بدأت بتلاسنات ماكرون ونتنياهو.. ما حقيقة "الأزمة" بين فرنسا وإسرائيل؟
"العلاقة بين الرجلين لا تبدو قابلة للإصلاح بسبب اختلاف جوهري في النظرة والتطلعات"
أزمة دبلوماسية تتواصل بين فرنسا والكيان الإسرائيلي، تجلت أحدث ملامحها في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025، خلال زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو إلى مدينة القدس المحتلة.
حيث كان من المقرر أن يقوم الوزير الفرنسي بزيارة مجمع كنيسة "الإيليونة" على جبل الزيتون، حيث تعد واحدة من أربعة مواقع مقدسة تملكها فرنسا في القدس الشريف.
لكن المفاجئ أن الشرطة الإسرائيلية بالتزامن مع زيارة الوزير الفرنسي إلى البلاد، اقتحمت الموقع الديني دون تصريح، وبدون تنسيق مع فرنسا.
وفوق ذلك اعتقلت سلطات الاحتلال اثنين من موظفي الأمن الفرنسي الذي يحرس الكنيسة.
وهو ما دفع وزير الخارجية الفرنسي إلى إلغاء زيارته المقررة للموقع، ثم قال غاضبا: "هذا الانتهاك لحرمة الموقع الفرنسي يهدد العلاقات الفرنسية الإسرائيلية، التي نسعى لتطويرها".
خاصة أن زيارة بارو، جاءت وسط توتر بين رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بعد دعوة الأخير لوقف صادرات الأسلحة إلى إسرائيل لمنع استخدامها في حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة.
استدعاء السفير
وجاء رد الفعل الفرنسي سريعا في نفس يوم الحدث، عندما أعلنت وزارة الخارجية الفرنسية استدعاء السفير الإسرائيلي لدى باريس.
وكتبت عبر منصة "إكس"، أن الاستدعاء يأتي احتجاجا على دخول الشرطة الإسرائيلية "مسلحة" و"من دون إذن" في موقع يعد من أملاك الدولة الفرنسية في جبل الزيتون بالقدس.
وأضافت أن وجود قوات أمن إسرائيلية في هذا الموقع واعتقالها لفترة وجيزة رجلي أمن فرنسيين يتبعان جهاز الدرك "غير مقبول".
وتاريخيا حدثت أزمات دبلوماسية مماثلة بين فرنسا وإسرائيل بسبب نفس الكنيسة، ففي 25 أكتوبر/ تشرين الأول 1996، كان الرئيس الفرنسي الراحل "جاك شيراك" في زيارة لإسرائيل، وكان يقوم بجولة سيرا على الأقدام في أحياء القدس العتيقة.
وعندما وصل إلى كنيسة "الإيليونة" رفض الدخول، عندما دخل قبله جنود إسرائيليون مدججين بالسلاح، وهو ما تسبب في غضبه واستيائه.
وفي عام 2020، طالب الرئيس الفرنسي ماكرون، خلال زيارته للقدس، من أفراد الأمن الإسرائيليين، مغادرة كنيسة "القديسة آن" التابعة للمجمع، أثناء زيارته لها.
لذلك فإن حكومة نتنياهو تعلم مدى حساسية هذه المنطقة للإدارة الفرنسية، ومع ذلك تعمدت إبراز هذا السلوك.
أزمة “يورونافال”
السؤال الذي طرح نفسه، لماذا من الأساس عمدت إسرائيل إلى هذه الخطوة مع حكومة ماكرون؟ وهي واحدة من أكبر الحكومات الداعمة لها في أوروبا.
السبب يكمن في أن فرنسا التي دعمت العدوان الإسرائيلي على غزة بدأت في فض شراكتها مع الكيان ورئيس وزرائه بعد تورطهما في إبادة جماعية يحاكمان بسببها في محكمتي العدل والجنايات الدوليتين.
وفي إطار هذا التغير منعت فرنسا مشاركة إسرائيل في معرض الدفاع البحري "يورونافال"، الذي استضافته بين 4 و7 نوفمبر 2024، في ضاحية "فيلبنت" الواقعة قريبا من مطار العاصمة الدولي "شارل ديغول".
فقبل المعرض بأيام تحديدا في 21 أكتوبر، أعلنته، "الهيئة المشرفة"، أنه يمنع على إسرائيل أن يكون لها جناح في المعرض أو تمكينها من عرض منتجاتها العسكرية.
وفي المقابل، تتاح الفرصة للشركات والأفراد الإسرائيليين، أن يأتوا إلى المعرض وأن يقوموا بالاتصالات التي يرغبون فيها. وهو ما أزعج حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة.
فسرعان ما كتب وزير الخارجية (آنذاك) يسرائيل كاتس (يشغل حاليا منصب وزير الدفاع): “أمرت وزارة الخارجية بإطلاق دعاوى قضائية ودبلوماسية ضد قرار الرئيس ماكرون بمنع الشركات الإسرائيلية من عرض منتجاتها في معرض (يورونافال) البحري”.
وأضاف كاتس: "إن مقاطعة الشركات الإسرائيلية وفرض شروط غير مقبولة عليها تعد تدابير منافية للديمقراطية وليس معمولا بها بين الدول الصديقة".
وتابع: "أدعو ماكرون لإلغاء المنع، لأن إسرائيل موجودة في الخط الأول لمحاربة محور الشر الإيراني، ويتعين على فرنسا وكذلك على دول العالم الحر كافة أن تقف إلى جانبها وليس العمل ضدها".
هجوم وتراجع
ودخل على الخط، وزير دفاع الاحتلال (آنذاك) يوآف غالانت، الذي عد قرار ماكرون بمثابة "عار على الشعب الفرنسي وعلى القيم التي يدعي (ماكرون) الدفاع عنها".
وزعم أن حرمان الشركات الإسرائيلية من الحضور يعني "مد يد المساعدة لأعدائها في زمن الحرب".
وأضاف أن "فرنسا تنهج سياسة معادية للشعب اليهودي وليست هذه للمرة الأولى في التاريخ ونحن سنواصل القتال من أجل وجودنا ومستقبلنا مع هؤلاء (الفرنسيين) أو من دونهم".
وعلى خلفية ردود فعل الوزراء الإسرائيليين، عمدت باريس إلى تعديل موقفها، إذ أعطت الإذن للشركات الدفاعية الإسرائيلية للمشاركة في المعرض.
ومع ذلك وضعت قيودا أخرى، حيث اشترطت "ألا يكون بينها شركات استخدمت آلياتها ومعداتها العسكرية في حرب غزة أو حرب لبنان".
وهو الأمر الذي يعني عمليا استبعاد جل الشركات الإسرائيلية، لأنها ضالعة في الإبادة.
ماكرون ونتنياهو
وفي 5 أكتوبر 2024، دعا ماكرون إلى "وضع حد لتسليم الأسلحة اللازمة لشن المعارك في غزة".
وندد نتنياهو بالخطوة قائلا: "بينما تحارب إسرائيل القوى الهمجية التي تقودها إيران، يتعين على جميع الدول المتحضرة أن تقف بحزم إلى جانب إسرائيل".
واستدرك: "لكن الرئيس ماكرون وغيره من القادة الغربيين يدعون الآن إلى حظر الأسلحة إلى إسرائيل، يجب أن يشعروا بالعار".
بعدها بيوم تم محاولة تخفيف الأجواء بينهما في اتصال هاتفي، حيث أبلغ نتنياهو، ماكرون معارضته "وقف إطلاق النار" مع حزب الله في لبنان.
وبحسب موقع "الحرة" الأميركي، قال نتنياهو لماكرون بلهجة حاسمة: "إنه مثلما تدعم إيران أجزاء محورها كافة، فمن المتوقع أن يقف أصدقاء إسرائيل خلفها، وعدم فرض قيود عليها من شأنها أن تعزز قوة طهران ومحورها".
كما أبدى نتنياهو خلال الاتصال، استغرابه من نية الرئيس الفرنسي عقد مؤتمر في باريس حول قضية لبنان، بمشاركة دول مثل جنوب إفريقيا والجزائر.
والتي وصفهما بأنهما "تعمل على حرمان إسرائيل من الحق الأساسي في الدفاع عن النفس وتنكر حقها في الوجود".
تلاسن حاد
لم تهدأ الأزمة بعد ذلك الاتصال، فخلال أيام/ تحديدا في 15 أكتوبر 2024، وقع تلاسن حاد بين ماكرون ونتنياهو من خلال بيانات متبادلة.
فخلال اجتماع لمجلس الوزراء الفرنسي، رد ماكرون على تهجم نتنياهو المتكرر على الأمم المتحدة قائلا: "عليه أن يتذكّر أن بلده ولد بقرار من الأمم المتحدة"، في إشارة إلى تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر 1947 على خطة لتقسيم فلسطين، بين إسرائيل ودول عربية.
ونقل مشاركون في الاجتماع عن ماكرون قوله إنه يجب على نتنياهو ألا يتنصل من قرارات المنظمة الدولية، قاصدا الأمم المتحدة.
وقد أغضب ذلك التصريح نتنياهو، الذي رد عبر بيان قال فيه: “تذكير لرئيس فرنسا.. لم تنشأ إسرائيل بقرار من الأمم المتحدة، بل بموجب الانتصار في حرب الاستقلال الذي تحقق بدماء المقاتلين الأبطال، وبينهم العديد من الناجين من المحرقة، خصوصا من نظام فيشي في فرنسا”، على حد زعمه.
رسالة واضحة
وفي تعليقه على العلاقة بين فرنسا وإسرائيل، كتب السياسي اللبناني سمير سكاف: "تريد إسرائيل توجيه رسالة قوية لفرنسا ولرئيسها ماكرون عبر الأزمة الديبلوماسية المستجدة بين الدولتين، ومفادها أنه لا دور مباشرا لكم في حلول الحروب على غزة وعلى لبنان".
وأضاف في مقالة لصحيفة "الديار" اللبنانية يوم 9 نوفمبر: "أن الرسالة تذهب إلى أكثر من ذلك، عبر استبعاد دور الاتحاد الأوروبي والاكتفاء بالمظلة الأميركية، خاصة مع عودة الرئيس دونالد ترامب الى الرئاسة، والتي عدها نتنياهو ضوءا أخضر له في حروبه، حتى قبل حفل التنصيب المنتظر".
سكاف قال أيضا: "العلاقة بين الرجلين لا تبدو قابلة للإصلاح بسبب اختلاف جوهري في النظرة والتطلعات، على الرغم من دعم ماكرون لنتنياهو في الأشهر الأولى التالية لطوفان الأقصى".
وختم بالقول إن "فرنسا الرسمية، التي تحاول العودة إلى الشرق الأوسط، بالدبلوماسية، وبمبادرات متتالية لم تؤد إلى تحقيق أهدافها بعد، وتجد رفضا إسرائيليا قاطعا لها، حتى إشعار آخر".