بين قيمها المزعومة وولائها للصهيونية.. استقالات هولندا تعزز مأزق أوروبا

داود علي | منذ ٦ ساعات

12

طباعة

مشاركة

الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني في غزة لم تعد شأنا شرق أوسطيا بعيدا عن العواصم الأوروبية، بل صار زلزالا سياسيا داخليا يضرب قلب الاتحاد الأوروبي. 

فقد تحولت صور المجازر والحصار إلى مرآة تعكس الانقسام العميق داخل الأحزاب والحكومات الأوروبية، فمن جهة تيارات يسارية وشعبية تضغط من أجل محاسبة إسرائيل، ومن جهة أخرى تفضل نخب يمينية التمسك بالتحالف مع الصهيونية.

من لندن إلى مدريد، ومن برلين إلى بروكسل، باتت الإبادة الجماعية الإسرائيلية ضد غزة اختبارا لثوابت السياسة الخارجية الأوروبية، كاشفة عن فجوة بين الشارع الغاضب والأنظمة الحاكمة. 

لكن ذروة الارتدادات ظهرت في هولندا، حيث لم يقتصر الأمر على جدل سياسي أو مظاهرات شعبية، بل انفجر داخل مجلس الوزراء نفسه.

ففي لاهاي، تحول الخلاف حول كيفية التعامل مع إسرائيل إلى أزمة حكم حقيقية، انتهت باستقالات متتالية لوزير الخارجية وعدد من الوزراء المنتمين إلى حزب العقد الاجتماعي الجديد (NSC)، احتجاجا على عجز الحكومة عن اتخاذ إجراءات ملموسة ضد إسرائيل.

زلزال سياسي

وبدأت الأزمة عندما أعلن وزير الخارجية الهولندي كاسبار فيلد كامب، وهو سفير سابق لبلاده في تل أبيب وعضو في حزب العقد الاجتماعي الجديد استقالته، في 22 أغسطس/ آب 2025، احتجاجا على ما وصفه بعجز الحكومة عن اتخاذ إجراءات ملموسة بحق إسرائيل، رغم فظاعة الانتهاكات المرتكبة في غزة.

استقالة فيلدكامب فتحت الباب أمام سلسلة انسحابات متتالية من الحزب نفسه، شملت وزير الشؤون الاجتماعية ونائب رئيس الوزراء إيدي فان هيوم، ووزيرة الداخلية جوديث أوترمارك، ووزيرة التعليم إيبو بروينز، ووزيرة الصحة دانييل يانسن, ذلك إلى جانب عدد من وزراء الدولة، بينهم وزيرة الدولة لشؤون التجارة الخارجية هانكه بورما.

هذه التطورات جاءت لتؤكد عمق الانقسام داخل الائتلاف الحاكم حول كيفية التعامل مع إسرائيل، إذ أقر فان هيوم بأن الخلاف حول الملف الإسرائيلي كان السبب المباشر للانسحاب. 

وقال: "إن فيلد كامب كان يضغط باستمرار لفرض عقوبات إضافية، بينما بقية مكونات الحكومة كانت تضع المكابح عند كل محاولة". 

أما زعيمة حزب "NSC"، نيكولين فان فرونهوفن، أوضحت أن الحزب وجه مرارا رسائل بضرورة تشديد الإجراءات على إسرائيل وتحسين الموقف الهولندي، لكن تجاهل تلك المطالب دفعه إلى اتخاذ قرار الانسحاب.

مساعي فيلد كامب 

ولم يكن اسم كاسبار فيلد كامب، غريبا على إسرائيل قبل أن يتسلم منصب وزير الخارجية، فهو دبلوماسي مخضرم وسفير سابق لهولندا في تل أبيب، عرف بحرصه على نسج قنوات خلفية مع الحكومة الإسرائيلية. 

وحين تولى حقيبة الخارجية، بدا في عامه الأول أنه يسير على نهج أسلافه، دبلوماسية هادئة، تواصل خلف الكواليس، مع إدانات محدودة عندما يشتد العدوان على غزة.

لكن مسار الرجل سرعان ما تبدل مع تصاعد الحرب شيئا فشيئا، حيث تحول إلى أحد أكثر الأصوات الأوروبية صرامة في مواجهة السياسات الإسرائيلية، مدفوعا بالصور القادمة من القطاع وبالانسداد السياسي داخل الاتحاد الأوروبي.

ففي البداية، كان يرى أن مخاطبة إسرائيل بعيدا عن الإعلام هي السبيل لتحقيق النتائج، لكن في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 أعلن دعمه العلني لقرار المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت. 

وذهب أبعد من ذلك حين أكد أن هولندا ستنفذ الاعتقال إذا دخل نتنياهو أراضيها، وهي خطوة أثارت غضب تل أبيب وأدت إلى إلغاء زيارة رسمية له كانت مقررة.

ومع استئناف إسرائيل قصف غزة بعد خرقها وقف إطلاق النار في مارس/ آذار 2025، برز التحول الكبير في مواقفه. 

في أبريل/ نيسان 2025 استدعى السفير الإسرائيلي في لاهاي لأول مرة، احتجاجا على مقتل 15 عامل إغاثة فلسطينيا برصاص الجيش الإسرائيلي، في سابقة لم تشهدها الدبلوماسية الهولندية من قبل.

ثم صعد أكثر، فدعا في مايو/ أيار 2025 إلى فتح نقاش أوروبي حول تعليق اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، بحجة أن الأخيرة تنتهك القانون الدولي وتمنع وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة. 

وبمسارات فيلد كامب، تحولت هولندا من واحدة من أكثر الدول الأوروبية تحفظا على انتقاد إسرائيل، إلى لاعب متشدد ضدها.

مواقف تاريخية

ولم تتوقف مواقف الوزير الهولندي السابق عند هذا الحد، ففي يوليو/ تموز 2025 اتخذ قرارا تاريخيا بمنع وزيري الحكومة الإسرائيلية إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش من دخول الأراضي الهولندية، واصفا تصريحاتهم بأنها تحريض على العنف وتطهير عرقي بحق الفلسطينيين.

وبعد أسابيع، في مطلع أغسطس 2025، أعلن إلغاء تصاريح تصدير مكونات سفن حربية لإسرائيل. 

مؤكدا أمام البرلمان أن "الوضع في غزة يجعل من المستحيل عمليا منح تراخيص تصدير أسلحة قد تستخدم في العدوان على القطاع أو في الضفة الغربية".

هكذا، انتقل فيلدكامب من دبلوماسي هادئ إلى أشد وزراء الخارجية الأوروبيين صداما مع إسرائيل. 

بلغ الأمر ذروته حين اقترح فرض حظر وطني على التجارة مع المستوطنات غير الشرعية، بعد توقيعه بيانا مشتركا مع 20 دولة أوروبية وصف المشاريع الاستيطانية بأنها "غير مقبولة ومخالفة للقانون الدولي".

وضع الحكومة 

كذلك فإن تأثير فيلد كامب، تجاوز مساراته السياسية السابقة، عندما تسببت استقالته الأخيرة، وإنهاء مسيرته الوزارية، في أزمة سياسية داخل لاهاي.

فمع رحيله ووزراء حزبه، ترك الحكومة المؤقتة أكثر هشاشة؛ إذ باتت تعتمد فقط على حزبي الشعب من أجل الحرية والديمقراطية (VVD) الليبرالي، وحركة الفلاحين المواطنين (BBB) الشعبوي. 

واتهم الحزب الأخير شركاءه المستقيلين بترك البلاد بلا دفة قيادة، معتبرا أن انسحابهم خلال مفاوضات حساسة يزيد الوضع السياسي تعقيدا.

رئيس الوزراء ديك شوف أعرب من جانبه عن "أسفه العميق" لهذه الاستقالات، لكنه أكد احترامه لقرارات الوزراء المستقيلين، في وقت تستعد فيه هولندا لانتخابات مبكرة نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2025، ما يترك البلاد في فراغ سياسي خطير وسط أزمة دولية متفاقمة.

وبذلك، تحولت غزة من ملف خارجي ملتهب إلى زلزال داخلي يضرب قلب السياسة الهولندية، كاشفا عجز الحكومة عن اتخاذ موقف حازم تجاه إسرائيل.

لا سيما أنه تتعرض لضغوط إضافية بسبب الاحتجاجات الشعبية ضد الإبادة الجماعية الإسرائيلية ضد غزة، حيث وصل عدد المشاركين في التظاهرات إلى نحو 150 ألف شخص. 

وطالب المتظاهرون بفرض عقوبات على الاحتلال من أجل السماح بالوصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع الذي أعلنت الأمم المتحدة في 22 أغسطس 2025، رسميا المجاعة فيه.

أكثر حزما

ومن الأزمة الهولندية إلى الحالة الأوروبية الأوسع، فإنه حسب تقرير صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية في 10 أغسطس 2025،  لم يعد بوسع العواصم الأوروبية تجاهل صور المجاعة والدمار القادمة من غزة. 

فالمشاهد المروعة لأطفال يتضورون جوعا ومشاريع الاستيطان الإسرائيلية المتسارعة حولت الشارع الأوروبي إلى قوة ضغط حقيقية على حكوماته. ودفعتها إلى مواقف أكثر صرامة تجاه تل أبيب، خشية أن تدفع ثمنا سياسيا داخليا باهظا إذا استمرت في سياسة الصمت أو التواطؤ.

وذكرت الصحيفة أنه في برلين، يوم 23 يوليو/ تموز 2025، التقى المستشار الألماني فريدريش ميرز والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قصر تاريخي يطل على بحيرة تيغل. 

وخلال اللقاء، أبلغ ماكرون مضيفه أنه يواجه ضغوطا متصاعدة في الداخل الفرنسي، وأن الاعتراف بدولة فلسطينية بات خيارا ملحا سيطرح في الأمم المتحدة مع نهاية سبتمبر/ أيلول. 

ميرز تعامل مع الطرح بصفته جدولا زمنيا يمنح الأوروبيين فرصة لترتيب خطواتهم. 

لكن المفاجأة أن ماكرون لم ينتظر، بل أعلن قراره في اليوم التالي، قائلا إن الاعتراف بفلسطين هو "التزام فرنسا بسلام عادل ودائم".

الخطوة الفرنسية تبعتها بعد أيام مبادرة بريطانية مشابهة، إذ أعلن رئيس الوزراء كير ستارمر موقفه المؤيد لقيام دولة فلسطينية، في تحول وصفته الصحف الغربية بأنه إعلان استقلال أوروبي عن الخط الأميركي في الشرق الأوسط. 

هذا التغيير لم يكن ثمرة تنسيق دقيق بين العواصم الأوروبية، بل نتاج اندفاع دبلوماسي محموم تحت وطأة الغضب الشعبي، وإدراك بأن القارة لم تعد قادرة على انتظار قيادة الولايات المتحدة أو على كبح اندفاعة بنيامين نتنياهو.

وهكذا، تحولت غزة إلى امتحان مزدوج، اختبار لقدرة أوروبا على صياغة سياسة خارجية مستقلة، واختبار لمدى استعداد حكوماتها للاستجابة لمجتمعاتها قبل أن تخسر ثقة الناخبين وتدفع الثمن في صناديق الاقتراع.

الموقف السلوفيني 

كذلك جاءت سلوفينيا، الدولة البلقانية الصغيرة التي انضمت للاتحاد عام 2004، لتفاجئ القارة المتخبطة تجاه الاحتلال، بخطوة جريئة. 

ففي 7 أغسطس/آب 2025، أعلنت حكومة ليوبليانا حظر استيراد منتجات المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة، وأشارت إلى أنها تدرس إجراءات إضافية تشمل منع تصدير أي بضائع قد تستخدم في دعم تلك المستوطنات. 

وزيرة الخارجية تانيا فاجون وصفت القرار بأنه "رمزي" من حيث أثره التجاري، لكنه ضرورة سياسية وأخلاقية أمام ما يجري في غزة والضفة. وأضافت أن بلادها "لن تكون جزءا من سلسلة دول تغض الطرف عن البناء غير القانوني ومصادرة الأراضي وعمليات الطرد".

الحكومة السلوفينية شددت أيضا على أن القرار جاء بعدما تأكدت أن الاتحاد الأوروبي عاجز عن التحرك الجماعي، في وقت تواصل فيه المفوضية الأوروبية اقتراحات مثل تعليق جزئي لاتفاقية الشراكة مع إسرائيل دون أن تجد موافقة الدول الأعضاء. 

وفي موازاة ذلك، أكدت ليوبليانا أنها تحظر تصدير أو استيراد الأسلحة والمعدات العسكرية من وإلى إسرائيل، مشيرة إلى أنها لم تصدر أي ترخيص منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023 بسبب الإبادة ضد غزة.

تلك الخطوة السلوفينية لم تكن حدثا معزولا، بل جاءت في سياق تصاعد الضغوط الشعبية والسياسية داخل أوروبا لاتخاذ عقوبات فعلية ضد إسرائيل، وإعادة صياغة العلاقات معها.