بين الغياب الأوروبي والصعود التركي.. من يملأ فراغ النفوذ في القرن الإفريقي؟

"آفاق القرن الإفريقي لا تزال قاتمة"
في ظل التنافس الجيوسياسي المتصاعد في منطقة القرن الإفريقي، سلط معهد إيطالي الضوء على الأدوار المتشابكة لقوى إقليمية ودولية وفي مقدمتها تركيا والولايات المتحدة، في الصومال.
وقال تقرير للمعهد الإيطالي لتحليل العلاقات الدولية: إنه “من خلال إرسال معدات عسكرية متطورة، وتعزيز حضورها في مقديشو وبحرها الإقليمي، تؤكد أنقرة سعيها لترسيخ نفوذها البحري واللوجستي بين إفريقيا والشرق الأوسط”.
في المقابل، تبدي واشنطن اهتماما حذرا بالمنطقة رغم توجهها العام نحو تقليص انخراطها الخارجي، مدفوعة بأهمية مضيق باب المندب وتهديدات حركة الشباب وتنظيم الدولة.
كما ناقش المعهد في تقريره تعقيدات المشهد الصومالي، بما في ذلك قضية "أرض الصومال" وتداعيات الاعتراف المحتمل بها، والمنافسة الإثيوبية على المنافذ البحرية، ودور القاهرة المتنامي كطرف داعم لمقديشو.
وبين الطموحات التركية، والحسابات الأميركية، والمصالح الإفريقية المتشابكة، تبرز الصومال كساحة صراع نفوذ دولي تتقاطع فيها مشاريع إستراتيجية، ومخاطر تفجير إقليمي كامنة.

النفوذ الدولي
وشدَّد التقرير على أن "آفاق المنطقة لا تزال قاتمة إلى حد ما"، لكنه أكد مع ذلك أنها لا تزال "مرشحة لجذب انتباه عدة قوى خارجية".
وأشار إلى أن "رصد مروحيات T-129 أتاك التركية ووسائط عسكرية أخرى في أوائل يونيو/ حزيران 2025، بميناء مقديشو، يظهر مدى التقدم والانخراط المتزايد لتركيا في المشهد المعقد، ولكنه إستراتيجي في القرن الإفريقي".
وأضاف أن "هذا التدفق العسكري الملحوظ موجه إلى الجيش الوطني الصومالي، الذي يقاتل منذ سنوات ضد التمرد والتفكك التدريجي والمستمر للدولة".
ووفقا للتقرير، فقد تُتبعت 6 طائرات شحن تركية من طراز A400M أطلس، بالإضافة إلى طائرة C-17A تابعة لسلاح الجو القطري، كانت قد نقلت هذه المعدات إلى العاصمة.
وأكد أن "هذه الشحنة لا تبرز فقط استمرار التحالف بين أنقرة والدوحة، بل تدل أيضا على أن التقارب التركي من الصومال يهدف إلى أن يصبح أكثر تكاملا".
وأفاد المعهد الإيطالي بأن "وجود القاعدة العسكرية (كامب توركسوم)، التي افتتحت عام 2017 وتستوعب ما يصل إلى ثلاثة آلاف جندي، أتاح تدريب ما يصل إلى 16 ألف جندي صومالي".
وأشار إلى أن "الطيارين المستقبليين للمروحيات ربما يكونون ممن تلقوا تدريباتهم في هذه القاعدة".
وأضاف أن “التعاون امتد أيضا إلى المجال البحري؛ حيث وقعت في فبراير/ شباط 2024، اتفاقية توكل بموجبها للدولة التركية مسؤولية تأمين المياه الإقليمية لمقديشو”.
ولفت التقرير إلى أن "الجانب اللافت يكمن في طبيعة الطائرات المروحية المستخدمة"، موضحا أن "مروحية T-129 أتاك قد طورت انطلاقا من المروحية الإيطالية AgustaWestland AW129، من خلال شراكة مثمرة بين القطاعات الصناعية في البلدين".
كما أشار إلى أن المروحية هي من إنتاج شركة "ليوناردو" (التي كانت تُعرف سابقا باسم "فينميكانيكا")، وقد أطلقت للمرة الأولى في عام 1980.
وذكر أن هذه الطائرة دخلت الخدمة لأول مرة خلال عمليات "السلام" المعقدة على الأراضي الصومالية بين عامي 1992 و1995.
الدور الأميركي
وفيما يخص الدور الأميركي، وصف التقرير الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة بأنه "أكثر تعقيدا".
وتابع موضحا: "ففي هذه المرحلة التاريخية، أبدت واشنطن اهتماما باتباع نهج الانسحاب التدريجي من عدة مناطق حول العالم، بهدف تركيز مواردها على المسرح الإستراتيجي الأكثر أهمية، والمتمثل في آسيا والصين".
وأضاف أن "هذا التوجه قد تجلى بوضوح من خلال التخفيضات الأخيرة التي نفذتها إدارة دونالد ترامب تجاه البعثات الدبلوماسية والإنسانية في إفريقيا".
ومع ذلك، أكد التقرير أنه “إذا كانت هناك منطقة واحدة ذات أهمية حيوية للبيت الأبيض في القارة، فهي بلا شك منطقة القرن الإفريقي”.
وأشار إلى أن "هذه المنطقة إلى جانب كونها مقر الاتحاد الإفريقي (في أديس أبابا)، تطل على المحيط الهندي وعلى مضيق باب المندب الإستراتيجي، الذي يعدّ بوابة البحر الأحمر وممرا لأكبر تدفق بحري تجاري في العالم".
وأردف: "ومن هنا، لا يعد من قبيل المصادفة أن الولايات المتحدة تمتلك في الدولة المجاورة جيبوتي قاعدتها العسكرية الدائمة الوحيدة في القارة الإفريقية (كامب ليمونييه)".
وتابع: "وبالتالي، ورغم انسحابها عام 1995، فإن الأميركيين لم يتوقفوا فعليا عن الاهتمام بالديناميكيات المحلية؛ حيث تدخلوا بين الحين والآخر لمواجهة التمرد ولدعم الحكومات الضعيفة في مقديشو".
ولفت تقرير المعهد إلى أن "ترامب، منذ تسلمه السلطة، شرع مباشرة في تكثيف العمليات الجوية على الأراضي الصومالية. كما أن البيت الأبيض أعلن أخيرا عن نجاحات الضربات الجوية التي نفذت ضد حركة الشباب والفرع المحلي لتنظيم الدولة".
ورغم كل ذلك، فقد شدّد التقرير على أن "آفاق القرن الإفريقي لا تزال قاتمة، لكنّها مرشحة مع ذلك لجذب اهتمام قوى خارجية متعددة".
واستبعد -أو بالأحرى لم يرجح- احتمالية "انخراط تركيا في تدخل مباشر يتجاوز نطاق الدعم والتدريب، وذلك بالنظر إلى انشغالها في مسارح عدة كليبيا وسوريا على وجه الخصوص، إلى جانب انخراطها في ملفات دبلوماسية متعددة، وهو ما يعرضها فعليا لخطر تشتت الموارد".
ومع ذلك، أكد التقرير أن "أنقرة ستواصل توسيع سياستها الإفريقية، التي تعد عنصرا محوريا في إستراتيجيتها الرامية إلى التحول لقوة بحرية مهيمنة بين إفريقيا والشرق الأوسط".
أداة ضغط
فيما أشار إلى وجود تحد إضافي للدبلوماسية الأميركية يتمثل في قضية "أرض الصومال".
وأضاف أنّه "رغم متانة العلاقات غير الرسمية معها، فإن البيت الأبيض يدرس حاليا إمكانية الاعتراف الرسمي بها، بهدف إدماج هذا الكيان الانفصالي في التعاون الناشئ بين تل أبيب ونيودلهي وأبو ظبي".
وأوضح المعهد أن هذا التعاون: "يشمل كذلك مشروع الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC)، الذي تسعى واشنطن إلى إسناد إدارة خليج عدن له بهدف مواجهة الصين".
ورأى أن هذا التوجه الأميركي قد يؤدي إلى توترات إضافية في منطقة قابلة للاشتعال أصلا. إذ إن مقديشو تحتاج بشدة للحفاظ على وحدة أراضيها، وأي اعتراف محتمل بـ"هرجيسا" سيمثل سابقة خطيرة.
ورأى أن ذلك سيعيد إشعال التوتر بين الصومال وإثيوبيا، التي تسعى بشكل حثيث للحصول على منفذ بحري.
وذكر أن هذا الهدف دفع أديس أبابا، في عام 2024، إلى الاتفاق مع سلطات أرض الصومال، عارضة اعترافا دبلوماسيا مقابل الحصول على حق إدارة ميناء بربرة. لكن الرد الدبلوماسي المتوقع من مقديشو أدى إلى تصاعد التوترات.
من جانب آخر، لفت المعهد إلى أن "أنقرة نجحت، في ديسمبر/ كانون الأول 2024، بالتوسط لعقد اتفاق بين الطرفين، ضمنت من خلاله إدارة مدنية للميناء، إلا أن ذلك لم يكن سوى محاولة لاحتواء الوضع، بينما تبقى التوترات قائمة وقضية الاعتراف غير محسومة".
وأشار إلى أن "مصر، التي تشهد علاقات متوترة مع إثيوبيا بسبب النزاع المعقد حول سد النهضة، قد اصطفت إلى جانب مقديشو، وأرسلت بعثة لوجستية إلى الصومال".
وتهدف البعثة رسميا لدعم تدريب القوات الصومالية، لكن التقرير يقول: إن "الهدف الفعلي هو الضغط على أديس أبابا من الجنوب".
كما ذكر التقرير أن "الحكومة الصومالية، في محاولة منها لثني واشنطن، وعدت بالسماح ببناء قواعد للبحرية الأميركية في بربرة".
ورجّح أن "مقاربة أكثر اتساقا مع ديناميكيات البيت الأبيض الحالية قد تدفع الولايات المتحدة إلى لعب دور الوسيط الجديد بين الصومال وإثيوبيا".
وأكد أن كلا البلدين يعتمدان بشكل كبير على تمويلات المعونات الأميركية التي خفضها ترامب؛ حيث كانت إثيوبيا عام 2024 ثاني أكبر المستفيدين، والصومال في المرتبة الخامسة.
ورأى المعهد أن "المساعدات التنموية والاستثمارات يمكن أن تشكل ورقة تفاوضية قوية لا يمكن لكثير من الدول الاستغناء عنها".
وفي الوقت نفسه، رأى أن هذه الورقة قد تتحول إلى أداة ضغط لتقليص الانجراف الإثيوبي نحو مجموعة "بريكس"، التي أصبحت إثيوبيا عضوا فيها عام 2024.
واختتم المعهد بالتأكيد على أن “اتباع واشنطن سياسات أكثر حزما تجاه هرجيسا قد يعيد إشعال الخصومات المحلية، ويقوض خطط أنقرة، ويطلق في الوقت نفسه سلسلة انفجارات محتملة، خاصة إذا ما اقترنت بالصراع السوداني المستمر، مما قد يؤدّي لتفجير إقليمي خطير”.