آثاره ما زالت مستمرة.. ما الذي يعيق التحقيقات في تفجير مرفأ بيروت؟

12

طباعة

مشاركة

سنة كاملة مرت على تفجير مرفأ بيروت، الذي خلف دمارا كبيرا في العاصمة اللبنانية، وأوقع أكثر من 230 ضحية، وما يزيد على 8000 جريح، مع تشريد 300 ألف عائلة.

صنف التفجير ضمن أقوى عشرة انفجارات شهدتها البشرية عبر التاريخ، إذ وصفته وسائل إعلام عالمية بـ"هيروشيما بيروت"، وأرخت تداعياته بثقلها على مختلف مناحي الحياة في لبنان.

فتحت تأثير التفجير، استقالت حكومة حسان دياب، ولا تزال تصرف الأعمال حتى الساعة، بسبب عجز القوى السياسية المكونة للبرلمان عن الاتفاق فيما بينها على حكومة جديدة. 

وفي الوقت الذي كانت فيه النخب السياسية تتراشق تهم التعطيل فيما بينها، انهار الاقتصاد أكثر فأكثر، وسجلت العملة الوطنية أرقاما قياسية في الانهيار بين الحين والآخر، ما أدى إلى زيادة التفسخ الاجتماعي بين مختلف الفئات اللبنانية.

ووسط كل هذه الأجواء المشحونة، كان الأهالي الذين فقدوا ذويهم يتقلبون على نار الجمر المستعر من الانفجار، واضعين آمالاهم على المحقق العدلي في القضية القاضي طارق بيطار.

كما عولوا عليه لفك طلاسم هذه الكارثة المروعة، في بلد يشتهر بالكثير من الانفجارات والاغتيالات السياسية التي بقيت مجهولة الفاعل حتى اليوم. 

أثمرت ضغوط الأهالي، مدعومة بموجة تأييد شعبي جارف وعارم، عن إبقاء القضية حية رغم كل المحاولات التي جرت لحرف التحقيق عن مساره، وطمس الانفجار وآثاره. 

ومع زيادة الضغط الشعبي، اقتحمت قضية تفجير ميناء بيروت وتداعياته المشهد السياسي في لبنان، وأضحت عاملا أساسيا في التحالفات والخصومات السياسية الناشئة، بالإضافة إلى الآثار الاقتصادية الهائلة التي لا تزال تتكشف يوما بعد آخر.

فما هي الآثار الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة للانفجار؟ وكيف تحاول القوى السياسية توظيفه انتخابيا؟ وكيف تستخدم السلطة السياسية الحصانات القانونية للهروب من المحاسبة؟

الآثار الاقتصادية 

لم يكن "بور بيروت" ميناء عاديا، أو معبرا حدوديا مائيا فقط، فالميناء الذي أنشأ عام 1894، كان الرئة التجارية للعاصمة وجبل لبنان في البداية، ثم للدولة اللبنانية بعد قيام دولة لبنان الكبير. 

وفي تقرير نشره موقع الوكالة الوطنية للإعلام، اعتبر أن مرفأ بيروت يشكل مركز التقاء للقارات الثلاث: أوروبا، آسيا، وإفريقيا، وهذا ما جعله ممرا لعبور أساطيل السفن التجارية بين الشرق والغرب.

وخلال السبعينيات من القرن العشرين، كان أهم محطة للتجارة الدولية مع الدول العربية المحيطة، حتى تفجيره في 4 آب/أغسطس 2020.

وتضمن التقرير خلاصة دراسة أجراها البنك الدولي، قدر فيها الخسائر الناجمة عن التفجير ما بين 6.6 مليار دولار و8.1 مليار دولار.

والأرقام حصيلة استخدام بيانات أرضية وأدوات وتكنولوجيا متطورة عن بعد، لتقييم الأضرار التي لحقت بالموجودات المادية والخسائر الاقتصادية الناجمة عن ذلك، واحتياجات التعافي وإعادة الإعمار.

وفي نفس السياق، أشارت دراسة البنك الدولي، أن الأضرار المباشرة للانفجار هي ما بين 3.8 و4.6 مليار دولار، مع الإشارة إلى وقوع أشد الأضرار في قطاعي الإسكان والإرث الثقافي. 

وقدرت خسائر القطاعات الاقتصادية ما بين 2.9 مليار و3.5 مليار دولار. 

بالإضافة إلى خسارة ما يناهز الـ 240 مليون دولار، وهي قيمة المداخيل السنوية للمرفأ، والتي تتحدث بعض الدراسات عن أرقام أكثر من ذلك بكثير، حيث إن المشاكل الإدارية وضعف الحوكمة فيه، تجعلان الرقم المذكور بعيدا نسبيا عن الواقع.

في سياق متصل، نشرت جريدة الأخبار اللبنانية، في الذكرى الأولى للانفجار، تقريرا للباحث رضا صوايا، يقول فيه: إن 70 بالمئة من الدمار الذي خلفه الانفجار لا يزال قائما.

وأشار إلى أن الدولة لم تنشر حتى اليوم أي خطة شاملة لإعادة إعمار المناطق المتضررة، بما يسرع عودة السكان المنكوبين إلى منازلهم. 

وحسب التقرير، فإن من تشردوا واضطروا إلى الانتقال لمساكن بديلة في مناطق أخرى، باتوا يتحملون كلفة الإيجارات من جيبهم الخاص، إذ إن الجمعيات والمنظمات غير الحكومية لم تدفع سوى إيجار 3 أشهر فقط على ما ينقل كثيرون ممن هجروا.

 وتزداد المخاوف من أن يساهم التلكؤ بإعادة الإعمار، في تسهيل بقاء من تهجر من السكان في المناطق التي انتقلوا إليها، والحد من رغبتهم بالعودة بعد أن يكونوا قد تأقلموا مع حياتهم الجديدة.

الآثار السياسية

من جانب آخر، كانت الساحة السياسية، منذ ما قبل تفجير 4 آب/أغسطس، حافلة بالانقسامات بين الأحزاب والتيارات السياسية، لاسيما بعد انتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019.

 وأسهم التفجير في تعميق حدة الشرخ فيما بينها، حيث يحاول بعضها استخدام دماء الضحايا وآلام أبنائهم للتصويب على خصومه، خاصة بعد صدور لائحة اتهامية أولية عن المحقق العدلي في الجريمة، تضمنت أسماء وزراء ينتمون إلى الأحزاب الإسلامية، وقيادات أمنية غير بعيدة عنها. 

تلك اللائحة أدت الى استبعاد المحقق العدلي "فادي صوان" بتهمة الشك الارتيابي، ليصدر خلفه القاضي طارق البيطار، لائحة اتهامية مماثلة، حرص فيها على تسريب الأسماء للإعلام، بغية تحشيد الرأي العام ضد المتهمين، استباقا لأي ردة فعل منهم. 

بيد أن الانتخابات النيابية التي باتت على الأبواب، دفعت القوى السياسية المسيحية إلى استغلال ما حصل لشن حملات سياسية وإعلامية ضد القوى الإسلامية، مستغلة في ذلك أن التدمير طال المناطق المسيحية حصرا، على الرغم من أن الضحايا من جميع الملل والطوائف. 

هذا الاستثمار في الدماء ليس جديدا ولا يعد دخيلا على المشهد السياسي في لبنان، إذ قلما يخلو خطاب زعيم أو حزب سياسي من استحضار الضحايا. 

والجدير بالذكر أن الأحزاب اللبنانية، وهي ذات بنية طائفية صافية، لدى كل واحد منها قتلاه الخاصون. وهذه الأجواء الطائفية أعادت استحضار لغة ومفردات الحرب الأهلية.

وفي هذا الصدد، نشر موقع "أساس ميديا" مقالا لرضوان السيد، تضمن هجوما سياسيا شرسا وانتقادات لاذعة إلى "التيار الوطني الحر" (حزب رئيس الجمهورية ميشال عون)، و"القوات اللبنانية" (يرأسه سمير جعجع)، وهما الحزبان المسيحيان الأكثر تمثيلا وشعبية.

اتهمهما السيد بالعودة إلى السياسات التي كانت متبعة أيام الحرب الأهلية الأليمة، وأنهما يتهمان المسلمين بالوقوف خلف انفجار المرفأ، رغبة منهما في شد عصب المسيحيين، لاسيما الموارنة منهم وقبل الانتخابات النيابية في ربيع 2022.

وقال السيد: "يسعى كل منهما للحصول على أكبر عدد ممكن من المقاعد المسيحية في الانتخابات التشريعية المقبلة، تمهيدا لخوض انتخابات رئاسة الجمهورية في خريف 2022".

والتي من المتوقع أن تشهد منافسة حامية بشكل أساسي بين جبران باسيل صهر رئيس الجمهورية، وسمير جعجع رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية، وفق ما يقول.

واللافت في الموضوع هو أن رضوان السيد ابتعد عن رئيس الحكومة المكلف السابق سعد الحريري وتيار المستقبل بسبب تنازلاته السياسية المفرطة.

 وكان حتى صدور مقاله على علاقة وثيقة جدا بالقوات اللبنانية ورئيسها سمير جعجع، الأمر الذي يعد مؤشرا بالغ الخطورة إلى ما وصلت إليه الأوضاع جراء الحملات الطائفية.

عقبة الحصانات

هذا الشحن الطائفي والمذهبي استعر إثر إصدار المحقق العدلي في القضية، القاضي إلياس البيطار، لائحة اتهامية أولية، شملت رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، ووزير الداخلية الأسبق، نهاد المشنوق، وهو سني كان ينتمي إلى تيار المستقبل.

وكلا من وزير المالية الأسبق علي حسن خليل، ووزير الأشغال العامة الأسبق غازي زعيتر، وكلاهما شيعيان ينتميان إلى حركة أمل الشيعية التي يتزعمها رئيس مجلس النواب نبيه بري.

 بالإضافة إلى مدير عام الأمن العام، اللواء عباس إبراهيم، وهو شيعي ويلعب أدوارا بارزة على الصعيد السياسي. 

كما أن اللائحة شملت بعض القيادات الأمنية المسيحية الهامشية، حيث وجه إليهم المحقق العدلي تهمة القصد الاحتمالي للقتل.

وكي يستطيع القاضي بيطار التحقيق مع الأسماء المذكورة، فهو بحاجة إلى رفع الحصانة عنهم. 

وهذه النقطة تحديدا يرى الصحفي صهيب جوهر أنها السبب في إشعال الخلاف، حيث احتمى هؤلاء بحصانتهم القانونية، كما بوجود نص قانوني يفرض محاكمة الوزير على أعماله الوظيفية أمام محكمة خاصة تسمى المجلس الأعلى لمحاكمة الوزراء والنواب، وهي فعليا غير موجودة. 

ويوضح جوهر لـ"الاستقلال" أن الأحزاب المسيحية استغلت حالة الغضب التي اعترت أهالي الضحايا، إثر رفض وزير الداخلية السني محمد فهمي، منح القاضي بيطار الإذن لملاحقة اللواء عباس إبراهيم كما يقتضي القانون، لتوجيه سهام حملاتهم ضد القوى السياسية المسلمة من بوابة الوزير، حيث عمدت إلى شن حملات إعلامية مركزة.

ولم تكن البطريركية المارونية بعيدة عنها، حيث دأبت على توجيه اننقادات لاذعة إلى المتهمين في عظاتها الأسبوعية والدعوة إلى مثولهم أمام العدالة وعدم الاحتماء بالحصانة.

ويرى المحامي كمال ناصيف أن هناك استنسابية في التحقيقات، لا سيما مع حجب اسم رئيس الجمهورية ميشال عون، وهو الذي اعترف أمام وسائل الإعلام بأنه وصله تقرير من جهاز أمن الدولة عن خطورة المواد المخزنة في مرفأ بيروت، قبل أسبوع من تفجيره.

ويضيف ناصيف لـ"الاستقلال": لم يحرك عون ساكنا متذرعا بعدم امتلاكه الصلاحيات اللازمة.

ولم يكتف عون بذلك، بل وفقا لموقع "أساس ميديا"، أجرى لقاءات دورية يعقدها القاضي بيطار مع رئيس الجمهورية ومستشاره وزير العدل الأسبق القاضي سليم جريصاتي، بهدف التلاعب بالتحقيقات.

وعمد تيار المستقبل السني مؤخرا، مدعوما من حركة أمل الشيعية، إلى تقديم اقتراح قانون إلى مجلس النواب، لرفع كل الحصانات على اختلاف أنواعها، تسهيلا للتحقيق.

 وبالتزامن مع مطالبة رئيس التيار سعد الحريري بتحقيق دولي في الجريمة، رأت الأحزاب المسيحية في ذلك هروبا من المساءلة ومن العدالة وتمييعا للقضية.

وفي ظل حالة الغضب الشعبي تجاه السلطة السياسية بسبب الأزمة الاقتصادية والمالية، تحاول القوى المسيحية الاستثمار في أوجاع أهالي الضحايا، لا سيما "القوات اللبنانية"، وفقا لجوهر، وتحريض المواطنين على اقتحام منازل الوزراء المتهمين وجميع أملاكهم.

 في حين أن هناك العديد من النخب السياسية والأكاديمية، تجد أن السلطة السياسية برمتها، بما فيها المسيحيون والمسلمون، تفتعل هذا الاشتباك الطائفي والمذهبي، لاستدرار عطف الناخبين وحصد أصواتهم، وفي الوقت نفسه وأد التحقيق في مهده.