صراع الحدود البحرية يعود مجددا بخارطتين تركية ويونانية.. قراءة قانونية

"لا يمكن التوصل إلى حل دائم وعادل في بحر إيجة دون إشراك تركيا بوصفها طرفا أساسيا في النزاع"
للمرة الأولى، كشفت وزارة الخارجية اليونانية، في 16 أبريل/ نيسان 2026، عن تخطيط الحيز البحري الخاص بالبلاد، موضحة أن هدف اليونان في مدّ مياهها الإقليمية في بحر إيجة إلى 12 ميلا بحريا، وهو ما ترفضه جارتها تركيا.
وفي نفس اليوم نشر المركز الوطني للبحوث في القانون البحري بجامعة أنقرة، أول خريطة لتخطيط الحيز البحري التركي، وذلك لـ"حماية حقوق البلاد ومصالحها في البحار المحيطة بها وتحقيق أقصى استفادة من المناطق البحرية".
وتُظهر الخريطة أن تركيا، وفي إطار تخطيط الحيز البحري، قامت بإعداد خطط تتجاوز حدود مياهها الإقليمية في البحار المحيطة، وتشمل أنشطة اقتصادية وعلمية وعسكرية، وتم تحديد مناطق معينة لهذه الأنشطة.
وفي السياق، نشرت "وكالة الأناضول" مقالا للكاتب التركي "علي عثمان كارا أوغلو"، سلط فيه الضوء على بطلان خريطة خطة المناطق البحرية اليونانية من حيث قواعد القانون الدولي.

توتر متصاعد في إيجة
وذكر الكاتب التركي أن مسألة تحديد مناطق الصلاحية البحرية في بحر إيجة تُعد من أبرز المشكلات العالقة بين تركيا واليونان.
وتكتسب هذه القضية أبعادا إستراتيجية متزايدة، خاصة في ظل تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والمباحثات الجارية حول تشكيل نموذج جديد للأمن الأوروبي بمشاركة تركيا.
في خضم هذه التطورات أقدمت اليونان على خطوة جديدة من شأنها أن تؤثر في العلاقات التركية الأوروبية.
فقد نشرت الحكومة اليونانية في 16 أبريل ما يُعرف بـ"خريطة خطة المناطق البحرية"، والتي تعكس رؤيتها الأحادية بشأن المناطق البحرية، متجاهلة بشكل كامل حقوق تركيا ومناطق صلاحيتها البحرية.
ووفقا للخريطة المنشورة منحت اليونان جزرها في بحر إيجة صلاحيات بحرية تمتد حتى 12 ميلا بحريا.
ولفت الكاتب النظر إلى أنه في حال تم تطبيق هذا الامتداد على جميع الجزر، فإن أكثر من 70 بالمئة من بحر إيجة سيكون فعليا تحت السيادة اليونانية.
وهذا الطرح سيثير إشكاليات عديدة، من بينها تقييد الملاحة في مناطق تُعتبر ضمن المياه الدولية، وفرض سيطرة غير متوازنة على الموارد البحرية، مما يؤدي إلى نتائج غير عادلة بين الجانبين التركي واليوناني.
وتسعى اليونان إلى توسيع مياهها الإقليمية من 6 أميال إلى 12 ميلا، مستندة في ذلك إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982، التي ترى أن هذا الامتداد حق طبيعي للدول الساحلية.
إلا أن تركيا التي لم توقع على هذه الاتفاقية ترى أن الوضع في بحر إيجة يتطلب تسوية خاصة نظرا لقرب الجزر اليونانية من البر التركي.
وتدعو إلى حل قائم على مبادئ العدالة والتفاوض المباشر بين الطرفين، ومستشهدة بأمثلة مشابهة في مناطق أخرى من العالم.
وقد عبّرت تركيا عن رفضها المستمر لتطبيق 12 ميلا كحدود للمياه الإقليمية في بحر إيجة، ليس فقط بعد صدور الاتفاقية الدولية بل أيضا قبلها، وذلك خشية أن يؤدي ذلك إلى تكريس عرف قانوني دائم في المنطقة.
وقد وصل الأمر إلى ذروته عام 1995 حين أصدر البرلمان التركي قراراً يُعرف بـ (سبب للحرب)؛ حيث يمنح الحكومة التركية صلاحية اتخاذ جميع الإجراءات، بما في ذلك العسكرية، إذا قررت اليونان زيادة مياهها الإقليمية إلى 12 ميلا.
وتجدر الإشارة إلى أن تركيا تطبق حاليا نفس الامتداد البحري المعتمد لدى اليونان، أي 6 أميال فقط.
لكن ورغم محاولات اليونان المتكررة لإحياء مطلب 12 ميلا عبر خرائط وتصريحات رسمية، فإنها لم تتمكن من تطبيقه فعليا حتى الآن في ظل المعارضة التركية الصلبة والتعقيدات الجيوسياسية المحيطة بالمنطقة.
في ضوء هذه التطورات تبقى قضية بحر إيجة واحدة من أعقد ملفات الخلاف بين تركيا واليونان، ومن المرجح أن تظل مصدر توتر إقليمي ما لم يتم التوصل إلى حل تفاوضي شامل يعكس توازن المصالح بين الطرفين.

البعد القانوني للمسألة
وتنص اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار على أن الحد الأقصى للمياه الإقليمية لأي دولة يمكن أن يصل إلى 12 ميلا بحريا، وهذا الحكم يُعد قاعدة من قواعد القانون العرفي الدولي.
ومع ذلك، يجب التوضيح أن هذا الحد هو "السقف الأعلى"، ويجوز للدول أن تحدد حدودا أقل من ذلك تبعا لخصوصية بحارها وظروفها الجغرافية. لكن في جميع الأحوال، لا يمكن تجاوز سقف 12 ميلا بأي شكل من الأشكال.
وفي هذا السياق، فإن الاتفاقية لا تمنح تلقائيا الحق في 12 ميلا كما تدّعي اليونان، بل تُجيز الوصول إلى هذا الحد فقط “إذا توفرت الشروط المناسبة”.
وعلى أرض الواقع، لا تُطبق العديد من الدول هذا الامتداد الكامل إذا كان ينتهك حقوق الدول الساحلية المجاورة، وتقوم بدلا من ذلك بتحديد حدود أقل لمياهها الإقليمية.
أما تركيا، فقد اعتمدت في موقفها الرافض لمبدأ 12 ميلاً في بحر إيجة على قاعدة قانونية راسخة في القانون الدولي تُعرف بـ"الاعتراض المستمر"، وهي تتيح للدولة التي تعارض قاعدة عرفية جديدة بشكل واضح ومنتظم منذ بدايتها ألا تكون ملزمة بها لاحقا.
وبما أن تركيا عبّرت منذ البداية عن معارضتها الصريحة لتطبيق 12 ميلاً في بحر إيجة، فهي غير ملزمة بهذا المبدأ في تلك المنطقة.
وعليه فإن الادعاء الذي تكرره اليونان بأن "12 ميلا هو حق مستمد من القانون العرفي الدولي" لا يُعد حجة صالحة في حالة بحر إيجة، خصوصا أن كلا من تركيا واليونان تطبقان حاليا حد 6 أميال، وحتى الدول الأخرى التي تستخدم بحر إيجة تتعامل وفق هذا الحد.
وإذا كان لا بد من الحديث عن عرف إقليمي، فإن "تطبيق 6 أميال" يبدو أقرب ليكون القاعدة العرفية السائدة في المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك فمن أحد المبادئ العامة المعروفة في القانون هو: "عند استخدام حقك، لا يجوز أن تعيق الآخرين عن استخدام حقوقهم".
وتبعا لذلك، ترى تركيا أن الخصوصية الجغرافية لآلاف الجزر المنتشرة في بحر إيجة تستلزم التوصل إلى تسوية عبر اتفاق ثنائي.
غير أن اليونان لا تبدي استعدادا للدخول في اتفاق مع تركيا، بل اتجهت إلى توقيع اتفاقيات ترسيم صلاحيات بحرية مع دول مثل إيطاليا ومصر وإسرائيل.
والمشكلة الأكبر تكمن في أن الاتفاقية المبرمة مع مصر تعتدي على مناطق الصلاحية البحرية التركية، لكن وبما أن تركيا لم تكن طرفا في هذه الاتفاقيات، فهي بطبيعة الحال غير ملتزمة بها، وتواصل الدفاع عن حقوقها البحرية.
ومن إحدى المفارقات هو أن بعض هذه الاتفاقيات، التي أُبرمت دون أخذ تركيا في الحسبان، تحوّلت في النهاية إلى عبء قانوني وسياسي على اليونان نفسها.

موقف محكمة العدل الدولية
وتشير أحكام محكمة العدل الدولية إلى ضرورة مراعاة الجغرافيا البحرية وموقع الجزر، خصوصا تلك القريبة من سواحل الدول الأخرى، عند البت في قضايا ترسيم الحدود البحرية.
وقد رفضت المحكمة بشكل واضح تطبيق مبدأ الاثني عشر ميلا بحريا بشكل تلقائي، خاصة في الحالات التي تفرز اختلالا في التوازن بين الدول المتشاطئة.
كما أكدت على أن الجزر القريبة من البر الرئيس لدول أخرى، مثل جزيرة ميس القريبة من تركيا، لا يمكن منحها حقوقا بحرية كاملة، بل ينبغي تقييد تلك الحقوق لضمان العدالة في تقاسم الموارد البحرية.
ورغم هذه المعايير القانونية، تواصل اليونان في السنوات الأخيرة اتخاذ خطوات أحادية الجانب والتي بدورها تزيد من حدة التوتر مع تركيا، مثل إبرام اتفاقيات بحرية مع دول كمصر وتقديم خرائط وخطط أحادية تعكس رؤيتها الخاصة.
إن هذه السياسات تتجاهل وجود تركيا كأكبر دولة متشاطئة في المنطقة، ما يجعل تلك الاتفاقيات غير مُلزِمة لأنقرة من وجهة نظر القانون الدولي.
إضافة إلى ذلك تقوم اليونان أحيانا بتسليح جزر قريبة من الساحل التركي، رغم أن وضعها القانوني يفرض أن تكون منزوعة السلاح، مما يُعد انتهاكاً واضحا ومؤجّجا للتوترات بين البلدين.
في ظل هذه السياسات لا يمكن تجاهل أن ثقة اليونان بالاتحاد الأوروبي والدعم السياسي الذي تتلقاه منه يشجعها على مواصلة هذه السياسة التصعيدية.
الاتحاد الأوروبي من جانبه يتسم بموقف مزدوج؛ فمن جهة يطالب تركيا بالتعاون الأمني في سياقات إقليمية ودولية، ومن جهة أخرى يدعم مواقف اليونان بشكل غير مشروط.
وبذلك فإن هذا التناقض يُفقد الاتحاد الأوروبي مصداقيته كوسيط نزيه، بل و يعيق أي جهود محتملة لحل النزاع سلمياً.
وعلق الكاتب على ذلك بالقول: ينبغي على الاتحاد الأوروبي أن يتخلى عن دعمه الأعمى لليونان، وأن يسعى لتقريب وجهات النظر بين الطرفين على أساس القانون الدولي والعدالة الجغرافية.
في المقابل، يجب على تركيا أن تواصل المطالبة بحقوقها، وألا تقدم دعما غير مشروط للاتحاد الأوروبي ما لم يُظهر الأخير موقفا عادلا ومتزنا.
وختم الكاتب مقاله قائلا: لا يمكن التوصل إلى حل دائم وعادل في بحر إيجة دون إشراك تركيا بوصفها طرفا أساسيا في النزاع. كما أن تجاهل الواقع الجغرافي والسياسي لن يؤدي إلّا إلى مزيد من التوتر.
لذلك يبقى الحل السلمي القائم على التفاوض هو الخيار الأنجح، والأكثر انسجاما مع مبادئ القانون الدولي لتحقيق الاستقرار في منطقة الشرق المتوسط.