خلافات تركيا وأميركا في سوريا.. كيف تعقد ملفات أخرى بالمنطقة؟
المنافسة بين القوى الكبرى تُعد الديناميكية الأهم للبيئة الجيوسياسية التركية
تدخل تركيا عام 2025 وسط بيئة سياسية دولية تتسم بتصاعد التنافس والضبابية، مع احتدام المنافسة بين القوى الكبرى، لا سيما بين الولايات المتحدة والصين، إلى جانب حرب طويلة الأمد في أوكرانيا، وتفاقم حالة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط.
وفي ظل هذه التحديات، تنتهج تركيا سياسة خارجية براغماتية قائمة على المصالح، تضع الأمن وتعزيز الاقتصاد والاستقلالية الإستراتيجية في صدارة أولوياتها، وفق ما يرى مركز "سيتا" التركي للأبحاث والدراسات.
وقال المركز في مقال للبروفيسور في جامعة أنقرة للعلوم الاجتماعية، مراد يشيل تاش، إن "عودة دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة تزيد الأمر ضبابية؛ إذ يعقّد نهجه القائم على الصفقات الأطر التقليدية متعددة الأطراف".
كما أن خطاب ترامب الجيوسياسي "التوسعي" يثير قلق جيرانه ويحدث اضطرابا كبيرا في أوروبا.
أما المجتمع الإستراتيجي الأميركي، الذي كان ينتقد روسيا بتهمة التوسع، فقد وصل الآن لنقطة يناقش فيها لماذا يجب على كندا الانضمام إلى الولايات المتحدة.
ديناميكيات المنطقة
وأشار إلى أنه "في حين نجح بعض حلفاء الولايات المتحدة في التكيف مع نمط أكثر براغماتية في التعامل مع واشنطن، تركز تركيا على تعزيز استقلالها الإستراتيجي عبر انتهاج سياسة مرنة تجمع بين التحالف مع القوى الغربية وغير الغربية".
والأكثر من ذلك، تسعى أنقرة إلى تطبيق إستراتيجية خارجية قائمة على بناء شراكات متينة مع جيرانها القريبين والبعيدين، وسط بيئة إقليمية شديدة التعقيد، تفاقمها تحديات مثل الوضع في سوريا ما بعد نظام بشار الأسد، والهدنة الهشة في غزة.
وأفاد بأن "المنافسة المتزايدة بين القوى الكبرى تُعد الديناميكية الأهم التي تشكّل البيئة الجيوسياسية لتركيا حاليا".
فالتنافس الإستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين يؤثر على ديناميكيات التجارة العالمية، والتحالفات العسكرية، وسلاسل توريد التكنولوجيا، مما يُجبر القوى متوسطة الحجم على اتخاذ مواقف مدروسة بعناية في هذا المشهد.
وفي هذا السياق، تواجه تركيا خيارين إستراتيجيين: إما التكيف الانتقائي مع أولويات الولايات المتحدة في إطار حلف شمال الأطلسي (الناتو) والتعاون الدفاعي، أو تبني نهج ائتلاف عملي يُركز على تنويع العلاقات الاقتصادية والأمنية مع قوى غير غربية.
ويشمل الخيار الأخير تحسين العلاقات مع الصين وروسيا ودول إقليمية أخرى، مع الحفاظ على توازن في الانخراط مع الغرب؛ لتجنب عزلة دبلوماسية واقتصادية.
ومع تصاعد التنافس بين القوى العالمية، يتعين على تركيا التحرك بحذر لحماية مصالحها الوطنية وتعزيز نفوذها الجيوسياسي، وفق الكاتب.
ورأى أنه "لا تزال حالة عدم الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط تشكل تحديات معقدة أمام تركيا".
إذ تظل المنطقة نقطة محورية للمنافسة الجيوسياسية، مع تطورات رئيسة مثل إعادة إعمار سوريا في حقبة ما بعد الأسد، والتوترات العسكرية المستمرة بين إسرائيل وإيران، ومراجعة اتفاقيات أبراهام التطبيعية.
وأكد أن “انهيار نظام بشار الأسد في سوريا يحمل لتركيا فرصا وتحديات”.
فبينما تسعى أنقرة للمساهمة في بناء هيكل انتقال مستدام والقضاء على حزب العمال الكردستاني وجناحه السوري "وحدات حماية الشعب"، فإن التراجع في وجود اللاعبين الإقليميين المنافسين مثل إيران وروسيا يعقد جهود تركيا في تحقيق الاستقرار.
وقد يظل مصير حزب العمال الكردستاني/وحدات حماية الشعب في سوريا نقطة اختلاف حاسمة بين تركيا والولايات المتحدة، وفق الكاتب.
الحل أو الصراع
وأشار إلى سيناريوهين محتملين يوضحان كيف يمكن أن تتطور هذه القضية خلال عام 2025.
في السيناريو الأول، قد تتوصل تركيا والولايات المتحدة إلى حل وسط مقبول للطرفين بشأن حزب العمال الكردستاني/وحدات حماية الشعب.
وفي هذا السيناريو، "ستحد الولايات المتحدة من دعمها العسكري والسياسي لهذه التنظيمات؛ إدراكا للمخاوف الأمنية التركية، بينما تمتنع تركيا عن تنفيذ عمليات عسكرية واسعة النطاق في شمال شرق سوريا".
وبهذه الطريقة، مع ضمان أمن المنطقة، يمكن لتركيا قبول إعلان وحدات حماية الشعب بقطع العلاقات مع حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابيا لدى أنقرة.
وبذلك يجرى وضع وحدات حماية الشعب كجهة فاعلة غير عسكرية في إعادة بناء سوريا سياسيا في العهد الجديد. وبيّن أن “مثل هذا السيناريو قد ينوع فرص التعاون بين تركيا والولايات المتحدة”.
فمن خلال الاستفادة من نفوذ تركيا الإقليمي وقدرات الاستخبارات الأميركية، يمكن أن تستمر المعركة ضد تنظيم الدولة دون انقطاع، مع تقليل المخاطر الأمنية من خلال تنسيق الآليات الأمنية بين البلدين.
وفي السيناريو الثاني، قد تتصاعد قضية وحدات حماية الشعب إلى صراع مفتوح بين تركيا والقوات المدعومة من الولايات المتحدة في سوريا.
ونظرا لعد النفوذ المتزايد لوحدات حماية الشعب تهديدا وجوديا، فقد تشن تركيا عمليات عسكرية واسعة النطاق في شمال سوريا؛ لتفكيك بنيتها التحتية.
في المقابل، قد تزيد الولايات المتحدة من دعمها لوحدات حماية الشعب، مما يؤدي إلى تصعيد التوترات وإشعال فتيل صراع بالوكالة.
وفي مثل هذا السيناريو، قد يؤدي التصميم العسكري التركي وإصرار الولايات المتحدة على دعم وحدات حماية الشعب إلى تصعيد التوتر في العلاقات الثنائية.
ووفق الكاتب، لن يؤدي سيناريو الصراع إلى إلحاق أضرار جسيمة بالعلاقات الثنائية فحسب.
بل قد يوقع سوريا أيضا في بيئة أمنية تنافسية خلال الفترة الانتقالية، ويقلل من التعاون في مجالات موضوعية أخرى ويدفع تركيا إلى البحث عن تحالفات بديلة لموازنة النفوذ الأميركي.
تحديات أخرى
علاوة على ذلك، تواجه تركيا تحديا معقدا في إدارة دورها في “النزاع الإسرائيلي الفلسطيني”، وفق الكاتب.
إذ يُتوقع أن تلعب دورا محوريا في تحقيق هدنة دائمة بين إسرائيل و(حركة المقاومة الإسلامية) حماس، وكذلك في إعادة إعمار غزة.
واستدرك: "لكن استمرار التصعيد العسكري الإسرائيلي في غزة ولبنان، بدعم من واشنطن، قد يفتح الباب لتحول سوريا إلى ساحة جديدة للتنافس بين تركيا وإسرائيل".
في هذا السياق، يرى الكاتب أن سياسة أنقرة ستعتمد على إستراتيجية دبلوماسية مرنة تهدف لموازنة زيادة النفوذ الإسرائيلي في المنطقة، بينما تسعى تركيا إلى الحفاظ على دورها الوسيط المؤثر في الأزمة.
وأكد أن "إتقان فن التنسيق الإقليمي في الشرق الأوسط، وسط هذه التحديات المتزايدة، أصبح أمرا بالغ الأهمية بالنسبة لتركيا في مسعى لتحقيق مصالحها وتعزيز مكانتها الجيوسياسية".
أضف إلى ذلك أن “مسألة إيران تظل إحدى القضايا الحيوية في منطقة الشرق الأوسط”.
وقال الكاتب: “إن رغبة ترامب في احتواء إيران وإضعافها بشكل أكبر قد تؤدي إلى تصعيد الصراعات بالوكالة في المنطقة”.
وبينما تمارس الولايات المتحدة ضغوطا على إيران من خلال العقوبات الاقتصادية والردع الإستراتيجي، يبدو أن تركيا تتبع نهجا حذرا يحاول التوازن لتجنب الانخراط المباشر في صراع أوسع.
وشدد على أن "احتمالية المزيد من التفكك في المنطقة يشكل تحديا كبيرا، يتطلب من تركيا تعديل سياساتها باستمرار؛ استجابةً للتغيرات في الديناميكيات الأمنية".