الإخفاء القسري في مصر.. بُؤرة موت تبتلع المعارضين
في 14 أغسطس/ آب 2013، ارتكبت قوات من الجيش والشرطة المصرية، جريمة فضِّ اعتصامين في ميداني رابعة العدوية والنهضة، لأنصار الرئيس الراحل محمد مرسي (أول رئيس مدني منتخب ديمقراطياً).
وأسفر فضُّ الاعتصامين المناهضين للانقلاب العسكري، عن سقوط آلاف القتلى والجرحى بالإضافة إلى المعتقلين، والمخفين قسراً.
وكان مرسي بمثابة أول حالة إخفاء قسري، مُنذ أن عزله بعض جنرالات الجيش في 3 يوليو/ تموز 2013، حيث جرى احتجازه هو وتسعة من كبار أفراد إدارته.
وهؤلاء المحتجزون هم: أحمد عبد العاطي، مدير مكتبه، وعصام الحداد مساعد الرئيس للشؤون الخارجية، وأيمن علي مساعد الرئيس لشؤون المصريين في الخارج، وعبد المجيد المشالي مستشار إعلامي، وخالد القزاز سكرتير الرئيس لشؤون العلاقات الخارجية، وأيمن الصيرفي سكرتير مدير المكتب، ومحمد رفاعة الطهطاوي رئيس ديوان الرئاسة، وأسعد الشيخة نائب رئيس الديوان، وأيمن هدهد مستشار أمني.
وقالت حينها سارة ليا ويتسن، مديرة قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة "هيومن رايتس ووتش": "أي نوع من خرائط الطريق هذا الذي يتسنى فيه لحكومة مدعومة عسكرياً أن تُخفي مساعدين رئاسيين سابقين بكل وضوح لمدة 150 يوماً دون أي تفسير؟، إنَّ الإخفاء القسري لأشخاص لمدة شهور متصلة لا يُوحي بالثقة في نيِّة هذه الحكومة التقدم على مسار إعلاء سيادة القانون".
ومُنذ ذلك الوقت تنتهج إدارة عبد الفتاح السيسي، رئيس النظام الذي حضر على جواد الإنقلاب، منهجية الإخفاء القسري، كفعل مُمنهج تجاه المعارضين، حتى غدت مصر على قائمة الدول سيئة السمعة في هذا الجانب.
6 آلاف مختف قسريا
في 30 أغسطس/ آب 2019، أكَّد مركز "الشهاب" لحقوق الإنسان إخفاء أكثر من 6 آلاف مواطن مصري خلال السنوات الماضية، وأنَّ "في مصر أكثر من 100 شخص ظلَّوا رهن الإخفاء القسري لعدة سنوات، و56 مواطنًا تعرضوا للاختفاء القسري ثم تمَّ قتلهم خارج نطاق القضاء رغم توثيق واقعة الاختفاء".
وأطلق المركز الحقوقي بمناسبة اليوم الدولي لضحايا الإختفاء القسري، حملة "في الذاكرة" بالتعاون مع مؤسسة عدالة الحقوقية، "حتى يبقى المختفون قسرًا حاضرين"، ولكي يتمَّ الكشف عن مصيرهم مع التأكيد على ضرورة محاسبة مرتكبي تلك الجريمة من خلال قانون ينصُّ على ذلك، "إذ تفتقد التشريعات المصرية لنص قانوني يجرّم الاختفاء القسري".
وأكَّدت تقارير المراكز الحقوقية أنَّ "ما يحدث في مصر للمواطن أنَّه يتعرض للاعتقال التعسفي، ثم يتمُّ حبسه في مكانٍ غير معلوم، وعادة معصوب العينين، ومُكبل بالقيود الحديدية، وتنقطع صلته بالعالم الخارجي، ثم يتعرض للمعاملة القاسية والمهينة، ويواجه التعذيب البدني والإيذاء المعنوي، وقد ينتهي الأمر بموته من جراء التعذيب، أو القتل العمد بالرصاص، أو أن يُكره على الاعتراف ضد نفسه فيصِل إلى محاكمة غير عادلة تقضي بسجنه مدى الحياة أو بإعدامه".
ودعت حملة "في الذاكرة" جميع الحقوقيين والإعلاميين والناشطين والسياسيين وكل المعنيين، إلى مواجهة ظاهرة الإخفاء القسري بكل السُبل المتاحة، وطالبت بالإفراج العاجل عن كافة ضحاياه، وإجلاء مصيرهم المجهول.
قصص مأساوية
إسلام الشافعي شاب مصري عشريني، يعمل طبيباً بيطرياً، أُخفي قسراً مُنذ 30 يوليو/ تموز 2018، وانقطعت أخباره مُنذ ذلك الحين، باستثناء معلومة واحدة حصلت عليها عائلته بطريقة غير رسمية تُشير إلى وجوده في مقر الأمن الوطني بمدينة نصر، وسارعت العائلة إلى إرسال برقية إلى النائب العام المصري دون جدوى.
مصير الشافعي يتشابه ومصير آخرين مختفين قسرياً في البلاد، ما زال البحث عنهم قائماً على قدم وساق، فيما تعمد منظمات حقوقية مصرية ودولية إلى إحداث ضجيج واسع من أجل حثِّ السلطات على الكشف عن مصائرهم.
ومن هؤلاء الباحث في المفوضية المصرية للحقوق والحريات، إبراهيم عز الدين، المختفي قسرياً مُنذ ألقي القبض عليه في 11 يونيو/ حزيران 2019.
وقدّم محامو المفوضية بلاغات إلى النائب العام للمطالبة بالكشف عن مكان احتجازه فوراً والسماح له بالتواصل مع محاميه وأسرته.
كما يتعرض البرلماني السابق والسياسي المصري مصطفى النجار إلى الإخفاء القسري منذ 13 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2018، وصدرت نداءات وشهادات من زوجته وأخواته وأصدقائه موجّهة إلى المجتمع المحلي والدولي.
وفي 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2018، أصدرت الهيئة العامة للاستعلامات المصرية، وهي منظمة إعلامية رسمية متحدثة باسم الحكومة، بياناً حمل عنوان "مصطفى النجار ليس محبوساً ولا علم للسلطات بمكان هروبه حتى الآن".
ويُذكر أنّه قبل النفي الرسمي، كانت وسائل إعلام أجنبية قد تحدّثت عن احتجاز النجار في معسكر الشلال الواقع في جنوب أسوان، علماً أنّه يتبع إلى جهاز الاستخبارات الحربية.
أوقفوا الإخفاء القسري
وفي 30 أغسطس/ آب الماضي، نشرت حملة "أوقفوا الإخفاء القسري"، تقريرها السنوي تزامناً مع اليوم العالمي لضحايا الإخفاء القسري، والذي وثَّق استقبال الحملة 336 شخصاً تعرضوا للاختفاء القسري في 22 محافظة مصرية، ليصبح إجمالي ما وثقته الحملة 1856 حالة مُنذ أن عكفت على توثيق حالات الاختفاء في أغسطس/ آب 2015.
وأكَّد التقرير أنَّه "تمَّ استخدام الإخفاء القسري كأداة قمع بحق المعارضين السلميين للسلطة، بما في ذلك المدافعون عن حقوق الإنسان والصحافيون والمحامون والنشطاء السياسيون، وضد المتهمين في قضايا تتعلق بالأمن الوطني".
وكشف تقرير الحملة عن ظهور نمط من استهداف السيدات والأطفال من محافظات مختلفة وإخفائهم قسريًا، حتى وصل عدد الذين تعرضوا للاختفاء القسري من هذه الفئة إلى 28 سيدة و8 أطفال، وعادة ما يكون استهدافهم كوسيلة للضغط على المطلوبين أمنياً أو الملاحقين قضائياً من خلال استهداف عائلاتهم.
ومن بين الحالات الموثقة في التقرير، تمكّنت الحملة من التأكد من ظهور 234 ناجياً من الاختفاء القسري، في حين ما يزال 79 شخصاً قيد الاختفاء حتى الآن، و23 شخصاً غير معلوم وضعهم.
وفي سبتمبر/ أيلول 2018، أعلن فريق منظمة "كوميتي فور جستس" الحقوقية، أنَّه في الفترة الزمنية الممتدة ما بين أغسطس/ آب 2017 وحتى الشهر نفسه من عام 2018، بلغ عدد حالات الإخفاء القسري في مصر نحو 1989 ظهرت منها 1830 حالة.
وذكرت المنظمة في تقريرها أنَّ "الفريق العامل المعني بحالات الاختفاء القسري أو غير الطوعي في الأمم المتحدة وثّق استمرار جريمة الإخفاء القسري في مصر بشكل مُمنهج في حقّ الناشطين والحقوقيين وعدد من المواطنين، فيما سُجّل عدم تعاون من قِبل السلطات المصرية معه في "الإجراءات" بشكل كبير، وذلك بالتزامن مع تقلُّص مساحة نشاطات المجتمع المدني في مصر واستهداف الناشطين الحقوقيين الذين يعملون على توثيق جرائم الاختفاء القسري من قبل قوات الأمن المصرية.
ويجري هذا التجاهل من قِبل السلطات المصرية، في وقت تُلزم الاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الإخفاء القسري في المادتَين 18 و24 منها الدول الموقّعة عليها باعتبار أهالي المختفين قسرياً ضحايا وبالتالي يتوجب على الدولة أن تلتزم بتقديم كل المعلومات المتاحة لديها حولهم ومعاقبة المجرمين في حقهم والتعويض وجبر الضَّرر.
أم زبيدة
في أبريل/ نيسان 2016، بدأت المواطنة المصرية منى محمود محيي، الشهيرة بـ"أم زبيدة" رحلة البحث عن ابنتها، مُتهمة الأجهزة الأمنية المصرية بإخفائها قسراً، وسعت بكل السُبل للوصول إليها، حتى ظهرت في فيلم وثائقي بعنوان "سحق المعارضة في مصر" أنتجته هيئة الإذاعة البريطانية "BBC"، وقالت إنَّ ابنتها زبيدة مختفية قسراً، وتطالب النظام في مصر بالكشف عن مصيرها.
ولكنَّ النظام المصري أجاب على طلب "أم زبيدة" بطريقته الخاصة، ففي 28 فبراير/ شباط 2018، تمً القبض عليها لتظهر في نيابة أمن الدولة العليا، التي وجَّهت لها تُهمة "نشر وإذاعة أخبار كاذبة من شأنها الإضرار بالمصالح الوطنية للبلاد، والانضمام إلى جماعة أُسست على خلاف القانون".
وقال محامون: إنَّه "في حدث مُستجد على السجون المصرية، حَلَقت أم زبيدة المعتقلة في سجن النساء بالقناطر شعرها بالكامل، ودخلت في إضراب كُلي عن الطعام، بالإضافة إلى أنَّ الحالة النفسية والصحية للسيدة البالغة من العمر 56 عاماً، مُتدهورة للغاية".
وتعرَّضت الأم والابنة في البداية للاعتقال عام 2014 بسبب تواجدهما قرب إحدى المظاهرات المناهضة للانقلاب العسكري، وتمَّ إخفاء الابنة قسرياً لمدة شهر، قبل أن تستمر رحلة المعاناة.
إجراء روتيني
في 31 أغسطس/ آب 2019، وثَّقت المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا انتهاكات جسيمة وقعت في مصر مُنذ يوليو/تموز 2013. وأكَّدت تقارير المنظمة، أنَّ الإخفاء القسري بات "إجراءً روتينيًا"، حيث لا يَعرف المقبوض عليه أو المعتقل مكان اعتقاله، ولا التُّهمة الموجهة إليه، ولا يُسمح له بزيارة عائلته أو محاميه إلا بعد فترة من الزمن، قد تمتدُّ شهوراً.
وهناك من اختفى أثره تماماً، وحُسب في عِداد المفقودين. وقد أشارت المنظمة إلى 129 حالة إخفاء قسري، خلال عام واحد، من يوليو/ تموز 2013، وحتى نفس الشهر من عام 2014.
ونشرت منظمة "هيومن رايتس مونيتور" تقريراً عن حالات الإخفاء القسري في النصف الأول من عام 2015، أكّد على ما بات إستراتيجية تستند إليها السلطات المصرية، وهي "القبض على مواطنيها وتعريضهم للإخفاء القسري".
ليس ذلك فقط، بل تعمد إلى تعذيبهم خلال فترة الإخفاء، ولا تكشف عن مصيرهم إلا عند موافقتهم على الاعتراف بتهم لم يرتكبوها تحت وطأة التعذيب، ما يُعَدُّ مخالفاً للقانون، وللمادة الخامسة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة السابعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، واللتان تنُصَّان على عدم جواز تعرُّض أحد للتعذيب أو المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، وكذلك المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي تُجرّم إكراه أي شخص على الشهادة ضد نفسه والاعتراف بذنب لم يرتكبه.
ورصدت المنظمة 582 حالة إخفاء قسري في مصر، خلال النصف الأول من 2015، بينهم 378 رجلًا، و23 امرأة، و56 قاصراً، و128 طالباً أو طالبة. ومن هؤلاء الذين أُخفوا قسرياً خلال تلك الفترة، من تعرَّض للتصفية، كحالة الطالب إسلام عطيتو.
وخلال الفترة ما بين أغسطس/آب 2015 وأغسطس/آب 2016، وثَّقت المفوضية المصرية للحقوق والحريات، 912 حالة إخفاء قسري، لم تظهر 52 حالة منهم حتى وقت صدور تقرير المفوضية في أغسطس/آب 2017.
وأضاف تقرير المفوضية أنَّ ضباط الأمن الوطني (أمن الدولة سابقاً)، أمعنوا في تعذيب المخفيين قسرياً، وهذا ما قاله 433 ممن كانوا في السجون سابقاً، وفقًا لمركز النديم لتأهيل ضحايا العنف والتعذيب، الذي تُؤكد إحصائياته الارتفاع الملحوظ في جريمة الإخفاء القسري في مصر خلال السنوات الأخيرة.
المصادر
- تقرير حقوقي: 6 آلاف مصري مختفٍ قسريًا في الذاكرة
- الإخفاء القسري... مأزق يورّط الدولة في مصر
- الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري
- المختفون قسريًا منذ "فض رابعة".. 1000 يوم بحثًا عن المجهول
- مصر: انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في ظل حكم الرئيس السيسي - مذكرة من منظمة العفو الدولية
- شهادات حول اختفاء الناشط المصري مصطفى النجار
- مصر: الاختفاء القسري … الجريمة المسكوت عنها
- الإخفاء القسري في مصر.. جريمة ممنهجة في سراديب أمن الدولة
- حملة حقوقية: الاختفاء القسري في مصر يتم بطريقة ممنهجة
- هكذا يصبح المختفون قسريا بمصر رهائن للتصفيات الجسدية