الذهب أم السياسة.. من أطاح بمحافظ البنك المركزي في السودان؟

جاء القرار في وقت يعيش فيه السودان انهيارا اقتصاديا شبه شامل
في خطوة وصفت بأنها الأجرأ منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع، أصدر رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول عبد الفتاح البرهان، في 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2025، قرارا بإعفاء محافظ بنك السودان المركزي برعي الصديق علي أحمد من منصبه.
وعين البرهان مكانه آمنة ميرغني حسن التوم خلفا له لتصبح أول امرأة في تاريخ السودان تتولى قيادة البنك المركزي في لحظة مالية تعد من الأصعب منذ استقلال البلاد.
إذ جاء القرار في وقت يعيش فيه السودان انهيارا اقتصاديا شبه شامل، مع تجاوز سعر الدولار في السوق السوداء 2700 جنيه سوداني، وتفاقم أزمة السيولة النقدية داخل المصارف.
كما جاء في ظل استمرار الحرب التي دخلت عامها الثالث بين مؤسستين ماليتين واقتصاديتين متنافستين في مناطق السيطرة؛ إحداهما في بورتسودان، حيث مقر الحكومة المعترف بها دوليا، والأخرى في الغرب بمدينة نيالا التي تسيطر عليها الدعم السريع.
لكن ما جعل إقالة أحمد ذات دلالات تتجاوز الإدارة المالية، هو ارتباطها المباشر بملف صادرات الذهب السوداني، المورد الأهم للنقد الأجنبي، ووقوعها في قلب صراع النفوذ على هذا المورد بين مؤسسات الدولة والشركات الخاصة، في ظل فوضى الحرب وغياب الرقابة المركزية.
خلافات داخل السلطة
وبحسب مصادر حكومية ومصرفية تحدثت لوسائل إعلام سودانية، بدأت شرارة الخلاف خلال اجتماع رسمي في مجمع الوزارات بمدينة بورتسودان، ترأسه وزير المالية جبريل إبراهيم، وشارك فيه محافظ البنك المركزي المقال، إلى جانب ممثلين عن اللجنة الاقتصادية العليا وعدد من كبار المصدرين.
في ذلك الاجتماع، تمسك أحمد بقرار احتكار البنك المركزي لصادرات الذهب، عادّا أن أي تصدير مباشر عبر الشركات الخاصة يمثل تهديدا لاستقرار النقد الأجنبي، في حين أصرّ ممثلو الشركات على أن السوق الحرة وحدها الكفيلة بوقف التهريب وتحقيق التوازن السعري.
ما حدث بعد ذلك كان انفجارا صامتا داخل الحكومة الانتقالية؛ إذ أيّد وزير المالية موقف الشركات، وعد أن احتكار البنك المركزي للتصدير سياسة غير مجدية.
عندها تصاعدت الخلافات إلى حدّ المواجهة العلنية، وانتهت بإقالة المحافظ الذي وصف بأنه "متشدد في حماية سلطات البنك".
وتؤكد مصادر اقتصادية في بورتسودان أن القرار جاء بعد أن تلقى البرهان تقارير من اللجنة الاقتصادية تشير إلى تعطل حركة التصدير وتراجع الإيرادات الدولارية بنسبة 35 بالمئة خلال شهري أغسطس/ آب وسبتمبر/ أيلول 2025.
وحدث ذلك بسبب القيود التي فرضها البنك المركزي على عمليات بيع الذهب وشحنه للخارج.
وفي حوار مطول نشر على موقع "أخبار السودان" في 9 أكتوبر وقبل أيام من إقالته، دافع برعي الصديق أحمد عن سياساته قائلا: إن "صادرات الذهب تتم بطريقة الدفع المقدم، ما يعني أن الحصيلة تصل إلى البنوك قبل الشحن، ولا مجال للحديث عن فقدان العائدات".
وأضاف أن البنك المركزي كان يعمل على آلية جديدة لتسعير الذهب داخليا، بحيث تقترب من الأسعار العالمية وتحد من التهريب الذي "يتغذى على الفوارق السعرية".
غير أن هذا التبرير لم يقنع كثيرين داخل مجلس الوزراء ولا في القطاع الخاص، الذين رأوا أن حصر الصادرات في جهة واحدة خلق عنق زجاجة إداريا وأضعف الثقة بين البنك والمصدرين، ما أدى إلى تراجع المعروض من النقد الأجنبي وارتفاع الأسعار في السوق السوداء.
وقال الاقتصادي البارز بابكر التوم لصحيفة "الراكوبة" المحلية: إن سياسة برعي الصديق أحمد أعادت للأذهان تجربة عام 2018، حين احتكر البنك المركزي تصدير الذهب خلال حكم (رئيس النظام السابق) عمر البشير.
ووقتها انتهى الأمر بانفجار موجة تهريب واسعة وتراجع احتياطي البلاد من العملات الصعبة إلى أدنى مستوياته.

لماذا الذهب؟
لكن السؤال الذي يطرح نفسه في ظل تلك التبدلات داخل رأس الهرم الاقتصادي السوداني، لماذا قد يتسبب الذهب في الإطاحة برئيس البنك المركزي؟
يعد الذهب المورد الرئيس للنقد الأجنبي في السودان منذ انفصال الجنوب عام 2011، حين فقدت البلاد أكثر من 70 بالمئة من عائدات النفط.
وقد شكل الذهب خلال العقد الأخير ما بين 40 إلى 60 بالمئة من إجمالي الصادرات السودانية، مما جعله عمود الاقتصاد وسبب أزماته في آن واحد.
في سبتمبر 2025 أقرت اللجنة الاقتصادية العليا التي يرأسها رئيس الوزراء كامل إدريس قرارا يقضي بـ"إخضاع كل عمليات تصدير الذهب لإشراف البنك المركزي حصريًا"، في محاولة للحد من التهريب وضمان تدفق العائدات إلى خزينة الدولة.
هذه الخطوة، أيدها المحافظ المقال، لكنها ووجهت باعتراضات قوية من قبل شعبة مصدري الذهب التي وصفت القرار بأنه "كارثي".
وعدت الشعبة أن القرار سيؤدي إلى تفاقم التهريب لا الحد منه، لأن المنتجين سيتجهون إلى بيع الذهب خارج القنوات الرسمية لتفادي الأسعار المنخفضة التي يفرضها البنك المركزي.
حينها أعلن رئيس الشعبة، عبد المنعم الصديق، أن هذه السياسة "فشلت في عهد البشير و(رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك) وستفشل الآن"، مضيفا أن "احتكار التصدير لا يخدم سوى الفساد والبيروقراطية".
ويظهر من تسلسل الأحداث أن الإقالة لم تكن فقط نتيجة خلاف إداري، بل جزء من صراع سياسي واقتصادي أوسع داخل الحكومة الانتقالية بين تيارين.
الأول يمثله برعي الصديق أحمد وبعض المسؤولين الأمنيين الذين يرون أن احتكار البنك المركزي لصادرات الذهب هو السبيل الوحيد لضبط التدفقات المالية ومنع تمويل المليشيات.
والثاني يقوده وزير المالية جبريل إبراهيم، الذي يفضل تحرير السوق وتوسيع دور القطاع الخاص في التصدير لجذب العملات الصعبة.
وبين هذين الموقفين، وجد البرهان نفسه أمام معادلة معقدة، كيف يضمن السيطرة على موارد الدولة دون خنق السوق؟
تقول مصادر مطلعة في وزارة المالية: إن “البرهان اختار التضحية بالمحافظ لتخفيف الضغط الشعبي والاقتصادي”.
وخصوصا بعد تقارير أفادت بأن إيرادات الذهب تراجعت بأكثر من 300 مليون دولار خلال الربع الثالث من العام الجاري مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024.
وتشير تقارير الشركة السودانية للموارد المعدنية إلى أن إنتاج الذهب بين يناير/كانون الثاني وسبتمبر 2025 بلغ 53 طنا، بعائدات إجمالية وصلت إلى 699 مليار جنيه سوداني (حوالي 909 ملايين دولار)، بينما بلغت تحويلات المجتمع المحلي 33 مليار جنيه.
لكن خلف هذه الأرقام، تكمن مفارقة، فبحسب تقديرات غير رسمية، يهرب نحو 50 بالمئة من الذهب المنتج سنويا إلى الخارج عبر طرق غير شرعية، خاصة إلى الإمارات وتشاد ومصر، ما يعني أن نصف ثروة البلاد المعدنية لا تمر عبر مؤسساتها المالية.

اقتصاد الحرب
وتجد المحافظ الجديدة آمنة ميرغني حسن التوم نفسها في قلب أزمة اقتصادية مركبة تشمل تضخما جامحا، وشحا في السيولة، وتدهورا غير مسبوق في قيمة العملة الوطنية.
التوم، خريجة كلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم بدرجة الشرف، تحمل ماجستيرا في المحاسبة والتمويل من جامعة الجزيرة.
ولديها شهادات مهنية في الإدارة من المملكة المتحدة والولايات المتحدة، إلى جانب خبرات تنفيذية داخل البنك المركزي نفسه؛ حيث شغلت في عام 2019 منصب مدير عام الأسواق المالية، وهو الجهاز المسؤول عن إدارة النقد الأجنبي.
وذلك قبل أن تنتقل لإدارة مجموعة تنمية الصادرات التابعة لمنظومة الصناعات الدفاعية، ثم تشغل منصب المدير العام لشركة مطابع السودان للعملة.
ويرى محللون أن اختيارها لم يكن قرارا تقنيا بحتا، بل رسالة سياسية مزدوجة من البرهان إلى الداخل والخارج بأن الحكومة مستعدة لتجديد الدماء، وأن السلطة في بورتسودان قادرة على إعادة ضبط الاقتصاد رغم الحرب.
ويجمع الاقتصاديون على أن الحرب بين الجيش والدعم السريع جعلت إدارة السياسة النقدية في السودان شبه مستحيلة.
فالنظام المصرفي منقسم جغرافيا بين ولايات الشرق والشمال التي تعمل تحت سلطة الجيش، والخرطوم ودارفور التي تخضع لسيطرة الدعم السريع، ما يعني أن قرارات البنك المركزي في بورتسودان لا تنفذ فعليا في نصف البلاد تقريبا.
وبحسب تقارير محلية، فإن أكثر من 70 بالمئة من البنوك السودانية نقلت عملياتها إلى الولايات الآمنة، بينما توقفت بقية المؤسسات عن العمل أو تعمل بطاقة جزئية.
ومع انقطاع معظم شبكات الاتصالات والإنترنت في مناطق القتال، تتعطل التحويلات المصرفية، ويعتمد الناس على النقود الورقية أو التعاملات اليدوية.
وفي هذا المناخ، تصبح سياسات مثل "حصر التصدير" أو "تسعير الذهب داخليا" بلا معنى فعلي.
وذلك لأن الاقتصاد السوداني نفسه بات يعمل بآليتين مختلفتين، اقتصاد رسمي هش في بورتسودان، وآخر مواز في نيالا ودارفور يتحكم فيه تجار الذهب والسلاح.

بنك بلا أدوات
وقال السياسي السوداني الدكتور إبراهيم عبد العاطي في تصريح لـ "الاستقلال": إن "بنك السودان المركزي لا يمتلك اليوم أدوات الرقابة ولا البنية التحتية التي تمكنه من الإمساك بملف الذهب على نحو مهني وشفاف".
وأوضح أن "المنتفعين الكبار داخل بعض الأجهزة الأمنية وفي دوائر شركات خاصة يقفون عقبة أمام أي إصلاح حقيقي، ولذلك فإن تغيير الأشخاص وحده لا يكفي، ولن تغير الإقالة الأخيرة شيئا ما لم تفكك منظومة التهريب التي تحميها مصالح سياسية واقتصادية متشابكة".
وأضاف عبد العاطي أن "أزمة الذهب ليست سوى وجه من وجوه شلل السيولة الذي يضغط على حياة الناس منذ مطلع 2025".
وذكر أن "المواطن لا يسمح له بسحب أكثر من 200 ألف جنيه يوميا (74 دولارا أميركيا) رغم امتلاكه أرصدة أكبر، والصفوف أمام البنوك في الشمال والشرق صارت مشهدا يوميا مؤلما".
وتابع: "الأزمة تفاقمت بعد التغيير الجزئي للعملة في ديسمبر (كانون الأول) 2024 وإلغاء فئة 500 جنيه وإصدار فئة 1000، لكن الطباعة كانت محدودة بسبب تكلفتها التي بلغت 70 مليون دولار حسب مصادر وزارة المالية، فاختنق المعروض النقدي بدل أن ينفرج".
ويرى عبد العاطي أن قرار تغيير العملة “اتخذ بدوافع سياسية أكثر من كونه إجراء اقتصاديا محسوبا”.
وأوضح قائلا: "كانت الرغبة الواضحة هي خنق قوات الدعم السريع اقتصاديا عبر قصر تداول العملة الجديدة في مناطق سيطرة الجيش، فكانت النتيجة شللا واسعا في الأسواق".
واستطرد: "أجبر الناس على التحويلات الإلكترونية، لكن التجار فرضوا رسوما إضافية وبحجة ندرة النقد، فدخلنا في دوامة تضخم حاد، وتراجعت القوة الشرائية، وتوقفت أنشطة تجارية كثيرة".
وأشار عبد العاطي إلى أن "انهيار الجنيه عكس الفوضى العامة؛ حيث تراوح سعر الدولار بين 2660 و2700 جنيه في السوق السوداء، بينما كان في بنك الخرطوم نحو 2020 جنيها، وهذا الفارق الكبير يؤكد أن السوق الموازية هي التي تحرك الاقتصاد لا المؤسسات الرسمية".
وبلهجة حاسمة قال: "أي حديث عن استقرار للعملة بلا وقف للحرب محض وهم، الميزان التجاري يحتاج تمويلا عاجلا لا يقل عن ملياري دولار خلال ستة أشهر لتأمين الغذاء والوقود والدواء، ومع خروج مشاريع زراعية وصناعية من الخدمة صار الاعتماد على الذهب والتهريب شبه مطلق".
وختم عبد العاطي تصريحه بالتأكيد على “محدودية دور المحافظ الجديد في ظل بنية اقتصاد حرب، حتى لو كان المحافظ قويا ومؤهلا”.
وأكد أن "غياب السيطرة على الجغرافيا الاقتصادية، واستمرار التهريب، وانعدام الثقة بين الدولة والقطاع الخاص، يضع البنك المركزي في موقف العاجز عن إدارة السياسة النقدية".
وأتبع: "المطلوب قبل (تغيير) الأشخاص، تفكيك اقتصاد المصلحة والسلاح، وتوحيد السوق، واستعادة ولاية القانون على الذهب، عندها فقط يمكن أن نتحدث بجدية عن استقرار الجنيه وإنهاء أزمة السيولة".
المصادر
- إقالة محافظ بنك السودان المركزي وآمنة التوم تخلفه بالمنصب
- صادرات الذهب السوداني تطيح محافظ بنك السودان المركزي
- من هي آمنة ميرغني التوم أول امرأة تتولى قيادة بنك السودان المركزي .. السيرة الذاتية
- السودان: أزمة غير مسبوقة في السيولة النقدية وتذمر للمواطنين
- محافظ المركزي السوداني يتحدث عن مستقبل الجنيه وقطاع الذهب