثم الحد من انتشاره. كان الطبيب جون سنو أحد مؤسسي علم الأوبئة رائدا في استخدام المراقبة لمعالجة الأمراض المعدية. 

وفي لمحة من الماضي يحكي التقرير: "وصلت الكوليرا الآسيوية لأول مرة إلى المملكة المتحدة عام 1831. وأسفرت تلك الموجة الأولى عن مقتل الآلاف وتفشي المرض مرة أخرى لسنوات بعد ذلك. وقتلت موجة أخرى عام 1853 أكثر من 10000 بريطاني.

في أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول 1854، عانى حي "سوهو" في لندن من تفش رهيب. فعلى مدار ثلاثة أيام، توفي 127 شخصا في شارع واحد. 

كان سنو يعيش على مقربة من هذا المكان، وسمحت له علاقاته بمراقبة الوباء، فقام بتمشيط الحي، وأجرى مقابلات مع أسر الضحايا. قادته النتائج التي توصل إليها إلى مضخة مياه أثبتت أنها مصدر تفشي المرض. 

باستخدام الميكروسكوب، وجد جزيئات بيضاء مريبة في الماء، وبعد حوالي عشرة أيام من تفشي المرض، أقنع السلطات المحلية بإزالة مقبض المضخة كتجربة، فانخفضت حالات الكوليرا في الحي بسرعة. 

ذهب سنو لتتبع الحالات بعناية، وتجميع البيانات، وإقناع السلطات والممارسين الطبيين بالعلاقة بين الماء وانتشار الكوليرا.

ومنذ ذلك الحين، عملت كل ولاية على بناء مؤسسات تحاول الحفاظ على الصحة العامة. أنقذت تلك الأساليب الحديثة مئات الملايين من الأرواح. وقد استخدم كل جيل منذ سنو أدوات مراقبة أقوى من أي وقت مضى في خدمة الصالح العام، وفق التقرير.

ويتابع: "الواقع أن المراقبة على نطاق أوسع، كانت أساسية بالنسبة لقدر كبير من التقدم الاجتماعي والاقتصادي على مدى القرنين الماضيين".

في المملكة المتحدة، تطلبت التطورات الرئيسية في القرن التاسع عشر - مثل تلك التي مكنتها قوانين المصانع التي تحمي العمال الأطفال والكبار - أنظمة تفتيش جديدة. وفي سابقة هائلة، تأسست هيئة تفتيش صغيرة مكونة من أربعة رجال لفرض قيود على عمل الأطفال في المصانع. 

ثم أنشأت السلطات قوات شرطة جديدة "لتكون متسقة مع شخصية الدولة الحرة". وكما تبين في المثال البريطاني كيف أن عادات المراقبة المتكاثرة لم تقوض الديمقراطية؛ بل أصبح النظام البرلماني في المملكة المتحدة أكثر ديمقراطية حتى عندما تبنت الدولة المزيد من سلطات المراقبة. 

وأوضح التقرير: "بالطبع، ليست كل استخدامات الدولة للمراقبة حميدة. طوال القرن العشرين، استخدمت حكومات الدول الديمقراطية ظاهريا تقنيات المراقبة المتطفلة مثل التنصت على المكالمات الهاتفية لمراقبة الخصوم السياسيين وقمع المعارضة. 

ففي أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول، وسعت حكومة الولايات المتحدة سلطاتها، بما في ذلك توسيع نطاق المراقبة بدون مبرر من قبل وكالة الأمن القومي وإنشاء مشروع التوعية الإعلامية الشاملة المحلية الذي يهدف إلى تحديد المشتبه في أنهم إرهابيون من خلال غربلة كميات هائلة من البيانات الرقمية، وكان لذلك التحول آثاره على القطاع الخاص، وفق التقرير.

كوفيد والتحكم

ويتوقع التقرير أنه "مثلما أدت هجمات 11 سبتمبر إلى ممارسات مراقبة جديدة في الولايات المتحدة، فإن جائحة الفيروس التاجي قد تؤدي إلى الشيء نفسه بالنسبة للعديد من الدول حول العالم".

ويوضح أن "البلدان المتضررة حريصة على السيطرة بشكل أفضل على مواطنيها. لدى كل ولاية عاملة الآن إستراتيجية للصحة العامة لمعالجة COVID-19 عبر مراقبة السكان ومحاولة التأثير على سلوكهم".

ولكن لا الولايات المتحدة ولا الدول الأوروبية استخدمت أساليب المراقبة واسعة النطاق والتدخلية المطبقة في شرق آسيا. وحتى الآن، يعتبر النهج الغربي أقل نجاحا بكثير من إستراتيجيات شرق آسيا، وفق التقرير.

وتابع: "إن الحجم الهائل للصين يجعلها الحالة الأكثر أهمية، فقد نجحت بكين في الحد من انتشار المرض نتيجة لإستراتيجية مراقبة شديدة".

اعتمدت هذه الإستراتيجية على نظام "إدارة الشبكة" الذي يقسم البلد إلى أقسام صغيرة ويكلف الناس بمراقبة بعضهم البعض. ويعمل أكثر من مليون مراقب على تسجيل التحركات، وقياس درجات الحرارة، وفرض القواعد المتعلقة بأنشطة السكان.

في الوقت نفسه، استغلت الصين أيضا مجموعة كبيرة من الأدوات الرقمية. تتطلب شركات السكك الحديدية التي تديرها الدولة وشركات الطيران ومقدمو الاتصالات الرئيسيون من العملاء تقديم بطاقات هوية صادرة عن الحكومة لشراء بطاقات SIM أو التذاكر، مما يتيح مراقبة جماعية دقيقة بشكل غير مسبوق للأفراد الذين سافروا عبر مناطق معينة. 

وأصبح لون تطبيق على هاتفك الذكي هو ما يحدد صلاحية تنقلك عبر نقاط التفتيش في المدينة، إذ يشير اللون الأخضر إلى حرية التنقل عبر نقاط تفتيش المدينة، أما اللون البرتقالي أو الأحمر فيشير إلى أن الشخص "يخضع لقيود على الحركة".

واستخدمت السلطات في بكين خوارزميات التعرف على الوجه لتحديد الركاب الذين لا يرتدون قناعا أو الذين لا يرتدون قناعا صحيحا، وفقا للتقرير.

نحو رقابة ديمقراطية

تسلط جائحة الفيروس التاجي الضوء على نقاط القوة في أدوات المراقبة القوية التي غالبا ما تستخدمها "الدول الاستبدادية مثل الصين". 

لذلك تحتاج الديمقراطيات الليبرالية إلى إيجاد طرق للاستفادة من المراقبة المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، مع ضمان أن هذه التقنيات لا تنتهك حقوق الأفراد بشكل خطير. وعليهم أن يتعاملوا مع جهود الصين العالمية الطموحة لوضع نظام بديل للنظام الديمقراطي الليبرالي، كما يطالب التقرير.

ويتابع: "تصدر الصين نموذجها الرقمي الاستبدادي من خلال مساعي مثل طريق الحرير الرقمي، الذراع التكنولوجي للبنية التحتية لبكين". وقد جمع هذا الجهد وحده أكثر من 17 مليار دولار من القروض والاستثمارات، بما في ذلك تمويل شبكات الاتصالات والتجارة الإلكترونية وأنظمة الدفع عبر الهاتف المحمول ومشاريع البيانات الضخمة حول العالم. 

وتتنافس بكين بشدة مع الديمقراطيات في تشكيل المستقبل الرقمي، ويظهر ذلك واضحا في الصراع على هيئات المعايير الفنية مثل الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU) في الأمم المتحدة.

ويحث التقرير الدول الغربية على التعلم من التجربة الشرق-آسيوية بالقول: "يجب أن تكون الديمقراطيات الليبرالية الغربية غير خائفة من محاولة توسيع الممارسة الرقابية لأغراض الصحة العامة، فلا يوجد شيء متناقض حول فكرة المراقبة الديمقراطية". 

ويضيف: "استشرافا للمستقبل، ينبغي للديمقراطيات الليبرالية أن تحدد الأساليب التي تمارس في شرق آسيا لاحتواء COVID-19 التي تستحق المحاكاة وتجنب تلك التي تتطلب مراقبة تدخلية. على وجه الخصوص، ينبغي للدول الغربية أن تتعلم من سرعة وحجم التدخلات في شرق آسيا".

وبحسب التقرير، يجب جعل عملية المراقبة الاحتياطية هذه خاضعة للمساءلة بطريقة ديمقراطية بموجب التشريع، وأن يتم دمجها في هيئات الصحة العامة الوطنية مثل مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها في الولايات المتحدة وفي منظمات الصحة العامة المحلية. 

وزاد: "يجب أيضا أن تكون بيانات الصحة العامة محصورة ومحمية بشكل صارم ولا يتم التوسع فيها بشكل روتيني عن طريق بطاقات الائتمان أو الدوائر التلفزيونية المغلقة أو بيانات أقسام الهجرة"، حسب التقرير.

وكما أوضحت تايوان، فإن شفافية الحكومة ومشاركة المجتمع المدني مهمان في مكافحة الوباء. أيضا، يقول التقرير: "يمكن للقطاع الخاص أن يساعد في تعزيز القدرات الاحتياطية لزيادة أجهزة التنفس الصناعي أو الاختبارات الطبية".

ويستدرك: أنه "يجب على الديمقراطيات توجيه شركات التكنولوجيا الرقمية بعيدا عن الاستيلاء على البيانات، باتجاه تنمية أدوات فعالة وشفافة تحمي الخصوصية الفردية بقوة. لا بد أن تنحصر هذه الجهود في مصلحة تعزيز جهود الصحة العامة، وليس لتخزين المعلومات الشخصية للاستخدامات الأخرى".

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل يحث التقرير على ترويج ذلك بالقول: "بعد تطوير هذا النموذج من المراقبة الديمقراطية محليا، يجب على الديمقراطيات محاولة تصديره عالميا بينما يعيد العالم بناء نفسه في أعقاب الوباء".

ولذلك، فإن المجلة الأميركية تدعو الديمقراطيات إلى مضاعفة الجهود للتأكد من أن المعايير العالمية - للذكاء الاصطناعي، والأشياء المتصلة رقميا (مثل السيارات أو الثلاجات)، وحتى الإنترنت نفسه - التي يتم تشكيلها الآن في الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU) والمنتديات الأخرى لا تحتوي على عادات استبدادية للمراقبة. 

وبالمثل، يجب عليهم العمل من خلال الوكالات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية، وغيرها، لضمان أن المبادئ الديمقراطية تحكم التفكير الدولي في الصحة العامة، وفق التقرير.