انفتاح تركيا على حفتر.. تأثيره في التوازنات الإقليمية بشرق المتوسط

منذ ٤ ساعات

12

طباعة

مشاركة

تحدث مركز دراسات تركي عن انتقال أنقرة إلى مرحلة جديدة من الانفتاح على مختلف الأطراف الليبية، تبرز من خلالها أبعاد نفوذها واهتمامها بحل أزمات طرابلس بالتنسيق مع شركاء أوروبيين مثل إيطاليا.

وذكر مركز “أورسام لدراسات الشرق الأوسط” أنّ تركيا برزت كفاعل رئيس في ليبيا منذ توقيعها عام 2019 اتفاقية "الأمن وترسيم الحدود البحرية" مع حكومة طرابلس، ما عزز حضورها العسكري والسياسي في الساحة الليبية. 

غير أن التطور الأبرز تمثّل أواخر أغسطس/آب 2025، في زيارة رئيس جهاز الاستخبارات التركي "إبراهيم قالن" إلى ليبيا ولقائه في بنغازي (خلف الأبواب المغلقة) اللواء الانقلابي المتقاعد خليفة حفتر، وفق الكاتب "كآن ديفيجي أوغلو".

وعقد قالن اجتماعات خلف الأبواب المغلقة مع حفتر وعدد من قيادات ما يسمى “الجيش الوطني الليبي” الذي يترأسه اللواء الانقلابي تطرق إلى ملفات الأمن الإقليمي والتعاون الثنائي.

كما عقد قالن لقاءً مع صدام نجل خليفة حفتر، الذي جرت ترقيته أخيرا إلى منصب نائب قائد الجيش، حيث ناقشا قضايا التعاون الاستخباراتي والأمني.

وتأتي أهمية الزيارة في وقت يستعد فيه البرلمان الليبي في طبرق لبحث المصادقة على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية الموقعة بين أنقرة وطرابلس عام 2019.

الانقسام السياسي

وأردف الكاتب التركي: تمثل الانتخابات المخرج الأساسي من الأزمة الليبية، لكنّ العائق الأكبر يبقى الانقسام بين طرابلس وطبرق (الغرب والشرق).

من أجل ذلك فإنّ تركيا تمتلك موقعاً مميزاً في هذا المسار؛ حيث تتمتع بعلاقات وثيقة مع حكومة الوحدة الوطنية بالغرب، وفي الوقت نفسه كانت قد فتحت قنوات تواصل مع معسكر الشرق، وهو ما يؤهلها للعب دور الميسّر. 

ومع ذلك، فإن نجاح أنقرة في هذا الدور يعتمد على تنسيقها مع الفاعلين الدوليين مثل الأمم المتحدة والولايات المتحدة وإيطاليا ومصر؛ إذ إنّ الأزمة الليبية لم تعد محلية الطابع بل أصبحت ساحة صراع دولي أيضاً.

واستدرك الكاتب: تركيا اليوم لم تعد مجرد داعم لحكومة طرابلس، بل تحاول أن تتموضع كوسيط قادر على التواصل مع جميع الأطراف. 

فهي تجمع بين حضور عسكري واقتصادي ملموس، وبين مرونة دبلوماسية تسمح لها بالتأثير في إعداد القوانين الانتخابية ودفع الإصلاحات المؤسسية. 

من هذا المنطلق، تبرز أنقرة كعنصر مكمّل للمجتمع الدولي في إنجاح خارطة الطريق الأممية، وفاعلٍ أساسي في تسهيل الحوار بين الشرق والغرب.

وتابع: أصبحت ليبيا خلال السنوات الأخيرة محوراً أساسياً في الجدل المتصاعد حول مناطق الصلاحية البحرية والطاقة في شرق المتوسط. 

فاليونان تسعى إلى منح جزيرتَي "كريت" و"غافدوس" الصغيرة نطاقاً واسعاً من المنطقة الاقتصادية الخالصة، في خطوة تُعَدّ تجاوزاً على الحقوق الطبيعية للسواحل الليبية. 

غير أن القواعد المستقرة في القانون الدولي للبحار تؤكد أن "الجزر الصغيرة لا تمنح تأثيرا واسعا أمام الكتل البرية الكبرى"، وهو ما يعزز من حجج ليبيا في مواجهة الطرح اليوناني.

في هذا السياق، جاء توقيع طرابلس مع تركيا اتفاقا لترسيم الحدود البحرية عام 2019، ثم دخول طبرق في مسار التصديق عليه، ليُوسّع من هامش المناورة الإستراتيجية لأنقرة في شرق المتوسط، ويؤكد في الوقت نفسه على حماية الحقوق السيادية لليبيا. 

ومن هنا، تحولت تركيا إلى شريك إقليمي مشروع لا يمكن استبعاده من معادلات الطاقة والجغرافيا السياسية، فيما برزت ليبيا كدولة صاحبة ثقل إستراتيجي في ظل ما تملكه من موارد ضخمة. 

ولفت الكاتب إلى أن ليبيا تُعَدّ من أكبر الدول الإفريقية امتلاكاً لاحتياطيات النفط. 

فقد رفعت "المؤسسة الوطنية للنفط" إنتاجها إلى 1.38 مليون برميل يومياً بحلول صيف 2025، مع هدف طموحٍ للوصول إلى 2 مليون برميل يومياً بحلول 2028. 

وقد تحقق ذلك عبر برامج تحديث واسعة بالشراكة مع شركات عالمية، ما يؤكد عودة ليبيا إلى موقعها الحيوي في أسواق الطاقة العالمية.

وأشار الكاتب التركي إلى أن  تركيا برزت في ليبيا على مستويين متكاملين: أولاً "النفط والطاقة"؛ فقد استطاعت أن تضع نفسها في قلب معادلة الطاقة بشرق المتوسط عبر استثمارات "شركة النفط التركية"، وبفضل اتفاقية 2019 البحرية.

ثانياً "إعادة الإعمار والتنمية"، إذ لعبت الشركات التركية دوراً محورياً في مشاريع البنية التحتية والنقل والرقمنة، لتسهم في تنويع الاقتصاد الليبي وتعزيز جهوده في إعادة البناء.

وذكر الكاتب أن هذا الوجود المزدوج منح تركيا موقع "الشريك الإستراتيجي الشامل"، الذي لا يقتصر دوره على الأمن العسكري بل يمتد إلى التنمية الاقتصادية والتحولات التكنولوجية.

سيناريوهات مستقبلية 

انطلاقاً من هذه المعطيات يمكن الحديث عن سيناريوهين رئيسين لمستقبل تركيا في شرق المتوسط، وفق الكاتب.

السيناريو الأول: إنشاء آلية ثلاثية مؤسسية بين تركيا–إيطاليا–ليبيا للتعاون في أمن الطاقة، ومناطق الصلاحية البحرية، ومشاريع إعادة الإعمار. 

ويرى أنّ مثل هذا الهيكل يعزز الروابط التركية–الليبية، ويجمع بين الحضور التاريخي لشركة إيني الإيطالية في قطاع الطاقة، وبين توسيع استثمارات الشركات التركية للبترول على أرضية تكاملية.

السيناريو الثاني: انعكاس مسار التطبيع بين تركيا ومصر على شرق المتوسط. 

فرغم أن اتفاقية 2020 بين مصر واليونان بشأن المنطقة الاقتصادية الخالصة جاءت محدودة، فإن تحسن العلاقات بين أنقرة والقاهرة قد يفتح الباب أمام شراكات أكثر براغماتية. 

وفي حين يبدو محور تركيا–إيطاليا–ليبيا أكثر قابلية للتطبيق في المدى القصير، فإن تعميق التعاون بين أنقرة والقاهرة على المدى المتوسط والبعيد يحمل إمكانية لإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية في شرق المتوسط.

وعليه، فإن كلا السيناريوهين يوسع مساحة المناورة الدبلوماسية لتركيا، ويضع ليبيا في مركز ليس فقط لأزماتها الداخلية، بل أيضاً لمشاريع التعاون الإقليمي الطموحة.

وأردف الكاتب: يمثل لقاء "إبراهيم قالن" مع  "خليفة حفتر" نقطة تحول مهمة في السياسة التركية تجاه ليبيا، إذ يفتح الباب أمام مرحلة جديدة تقوم على الانخراط مع مختلف الفاعلين الليبيين، بعيداً عن الاكتفاء بدعم حكومة طرابلس فقط. 

ومن هنا، يمكن القول إنّ هذه الخطوة ترسم ملامح إستراتيجية تركية متعددة الأبعاد، تتجاوز إدارة الأزمة إلى صياغة معادلات الاستقرار الإقليمي.

فمنذ عام 2023 بدأت أنقرة في تبني خطابٍ أكثر مرونة تجاه الشرق الليبي. غير أن زيارة قالن إلى بنغازي شكّلت لحظة فارقة؛ فهي لم تعد مجرد مناورة تكتيكية بل تحولت إلى توجه مؤسسي ومستدام. 

وبهذا، انتقلت تركيا من لاعب منحاز لطرف واحد إلى فاعل قادر على التواصل مع جميع الأطراف، وهو أمر يعزز من مكانتها كوسيط رئيس في الملف الليبي.

وعلق الكاتب التركي: يمكن تفسير تخفيف حفتر من حدّة خطابه تجاه تركيا بثلاثة عوامل رئيسة:

أولا، "انسداد الأفق العسكري": إذ أدرك أن الحسم بين الأطراف المتصارعة عبر القوة لم يعد ممكنا، وأن الحل السياسي هو الخيار الوحيد القابل للاستمرار.

ثانيا، "تموضع تركيا كلاعب دائم": فهي لم تكتف بحضورها العسكري، بل أسست لمكانة راسخة عبر مشاريع اقتصادية، واتفاقيات طاقوية، ومسارات دبلوماسية جعلت منها رقماً صعباً في المعادلة الليبية.

ثالثا، "براغماتية إعادة الإعمار": فالحاجة الملحة إلى استقرار البلاد وانطلاق مشاريع التنمية دفعت الشرق الليبي إلى البحث عن شراكات واقعية، وجعلت من الحوار مع أنقرة ضرورة سياسية.

وتابع الكاتب: مكّنت هذه التحولات تركيا من لعب دور مضاعف؛ فهي تحافظ على علاقاتها الوثيقة مع حكومة طرابلس، وفي الوقت نفسه تكتسب شرعية التعامل المباشر مع معسكر حفتر. 

وهذه الازدواجية تعطيها ميزة نادرة: القدرة على مدّ الجسور بين شرق ليبيا وغربها، وتقديم نفسها كوسيط مقبول إقليمياً ودولياً.

ولفت الكاتب إلى أنّ هذه الديناميكية تنعكس على مواقف القوى الخارجية أيضاً، فالتعاون التركي–الإيطالي يفتح مجالاً واسعاً لمشاريع إعادة الإعمار والطاقة في ليبيا، كما أن المسار الذي ترعاه الأمم المتحدة يوفر إطاراً دولياً قد يمهد الطريق للانتخابات. 

وبذلك، تجد تركيا نفسها في موقع يسمح لها بالتأثير في توازنات شرق المتوسط، ليس فقط عبر قوتها العسكرية، بل أيضاً عبر أدوات الدبلوماسية والتنمية.

ولهذا، فإن لقاء إبراهيم قالن مع حفتر لم يكن مجرد حدث عابر، بل مؤشر على انتقال السياسة التركية من مرحلة "إدارة الأزمة" إلى مرحلة "هندسة الاستقرار"، وفق تقييم الكاتب.

وأكد أن تركيا اليوم لا تكتفي بدور داعم لطرابلس، بل تسعى لأن تكون شريكاً فاعلاً في إعادة بناء ليبيا وربطها بمشاريع إقليمية أوسع. 

وبهذا، يصبح الدور التركي في ليبيا عاملاً مؤثراً في مستقبل البلاد وفي صياغة الجغرافيا السياسية للمتوسط بأسره، كما قال.