سجون العراق.. كيف أصبحت الدجاجة التي تبيض ذهبا للفاسدين؟

يوسف العلي | 5 years ago

12

طباعة

مشاركة

لا تزال قضية السجون العراقية، تشكل إحدى أبرز الملفات الشائكة والتي لم تتوصل الأطراف السياسية في البلد إلى إيجاد حلول تنهي معاناة عشرات الآلاف، رغم اعتراف رئيس الحكومة الحالية عادل عبدالمهدي بوجود أبرياء كثر داخل السجون لأسباب عدة.

معاناة آلاف المعتقلين والسجناء المحكومين وعائلاتهم منذ سنوات، تعتاش عليها مافيات فساد وجهات سياسية تعرقل أي إجراءات تهدف إلى إنهاء هذا الملف، بل يذهب الأمر إلى أبعد من ذلك، وهو منع الحقوقيين والنواب في البرلمان من الاطلاع على أوضاع السجون ومتابعة قضايا السجناء.

"معقّد ومتشابك"

بداية تسلمه رئاسة الحكومة في أكتوبر/ تشرين الأول 2018، أقر رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي، بوجود الكثير من الأبرياء في السجون، واصفا ملف المعتقلين بأنه: "معقّد ومتشابك"، كما أنه باب من أبواب الفساد الأربعين التي عرضها أمام البرلمان في إطار مشروع للقضاء عليه.

وعن الموضوع ذاته، كشفت تقارير إعلامية أن من يدير الفساد في دائرة الإصلاح التابعة لوزارة العدل والمعنية بإدارة شؤون السجون، معمم شيعي يكنّى بـ"أبي فاطمة" الذي يعتبر بمثابة "جوكر الفساد" في ملف المعتقلين بشكل كامل، ومنها تعاقدات إطعام السجناء، الذي يصل إلى 265 مليار دينار عراقي (222 مليون دولار) بأقل من سنة.

وكشفت التقارير عن وثائق مسربة تشير إلى أن سعر زيارة واحدة خلال الشهر لسجين واحد في بغداد يصل إلى 2000 دولار أمريكي، وبإشراف مباشر من مدير السجن، إضافة إلى أكشاك التموين داخل السجون تدر أموالا طائلة من خلال ابتزاز المعتقلين وبيع المواد لهم بأسعار غالية.

الباحث في الشأن السياسي العراقي غيث التميمي علق على الموضوع، قائلا: "وزارة العدل تدير ملف السجناء بطريقة ليست شفافة، فهي لا تعلن عن عدد المعتقلين لديها، كما أنه لا تنشر تعاقداتها ومناقصاتها مع شركات الإطعام بشكل دوري".

وأشار في مقابلة تلفزيونية إلى أن: "الشركات تجني سنويا 164 مليار دولار، لأن السجين الواحد مخصص له يوميا مبلغ 7 دولارات وفق الموازنة المالية السنوية، وهذا يعني أن بمقدور المعتقل أن يتغذى على 3 وجبات مشبعة يوميا من ماكدونالدز، إلا أن ذلك بالتأكيد لا يحصل، وهذا هو سبب الأرباح الهائلة لشركات الإطعام".

التميمي أكد، أن: "السجون العراقية فيها فساد مالي خطير، عن طريق 3 منافذ رئيسية، أولها: الإطعام، وثانيها: ملف نقل السجناء من مكان إلى آخر، ثالثها: انتهاك حقوق السجناء التي شخصتها المنظمات الحقوقية العالمية، ومنها: هيومن رايتس ووتش، والعفو الدولية".

طرق الابتزاز

وبخصوص نقل السجناء، أوضح التميمي أن: "عملية نقل سجين من مكان إلى آخر داخل نفس السجن تصل تكلفتها إلى 4 آلاف دولار، ولبعض السجناء المهمين تتجاوز عشرات الآلاف من الدولارات".

وفي حديث لـ"الاستقلال" قال أحد المعتقلين السابقين، الذي طلب عدم كشف هويته: "ضابط الدعوة أي المسؤول عن قضية المعتقل داخل السجن، يتقاضى أموالا طائلة من ذوي السجين، فإذا نقل من مكان إلى آخر لا يتم ذلك إلا بصفقة تصل إلى آلاف الدولارات، وربما يظهر المكان سيء فيضطر للعودة أيضا بنفس المبلغ".

وأشار المعتقل السابق الذي قضى قرابة عامين في السجن إلى أن: "موضوع شراء هاتف جوال للمعتقلين يتم عن طريق سمسار من عناصر الأمن في السجن ويتشارك فيه نحو 15 سجينا في زنزانة واحدة، إذ يصل سعر الهاتف الذي لا تتجاوز قيمته 20 دولارا إلى 400 دولار، عدا الشاحن والشريحة، فضلا عن أن سعر بطاقة الرصيد فئة 10 دولار يصل سعرها إلى 200 دولار".

ولفت إلى أنه: "بعد أسابيع من بيع الهاتف المحمول للسجناء، تحصل مداهمة من قوة أمنية داخل السجن، وتجمع الهواتف مع ملحقاتها، وتعاد عملية البيع بمبالغ مرتفعة جدا تنهك ذوي المعتقلين على مدار السنة، فكيف بمن مضى على اعتقاله 15 عاما دون معرفة التهمة التي اعتقل بسببها".

وناهيك عن كل ذلك، يضيف المعتقل السابق، فإن: "موضوع المحامي الذي يترافع عن القضية في الغالب يكون طرفا في عملية الابتزاز، فمجرد قراءة ملف السجين يأخذ نحو 1000 دولار غير قابلة للرد سواء تولّى القضية أم تركها، وأغلب الأحيان يخبر عائلة المعتقل بأن الموضوع صعب، وأن عليه حلحلة تفاصيلها بآلاف الدولارات يوزعها بين الضباط ومأموري السجن".

وأكد أن: "المعتقل أصبح بالنسبة للضباط والفاسدين في وزارتي العدل والداخلية بمثابة الدجاجة التي تبيض لهم ذهبا، ولذلك فإن موضوع بقائه غير قابل للحل متعمد مئة بالمئة"، لافتا إلى أن: "ضباطا وموظفين في دائرة السجون أصبحوا أثرياء على حساب معاناة المعتقلين".

السجون مكتظة

لم تقدم الجهات الرسمية العراقية حتى الآن أرقاما عن أعداد المعتقلين والمحكومين في السجون، إلا أن لجنة حقوق الإنسان في البرلمان كشفت على لسان أحد أعضائها عن وجود أكثر من 35 ألف محكوم داخل السجون وموقوفين قيد التحقيق.

وقال النائب علي ميزر الجربا في تصريحات تلفزيونية، إن: "هناك أكثر من 35 ألف محكوم وموقوف في العراق وهذا العدد كبير جدا، ويدل على أن مستوى الجريمة في العراق كبير والمخالفات القانونية كبيرة ويحتاج هذا إلى رؤية لمعرفة الأسباب وراء ذلك".

الجربا، أكد أن: "200 شخص داخل السجون فارقوا الحياة خلال الثلاث سنوات الماضية"، مشيرا إلى أن: "وفاة مثل هذا العدد دليل واضح على أن السجون غير مواكبة للتطورات ولا تحقق الكرامة الإنسانية".

الاكتظاظ في السجون العراقية، وثقته منظمة "هيومن رايتس ووتش" بصورة نشرتها من داخل السجون في يوليو/تموز 2019، أثارت ضجة واسعة في الأوساط السياسية والشعبية في العراق.

وقالت المنظمة الأممية في تقريرها: إن مراكز الاحتجاز المكتظة للغاية في نينوى آلاف السجناء العراقيين، معظمهم بتهم تتعلق بالإرهاب، لفترات طويلة في ظروف مهينة للغاية بحيث ترقى إلى حد سوء المعاملة.

وشددت على ضرورة أن تضمن السلطات عدم احتجاز السجناء في ظروف غير إنسانية، ووجود أساس قانوني واضح للاحتجاز. وقالت لما فقيه، مديرة قسم الشرق الأوسط بالإنابة في المنظمة: "تحتاج الحكومة العراقية بشدة إلى إعادة بناء مراكز الاحتجاز وإعادة تأهيلها. ينبغي للعراق إبقاء المحتجزين في مكان لائق، بما يتماشى مع المعايير الدولية".

وحسب التقرير، فإن الطاقة الاستيعابية القصوى لمراكز الحبس الاحتياطي الثلاثة في شمال العراق، تل كيف والفيصلية والتسفيرات (في مجمع الفيصلية)، تبلغ 2.500 شخص، بحسب ما أفاد أحد كبار خبراء السجون العراقيين، طالبا عدم الكشف عن هويته. لكن وصل عدد المحتجزين هناك إلى 4.500 سجين ومحتجز تقريبا.

ونقلت المنظمة عن الخبير قوله: لا مساحة كافية للمعتقلين للاستلقاء في زنازينهم أو حتى الجلوس براحة، وأن سلطات السجن لم توفر فِراشات لعدم وجود مساحة لها في الزنازين. وأضاف: "يُفترض بهذه السجون أن تكون مكانا لإعادة التأهيل، لكن إذا آوت السلطات المحتجزين في هكذا ظروف، يمكنني تخيّل ما سيحدث لهم بعد إطلاق سراحهم".

انتهاكات مستمرة

أما بخصوص الانتهاكات بحق المعتقلين، فإن المرصد "الأورومتوسطي" لحقوق الإنسان، والمركز العراقي لتوثيق جرائم الحرب، قد كشفا عن انتهاكات قاسية بحق المعتقلين داخل السجون تمارس من الأجهزة الأمنية.

وذكر المركزين الحقوقيين، في بيان لهما، صدر في 17 تموز/يوليو الماضي، أن قوات الأمن: "تنتهج سياسة الإذلال والاضطهاد ضد المعتقلين". وأوضح أن قوات الأمن تحرم المعتقلين: "من مقومات السلامة الصحية والنفسية والغذاء والتهوية، ما يتسبب بوفاة بعضهم داخل المعتقل".

ونقل البيان شهادة معتقل يدعى (ق.س)، قال فيها إن: "أفراد الأمن داخل السجن يستخدمون عبارات السب والشتم والعبارات الطائفية والضرب دون مبرر، والعبث بالمتعلقات الشخصية، إضافة لإلقاء الأطعمة الفاسدة على المصاحف، في محاولة لاستفزاز السجناء".

وأفاد البيان: بأن السجناء يعانون مشاكل في الحصول على الغذاء داخل السجن بالكمية والجودة المطلوبة، إذ تمتلئ مخازن السجن بأطعمة منتهية الصلاحية يتم توزيعها على السجناء، إضافة لمنع الملح عنهم، ما يؤدي إلى معاناة الكثير منهم من هبوط في ضغط الدم، ويزيد مشكلاتهم الصحية منعهم من التعرض لأشعّة الشمس.

وأكد المركزان الحقوقيان: أن قوات الأمن تلصق تهما ملفقه بحق السجناء عقب إخضاعهم للتحقيق والحبس الانفرادي، ثم تُبعدهم إلى سجون في محافظات أخرى.

شهادات مرعبة

من جهتها، تؤكد "رايتس ووتش" في تقاريرها إنها وثّقت "شهادات مرعبة" بشأن تعذيب معتقلين عراقيين وموتهم تحت التعذيب أو من جرّائه في السجون الحكومية المعلنة.

وأشارت المنظمة إلى أن هذه الشهادات لا تعكس المعاملة الوحشية لمحتجزي وزارة الداخلية في العراق فحسب، بل أيضا عدم إحقاق العدالة من قبل السلطات الأمنية والقضائية عند وجود دليل على التعذيب، مؤكدة أن تقاعس الحكومة عن التحقيق في التعذيب والوفيات في الاحتجاز هو ضوء أخضر لقوات الأمن لممارسة التعذيب دون أي عواقب.

وتوضح: أنها في كل مرة وفرت معلومات كافية للتحقيق في ادعاءات التعذيب والموت أثناء الاعتقال، بما فيها مدد الاحتجاز وأماكنه والأشخاص الذي لعبوا دورا، وقدمتها إلى مكتب رئيس الوزراء والمفتش العام بوزارة الداخلية، لكن لم يتم إجراء تحقيق شفاف في ممارسات التعذيب والوفيات في السجون الحكومية.

وفي حديث مع "الاستقلال" قال "أبو محمد" قريب إحدى السجينات في بغداد، إن: "القوات الأمنية العراقية اعتقلت قريبتها قبل نحو 12 عاما وكانت حامل، بعدما لم يعثروا على زوجها الذي لا يعرف له أثر حتى الآن".

وأوضح، أن: "قريبته وضعت طفلها في السجن قبل 12 عاما تقريبا، وهي والطفل لا يزالان قيد الاعتقال، من دون أي تهمة تذكر سوى أنها زوجة رجل أرادت القوات الأمنية اعتقاله، ولم تجده فأخذت زوجته مكانه، وأن زوجها لا يعرف مصيره هل هو مختطف أم مقتول؟".

وغير بعيد عن هذه القصة، تروي الحاجة "أم علي" حادثة اعتقال ابنها الذي لم يمض على زواجه سوى أسبوع واحد، إذ داهمت منزلها في بغداد قوات أمنية واعتقلت أحد أبناءها، وأودعته في السجن، جراء وشاية كاذبة من مخبر سري، ولفقت له تهما بالقتل وحكم بالإعدام منذ 10 أعوام تقريبا، وهو الآن في سجن "الحوت" يعاني أمراضا كثيرة وعاهة جسدية نتيجة التعذيب الشديد.

ولفتت إلى أن: "زوجة ابنها المحكوم بالإعدام ذهبت إلى بيت أهلها، فهي الآن بمثابة أرملة قيد التنفيذ، والأمر تسبب لها بأزمة نفسية كبيرة، كونها عروس جديدة وذهبت 10 سنوات من شبابها ظلما وعدوانا، لأن ابني بريء".

اعترافات بالإكراه

يبدو أن كلام الحاجة "أم محمد" تؤيده مقررة لجنة حقوق الإنسان في البرلمان العراقي النائبة وحدة الجميلي، التي قالت في يونيو/ حزيران الماضي، إن: "80 بالمئة من المواطنين المحكوم عليهم بالإعدام والمؤبد في سجون البلد، أبرياء، اُنتزعت اعترافاتهم تحت التعذيب".

وأضافت الجميلي في مؤتمر صحفي في العاصمة بغداد، أن: "كثير من المعتقلين في السجون الحكومية والأجهزة الأمنية ومعتقلات الحشد الشعبي، أدينوا عبر اعترافات انتزعت نتيجة ممارسات لا إنسانية ولا أخلاقية".

وأوضحت: أن 80 بالمئة من المواطنين المحكوم عليهم بالإعدام والمؤبد أبرياء، تعرضوا للتعذيب خلال التحقيق معهم. وطالبت الجميلي بتعديل المادة التاسعة من قانون العفو العام المتعلقة بإعادة التحقيق والمحاكمات، لـ"إنصاف هؤلاء الضحايا".

مقررة لجنة حقوق الإنسان في البرلمان العراقي وحدة الجميلي

ولا يسمح للجهات الرقابية والحقوقية المحلية منها والدولية بزيارة السجون والمعتقلات، إذ تقول عضوة لجنة حقوق الإنسان في البرلمان العراقي، هيفاء الأمين: "وزارة العدل اتخذت قرارا يقضي بضرورة أخذ موافقة مسبقة منها، من أجل زيارة السجون".

وأضافت في تصريح سابق: "نحن نرفض هذا القرار جملة وتفصيلا، إذ لا يجوز منع الجهات الرقابية من الدخول إلى السجون ومتابعة ما يحدث داخلها، وقد منعتني السلطات الأمنية والإدارية في سجن الإصلاح في الناصرية خلال زيارتي له قبل فترة، واتصلت بوزارة العدل وأبلغتهم  أن قراراتهم لا تُطبق على الجهات الرقابية".

وأكدت الأمين، أن: "وزارة العدل تريد من خلال هذه القرارات إخفاء ما يحدث في السجون من انتهاكات، بالإضافة إلى منع تسرب الإخفاقات الإدارية إلى العلن، من خلال قرار يتذرع بالموافقات لدخول السجون وغير ذلك من أمور غير مهمة".

ومنعت إدارة سجن "العدالة" شمالي بغداد في مارس/آذار الماضي، عددا من نواب البرلمان العراقي أبرزهم، سعد مايع وعباس عليوي وإنعام الخزعلي وجواد حمدان، من الدخول إليه والاطلاع على أوضاعه، كما منع سجن "الحوت" جنوب العراق، نوابا عن الحزب الشيوعي العراقي وتحالف الإصلاح، من الدخول بحجة عدم إخطار إدارة السجن قبل مدة من الزيارة.