حرب بلا أفق.. كيف تدور إسرائيل في دائرة مفرغة أمام المقاومة بغزة؟

القيادة السياسية الإسرائيلية تروج لـ"رواية انتصار وهمي"
لم يعد الفشل الإسرائيلي في تحقيق "الانتصار الكامل" بقطاع غزة، مجرد قراءة تحليلية أو اجتهاد من المراقبين، بل تحول إلى حقيقة تفرض نفسها من خلال اعترافات علنية وأخرى ضمنية صادرة عن قيادات سياسية وعسكرية بارزة في تل أبيب.
هذا الفشل لم يقتصر على الخطاب الرسمي أو الإعلامي، بل امتد أثره إلى الميدان؛ حيث برزت مظاهر التصدع داخل الجيش الإسرائيلي، مع امتناع آلاف جنود الاحتياط عن الالتحاق بوحداتهم، وتزايد حالات الانتحار بشكل غير مسبوق لجنود قاتلوا في غزة.
ويأتي ذلك في ظل إحباط متزايد من العجز عن تحقيق الهدف المركزي المعلن منذ اليوم الأول للحرب (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023)، وهو القضاء على حركة المقاومة الإسلامية حماس.
كما تأتي التقييمات المستمرة باستحالة هزيمة الحركة، في ظل استعداد الجيش الإسرائيلي لاحتلال مدينة غزة، وهي خطوة تلقى تحذيرات متزايدة مع توقع نتائج كارثية لها على صعيد قتل المزيد من الجنود ونحو 20 أسيرا ما زالوا في القطاع.

اعتراف بالهزيمة
وفي السياق ذاته، تتوالى التصريحات الصادرة عن المستويات الأمنية والسياسية في إسرائيل لتؤكد أن استئصال حماس ليس هدفًا واقعيًا.
فيما أقرّت قيادات في شعبة الاستخبارات العسكرية "أمان" في 25 مارس/آذار 2025 بأن إسرائيل لم تنجح في تحقيق أي إنجاز إستراتيجي منذ اندلاع الحرب.
ووصف الرئيس الأسبق لمجلس الأمن القومي أما غيورا إيلاند، في 22 ديسمبر/كانون الأول 2024 مجريات الحرب بأنها "فشل كارثي".
وأشار إلى أن حماس تعود سريعًا للسيطرة على المناطق في غزة عقب أي انسحاب إسرائيلي، وهو ما ينذر بأن المشهد بعد نهاية الحرب لن يختلف عمّا كان قائمًا قبل اندلاعها.
ورأى الجنرال الاحتياطي المتقاعد يتسحاق بريك في 9 ديسمبر 2024 هزيمة حماس مستحيلة، كما اتهم القيادة السياسية بالترويج لـ"رواية انتصار وهمي" تخالف الوقائع على الأرض.
أما حاييم رامون النائب السابق في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) فاتهم الحكومة بتضليل الشعب، مؤكدًا أن حماس ما تزال قوية وقادرة على الصمود.
فيما ذهب الخبير الاقتصادي إيال عوفر إلى أبعد من ذلك، حين وصف العملية العسكرية الأخيرة (عربات جدعون) بأنها "واحدة من أكثر العمليات فشلًا في تاريخ الجيش".
ولفت عوفر إلى أن "التكلفة البشرية للعملية من الجنود القتلى والمصابين وتضرر الاقتصاد لم يقابلها أي إنجاز".
وداخل المؤسسة العسكرية نفسها، باتت هناك قناعة راسخة بعبثية الحرب، حتى أن المتحدث السابق باسم الجيش دانيال هاغاري، وصف، في 19 يونيو/حزيران 2024، فكرة القضاء على حماس بالخادعة وأنها غير قابلة للتحقق.
وفي السياق ذاته، دعت مجموعة من 19 مسؤولا إسرائيليا سابقا، بينهم إيهود باراك وتامير باردو، بشكل جماعي إلى إنهاء الحرب وحذروا من هزيمة إستراتيجية وشيكة.
ولحق بهم نحو 600 مسؤول أمني إسرائيلي سابق في 4 أغسطس/آب 2025، ناشدوا الولايات المتحدة التدخل للضغط على حكومة بنيامين نتنياهو.
وأكّد رئيس الأركان الأسبق وعضو مجلس الحرب في حكومة نتنياهو سابقا غادي آيزنكوت، عقب استقالته في 10 يونيو 2024، أن "الانتصار المطلق على حماس غير واقعي".
أما الجنرال المتقاعد غادي شامني فأشار بوضوح إلى أن "حماس هي من تنتصر" وأن الجيش يفقد السيطرة في المناطق بعد انسحابه منها.

معركة عبثية
ومن جانبه، يرى الباحث المختص في الشؤون الإسرائيلية صالح إبراهيم، أن هناك قناعة داخلية واسعة في إسرائيل باستحالة هزيمة حماس عسكريا، وأن الجيش عاجز عن تحقيق أهداف الحرب المعلنة.
ولفت في حديث لـ"الاستقلال" إلى أن قيادة جيش الاحتلال تدرك ذلك تماما بعد استمرار المقاومة في التصدي لقواته في المناطق كافة التي يتم اجتياحها.
وأضاف: "أكثر المدركين بحقيقة استحالة هزيمة حماس عسكريًا هو رئيس الأركان الإسرائيلي إيال زامير، لهذا دعا إلى عدم توريط جيشه أكثر في غزة، وعدم توفير فرصة للمقاومة لاستنزافه وتنفيذ عمليات قاتلة ضده".
هذه القناعة ترسخت عنده خلال عملية عربات جدعون، التي زعم قبلها أنها ستهزم حماس وتحرر الأسرى الإسرائيليين وتفرض واقعًا جديدًا على الأرض.
ولكنها في الحقيقة لم تغيّر شيئًا، بل تسببت في وقوع عشرات القتلى ومئات المصابين في صفوف جنود الاحتلال.
وشدد المختص على أن أكثر ما أرعب زامير خلال عملية عربات جدعون، هو محاولة المقاومة أسر جنود الاحتلال، والتي كان ستنجح اثنتان منها على الأقل، لولا استخدام إسرائيل إجراء (هنيبال) الذي يقضي بقصف الأسرى وآسريهم.
لذلك يرى رئيس الأركان أن غوص الاحتلال أكثر في رمال غزة سيتسبب في تعاظم الخسائر في صفوف الجنود، دون تحقيق هدف القضاء على حماس.
وتابع: "منذ بداية الحرب، لم تقابل أي عملية إسرائيلية برية بالمعارضة بقدر ما قوبلت به عملية احتلال غزة وتهجير سكانها جنوبًا".
والسبب وراء هذه المعارضة هو القناعة لدى المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية كافة في إسرائيل بعدم جدوى أي خطوة عسكرية، وأن الحل الوحيد هو سياسي من خلال صفقة شاملة بضمانات عربية، تعيد الأسرى وتبعد حماس عن حكم القطاع".
وأوضح أن "صور الآلاف من مقاتلي القسام (الجناح العسكري لحركة حماس) بعد دخول الاتفاق السابق لوقف إطلاق النار حيز التنفيذ في 19 يناير/كانون الثاني 2025 أحدثت زلزالًا في الشارع الإسرائيلي".
كما طرحت تساؤلات مفادها: إن كان هؤلاء هم مقاتلو القسام، فمن كنا نقتل في الحرب؟ ما الذي أنجزناه بعد أن سوّق الاحتلال أنه أباد مقاتلي حماس؟ ما أثبت كذبه وشكك في كامل السردية التي كان يطرحها حول تدمير قدراتها".
وأكد أن استمرار عمليات المقاومة بهذه الشدة والتطور قلل من هامش المناورة بالنسبة لنتنياهو، الذي كان يحتفل ويتفاخر بعد إعلان الجيش القضاء على قدرات حماس.
ثم عاد الاحتلال بعد أشهر لاجتياح ذات المناطق مجددًا، ليقابل بمقاومة أعنف وكمائن أكثر إحكامًا، ما خلق حالة من اليأس لدى مسؤولي الكيان.

الميدان للمقاومة
وتشير الأوضاع على الأرض في قطاع غزة إلى فشل نتنياهو في تقويض قدرات حماس الحكومية والعسكرية؛ حيث تواصل الحركة سيطرتها الأمنية والمدنية في المناطق كافة المأهولة بالقطاع.
ورغم الاجتياحات، لا تزال الحركة تدير شؤون غزة عبر شبكات خدمية سرية، وتصرف رواتب موظفيها، وتعود إلى مناطق انسحب منها الجيش.
وتعمل الأجهزة الأمنية في القطاع بكفاءة، رغم الاستهدافات الإسرائيلية المتواصلة لها، كما شكّلت خلال الحرب قوات جديدة بهدف إيقاف الفلتان الأمني ومحاربة العملاء والعصابات الموالية للاحتلال وغيرها من الظواهر الإجرامية.
ولا تزال الحركة تحوز شعبية واسعة وقاعدة جماهيرية كبيرة. كما يتناقل إعلام الاحتلال بشكل مستمر تقديرات جهاز الأمن العام "الشاباك" بتجنيد كتائب القسام آلاف الغزيين ضمن صفوفها، وتعزيز قدراتها العسكرية واستئناف التسليح.
من جانبه، قال الباحث السياسي عبد الله الكساب: إن كثيرين تنبؤوا بفشل إسرائيل في القضاء على حماس منذ إعلان نتنياهو هذا الهدف كأساس للحرب.
ولكن مجريات المعركة خلال ما يقارب العامين قدمت تفسيرًا منطقيًا لهذا الفشل وتأكيدًا على عجز إسرائيل عن تفكيك الجناح العسكري لحماس أو نزع سلاحها في المستقبل القريب أو حتى البعيد.
وأضاف في حديث لـ"الاستقلال": "هدف القضاء على حماس كان بوابة بالنسبة لنتنياهو لإطالة أمد الحرب، التي تعد شرط استمرار حكومته وائتلافه الحاكم، وتعطيل محاكماته، وبالتبعية إبعاده عن السجن، مع علمه المسبق بأن الهدف الذي وضعه لن يتحقق".
وأكد الكساب أن المقاومة الفلسطينية، وبالتحديد القسام، تعلمت كثيرًا خلال المعركة المستمرة، وبشكل متواصل تطور من أساليبها وتتكيف مع ظروف الميدان، وتجدد أسلحتها وتجعلها أكثر مواءمة.
ورغم أن المتوقع أن يتراجع نشاط المقاومة نتيجة للمجازر والقصف المتواصل، فإن النتيجة كانت معاكسة تمامًا؛ حيث تصاعدت عملياتها أكثر وزادت فاعليتها وأعداد الجنود القتلى جرّاءها.
وتابع: "القوة البشرية المتجددة لحماس هي كلمة السر في المعركة، فالحركة تحظى بقاعدة جماهيرية واسعة مستعدة للتجنيد، فضلا عن قدرتها على تصنيع الأسلحة في ظل الحرب، ومحافظتها على الجزء الأكبر من أنفاقها، وتطويرها أساليب قتال جديدة، ما يجعل الاحتلال يدور في دائرة مفرغة".
وأوضح الباحث أن أسلوب حرب العصابات الذي تعتمد عليه المقاومة بات أكثر إرهاقًا لجيش الاحتلال؛ حيث يستعين المقاومون بالأنقاض للتخفي ومهاجمة الجنود والآليات، وباتوا يتخذون أساليب وقائية من أجهزة الرصد، ضمن تكيفهم مع ظروف الميدان.
كما عملوا على ترميم الأنفاق؛ حيث أفاد بعض الأسرى الذين كانوا في قبضة القسام أن حراسهم كانوا يعملون على مدار الساعة في حفرها ما يعني أن الشبكة الواسعة منها باتت أكبر وأوسع. بحسب قوله.
وأضاف: “في إصدارات القسام تظهر عمليات تطوير الأسلحة، وتحويل العبوات المعدة للتفجير عن بعد إلى قنابل تفجّر من مسافة الصفر داخل قمرة قيادة الآليات، وتحويل ذخيرة الاحتلال غير المنفجرة إلى عبوات كبيرة قادرة على تحطيم أعتى الآليات، وإعادة تشغيل مسيراته لصالحها”.
كل هذا تعلمه المقاومون وطبقوه خلال الحرب وتحت القصف، وهذا يثبت سرعة تكيف وتطور المقاومة ويبين حجم المعضلة التي غرق فيها جيش الاحتلال. وفق تقديره.