حين تتكامل مأساة السودان.. كيف سرع تمرد حميدتي من انتشار الكوليرا؟

داود علي | منذ ساعة واحدة

12

طباعة

مشاركة

لم يعد تمرد قائد مليشيا الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي” وحده هو ما يحصد أرواح المدنيين في السودان، بل انضم إليه وباء الكوليرا في هجمة قاتلة، تهدد ما تبقى من مقومات الحياة في البلاد.

فوسط انهيار شبه كامل للنظام الصحي، وسقوط البنية التحتية الطبية تحت ضربات الصراع المسلح بين الجيش وقوات الدعم السريع المتمردة، أعلنت منظمة أطباء بلا حدود في 14 أغسطس/ آب 2025، عن تسجيل أسوأ تفش للكوليرا يشهده السودان منذ سنوات. 

خريطة الانتشار

في إقليم دارفور وحده، تلقى أكثر من 2300 مريض العلاج خلال أيام معدودة، بينما فقد ما لا يقل عن 40 شخصا حياتهم خلال أسبوع واحد فقط، في مشهد يختصر تداخل الأزمات وتراكم الكوارث.

وحذرت المنظمة في بيان من أن هذا الوباء، إذا ترك دون استجابة عاجلة ومنسقة، فقد يتحول إلى كارثة صحية شاملة تمتد من بؤر النزاع في الغرب إلى مناطق النزوح ومخيمات اللاجئين، حيث انعدام المياه النظيفة وشح الغذاء والدواء يوفران بيئة مثالية لانتشاره. 

وبدورها أوردت شبكة “أطباء السودان” أن عدد الإصابات بالكوليرا تجاوز ستة آلاف حالة في دارفور، مع تسجيل 103 وفيات في منطقة طويلة وحدها حتى مطلع أغسطس 2025.

ووفقا لبيانات المنظمة، انتشر المرض منذ بداية الحرب في أبريل/نيسان 2023، بجميع ولايات البلاد الثماني عشرة تقريبا.

وعلى بعد 70 كيلومترا فقط من مدينة الفاشر، آخر معاقل الجيش السوداني في دارفور والمطوقة منذ أكثر من عام، تحولت بلدة “طويلة” إلى مركز رئيس لتفشي وباء الكوليرا. 

البلدة التي تستضيف مئات الآلاف من النازحين الفارين من أعمال العنف، باتت أمام مشهد إنساني قاس، بعد أن امتلأت أجنحة علاج الكوليرا مطلع أغسطس، وباتت الأسرة المتواضعة محملة بالمرضى المنهكين.

وفي ولاية شمال كردفان، دفعت الحرب وتفشي الكوليرا عشرات الآلاف للنزوح نحو مدينة الأبيض، عاصمة الولاية. 

وأكدت حكومة الولاية استقبال موجات كبيرة من النازحين من شمال بارا والخوي وجنوب الأبيض، وسط تسجيل وفيات وإصابات متزايدة. 

منظمة "أطباء بلا حدود" حذرت، في بيانها من أن المرض لم يعد محصورا داخل الحدود، مع مؤشرات على تمدده إلى دول الجوار تحديدا تشاد. 

وفي تحذير أممي مواز، قال ممثل منظمة الأمم المتحدة للأطفال “يونيسف” في مقديشو شيلدون ييت، إن الوباء عبر بالفعل إلى جنوب السودان ويتجه الآن نحو تشاد، مضيفا أن عدم احتواء الأزمة يعني استمرار تمددها عبر الحدود لأسابيع وربما أشهر.

وأوضح منسق مشاريع "أطباء بلا حدود" بالبلدة سيلفان بانيكو، أن “الأسر كثيرا ما تضطر للشرب من مياه غير آمنة، مما يتسبب في إصابة الكثيرين بالكوليرا”. 

وكشف لوكالة الصحافة الفرنسية عن واقعة صادمة قبل أسبوعين، عندما عثر على جثة في بئر داخل أحد المخيمات، وبعد إخراجها، اضطر السكان لاستخدام البئر ذاته بعد يومين لغياب أي بديل.

انعدام الرقابة 

وقد حذرت “يونيسف” من أن نحو 640 ألف طفل دون سن الخامسة في ولاية شمال دارفور وحدها معرضون لخطر الإصابة، في ظل استمرار المعارك للسيطرة على مدينة الفاشر.

كما أكدت أن مكافحة الكوليرا تتطلب أنظمة ترصد متكاملة تشمل الإبلاغ الفوري، وتحليل البيانات، وتبادل المعلومات من المستوى المحلي إلى العالمي. 

وتشير إلى أهمية الاختبارات التشخيصية السريعة للكشف المبكر عن الفاشيات، مع ضرورة تأكيد النتائج عبر الفحوص المخبرية. 

غير أن السودان، بفعل الحرب والحصار، يعاني من شلل شبه كامل في قدرته على تطبيق هذه الإجراءات، ما يترك مساحات شاسعة للوباء لينتشر دون رقابة أو تدخل فعال.

إذ انهارت البنية التحتية الطبية، وانعدمت المياه النظيفة والمرافق الصحية والدواء في كثير من ولايات السودان.

وهو ما دفع مئات الآلاف من النازحين للجوء إلى حلول بدائية مثل خلط الماء بالليمون في محاولة يائسة لمواجهة البكتيريا القاتلة.

وتصف منظمة الصحة العالمية عبر موقعها الرسمي، الكوليرا بأنها عدوى حادة تسبب إسهالا شديدا، وتنجم عن تناول أطعمة أو مياه ملوثة، وتعد مؤشرا صارخا على غياب العدالة الاجتماعية وانعدام التنمية الاقتصادية، والانفلات. 

وعلى الرغم من أن معظم المصابين ببكتيريا الكوليرا لا تظهر عليهم أعراض، فإنهم يظلون قادرين على نقل العدوى عبر البراز لمدة تتراوح بين يوم و10 أيام أما لدى من تظهر عليهم الأعراض. 

وترى المنظمة أن العلاج المبكر يمكن أن ينقذ الأرواح، عبر إعطاء محاليل تعويض السوائل عن طريق الفم أو الحقن الوريدي، إلى جانب استخدام المضادات الحيوية. 

خسائر القطاع الصحي

ورأت المنظمة أن حجم تفشي المرض جاء نتيجة الحصار الذي تفرضه مليشيات الدعم السريع المدعومة إماراتيا، وهو ما عطل سلاسل الإمداد وأوقف برامج الرعاية الأساسية، وأدى إلى نقص حاد في الأدوية ونزوح مئات الأطباء والكوادر الطبية. 

وحملت  القوات المتمردة المسؤولية الكاملة عن تفشي الوباء، مؤكدة أنها تمنع المؤسسات الرسمية والمنظمات الإنسانية من التدخل العاجل، كما دعت المجتمع الدولي لاتخاذ مواقف حازمة لضمان وصول المساعدات وحماية المدنيين من سياسات التجويع والترويع.

وقال مفوض العون الإنساني بولاية شمال كردفان، محمد إسماعيل، إن أكثر من 600 أسرة، أي نحو 30 ألف شخص، فروا من مناطق النزاع. 

وأشار إلى أن بعض القرى المستهدفة لا تشهد قتالا حاليا، لكن حجم النزوح كبير، حيث وصل سكان قرى مثل أم زين مشيا على الأقدام أو على ظهور الدواب، ومن المحتمل أن يكون كثير منهم محملين بالوباء. 

ولم يكن تفشي الكوليرا في السودان معزولا عن واقع الحرب، فمنذ اندلاع الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع، خسرت البنية التحتية الطبية نحو 80 بالمئة من فاعليتها، ما جعل المستشفيات عاجزة عن أداء دورها، وحولها من مراكز للعلاج إلى مسارح للموت والخراب.

وفي 23 أبريل 2025، كشفت وزارة الصحة السودانية أن حجم الخسائر التي لحقت بالقطاع الصحي جراء الحرب تجاوز 11 مليار دولار، وأن 519 مستشفى استهدف في مختلف ولايات البلاد. 

كما قتل أكثر من 119 من الكوادر الطبية، فيما تعرض العشرات للاعتقال والتعذيب، ما أدى لنزوح مئات الأطباء والعاملين بالقطاع من مناطق النزاع.

وفي ظل هذه الظروف، لجأ المواطنون في بعض المناطق المحاصرة إلى حفر خنادق داخل المستشفيات لتكون ملاجئ مؤقتة للأطباء والمرضى. 

بينما استخدمت قوات الدعم السريع مستشفيات أخرى كثكنات عسكرية أو لتقديم الخدمات الطبية لجنودها، ما زاد حرمان المدنيين من حقهم في العلاج.

وإلى جانب الكوليرا، كشف مركز الطوارئ الصحية عن تسجيل 13.314 إصابة بحمى الضنك، بينها 21 وفاة، بـ10 ولايات، إضافة إلى 2.547 إصابة بالحصبة بينها 6 وفيات، رصدت بـ11 ولاية.

وأقرت وزارة الصحة كذلك بأن كميات المحاليل الخاصة بالكوليرا وحمى الضنك لا تزال محدودة، من دون تقديم إحصاءات دقيقة.

ومع مطلع يوليو 2025، أطلق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية “أوتشا” تحذيرا خطيرا، مؤكدا أن 33.5 مليون شخص، بينهم 5.7 مليون طفل، مهددون بالإصابة بالكوليرا، في ظل انهيار المنظومة الصحية، وشح المياه النظيفة، وعجز البلاد عن الاستجابة لتفشي الأوبئة.

الخوف يسيطر

وقال الطبيب السوداني وائل علي في تصريح لـ "الاستقلال": إن الوضع الصحي في السودان بلغ مرحلة حرجة.

وأشار إلى أن "معظم من يعانون الآن من وباء الكوليرا يقيمون في أماكن تقع خارج نطاق تغطية الحكومة، وأغلبهم في مناطق مليشيا الجنجويد (قوات الدعم السريع) التي استولت على جزء من الأرض لكنها عاجزة تماما عن تقديم أي خدمات أساسية".

وأضاف علي أن "الجنجويد وقادتهم ليست لديهم أدنى فكرة عن كيفية إدارة الخدمات أو ممارسة العمل الإداري، وهو ما يفاقم الأزمة ويترك المدنيين في مواجهة الموت بلا حماية".

وتابع: "نحن نعيش ظروفا بالغة الصعوبة، الكوليرا تجتاح الأحياء كالنار في الهشيم، والموت أصبح مشهدا مألوفا ومخيفا". 

وواصل القول: "فقدنا حتى الآن مواطنين من جيراننا بينهم أطفال ونساء وشباب، والخوف يسيطر على الجميع". 

وأوضح أن عدد المستشفيات الحكومية محدود ولا يلبي الحاجة، فيما ترفض الخاصة منها استقبال المصابين، مما يعيق وصول المرضى إلى العلاج في الوقت المناسب.

وأشار علي إلى أن تقارير طبية حديثة رجحت أن تكون بعض الإصابات الحالية والتي تتشابه أعراضها مع الكوليرا ناجمة عن تسمم كيميائي.  ولفت هنا إلى "تسرب دخان وغبار من مخزن أسلحة في مدينة دارفور قبل شهر". 

وأردف أن "ما يحدث في دارفور، وتحديدا في الفاشر إضافة إلى شمال كردفان، ليس مجرد تفش للكوليرا، وإنما قد يكون نتاجا مباشرا لتسمم ناجم عن استخدام أسلحة كيميائية من قبل المتمردين، وهو أمر يجب بحثه والتحقيق فيه".