بوتين والشرع وجهًا لوجه.. ماذا يحمل اللقاء لمستقبل سوريا سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا؟

" موسكو لن تقدم على مثل هذه الخطوة لدواع تتعلق بسمعتها الدولية"
في لقاء تاريخي بالعاصمة الروسية موسكو، استقبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الكرملين الرئيس السوري أحمد الشرع، في زيارة هي الأولى له منذ توليه منصبه عقب الإطاحة ببشار الأسد.
فيما شددت دمشق على ضرورة "إعادة تشغيل منظومة العلاقات" بين الطرفين ومساهمة روسيا في بناء "سوريا الجديدة"، أكد بوتين على أهمية هذا اللقاء، ويرى أنه محطة مهمة في العلاقات بين البلدين، التي لطالما اتسمت بـ "الود الاستثنائي".
في هذا السياق، تناولت الصحف الروسية تفاصيل المحادثات بين الزعيمين، لا سيما فيما يتعلق بمستقبل القواعد العسكرية الروسية في البلاد، وإعادة بناء الجيش السوري، وملف تسليم بشار الأسد إلى دمشق.
فضلا عن دور موسكو في إعادة الإعمار، وصولا إلى الحديث عن إعادة انتشار الدوريات الروسية في الجنوب السوري لكبح جماح التوغلات الإسرائيلية المتكررة.
وأشارت صحيفة "إزفستيا" إلى أن "موسكو بدأت، منذ تولي أحمد الشرع الحكم في دمشق، بإقامة اتصالات عملية مع القيادة السورية الجديدة بشكل تدريجي، متجنبة اتخاذ خطوات حادة أو متسرعة".

مسار تطبيعي
وبالتالي، ترى الصحيفة أن "زيارة أحمد الشرع إلى موسكو جاءت امتدادا طبيعيا لهذا المسار".
وأوضحت أن الشرع شدد في حديثه لبوتين على أن "الاستقرار في سوريا والمنطقة هو الأولوية القصوى في الوقت الراهن"، مشيرا إلى الانتخابات البرلمانية التي جرت في 5 أكتوبر/ تشرين الثاني 2025".
ووصفها بوتين بأنها "نجاح كبير يعزز الروابط والتفاعل بين جميع القوى السياسية".
وفي سياق حديثه، أكد الرئيس السوري على ضرورة "إعادة تفعيل منظومة العلاقات" بين موسكو ودمشق، مشددا على أهمية الاستقرار الداخلي والإقليمي.
وذكرت الصحيفة أن "الشرع أشار، في تصريحات سابقة له، إلى أن سوريا كانت ترتبط بعلاقات وثيقة مع روسيا في مجالات الطاقة والغذاء والسلاح".
مؤكدا أن "هذه الروابط يجب أن تحفظ وتدار بهدوء، وعلى أساس احترام السيادة السورية واستقلالية القرار السياسي".
كما لفت إلى أن "روسيا تعهدت بالتزامات معينة تجاه سوريا الحالية، ونحن بدورنا تعهدنا بالتزاماتنا".
أربعة محاور
ويرى الباحث البارز في مركز دراسات الشرق الأوسط في معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية، نيكولاي سوخوف، أن "مناقشة وضع القواعد العسكرية الروسية في سوريا كانت القضية الرئيسة في المحادثات".
وفي حديثه مع موقع "RTVI" الروسي، أوضح سوخوف أن "الطرفين مهتمان بتوقيع اتفاقيات إطارية جديدة تكرس وضع القواعد العسكرية".
وتابع: "فموسكو ترغب في الحفاظ على وجودها العسكري ونفوذها الإقليمي، بينما تسعى دمشق إلى تحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية، إلى جانب الحصول على ضمانات أمنية".
وأشار سوخوف إلى أن "الاقتصاد السوري بحاجة إلى استثمارات، وأن زيارة الشرع تمثل فرصة لروسيا لتعزيز وجودها في قطاعات الطاقة والنقل والموانئ من خلال الامتيازات والمشاريع المشتركة".
مع ذلك، أكد أن "تلك الاستثمارات الروسية يجب أن تقترن بالوجود العسكري الروسي في سوريا".
إلى جانب ذلك، يعتقد سوخوف أن "القيادة السورية الجديدة تهدف من هذه الزيارة إلى إضفاء الشرعية على سلطتها، والحصول على دعم مباشر من موسكو خلال المفاوضات".
وفي هذا السياق، حدد الباحث نيكولاي سوخوف أربعة محاور رئيسية تمثل أولويات "سوريا الجديدة".
وقال: "أولا: الحفاظ على القواعد الروسية وتنظيم وضعها القانوني".
وأردف: "فدمشق مهتمة جدا بتحديد قواعد الوجود العسكري الروسي في طرطوس وحميميم بما يتوافق مع (الإطار الدستوري الجديد)، مع الحرص على ألا يبدو هذا الوجود وكأنه (تبعية للخارج)".
أما المحور الثاني، فهو بحسب سوخوف، التعاون العسكري التقني، إذ تظل روسيا الشريك الرئيس لسوريا في هذا المجال.
وأشار إلى أن "اهتمام دمشق يرتكز حاليا على إعادة بناء قدراتها القتالية، وتأهيل كوادر جديدة، وتحديث منظومتها العسكرية".
وعلى صعيد المشاريع الاقتصادية والبنية التحتية، قال: "تدعم سوريا مشاركة روسيا في إعادة إعمار الموانئ والطرق والمنشآت الطاقوية والبنية التحتية السكنية في البلاد".
ويعتقد أن "مشاركة الروس في هذه المشاريع ستوفر فرص عمل إضافية، وموارد لإعادة الإعمار، واستقرارا اقتصاديا خلال الفترة الانتقالية".
وفي جانب الأمن الإقليمي والتنسيق الدبلوماسي، يرى الباحث الروسي أن دمشق "تسعى إلى خفض التوتر في شمال البلاد، وتبدي استعدادا للتنسيق مع دول الجوار مثل تركيا ولبنان وإسرائيل والعراق وإيران".
من هذا المنطلق، يقدر سوخوف أن "سوريا ترى في دعم موسكو لها ضامنا للتهدئة ووسيطا في النزاعات الإقليمية، وهو ما يصب في مصلحة استقرار المنطقة".
وعلى الصعيد الداخلي، لم يستبعد سوخوف أن "تلعب موسكو دورا في بناء مؤسسات الدولة السورية الجديدة، بل وفي تحقيق المصالحة بين النظام الجديد وكل من الأكراد والدروز، في إطار تعزيز الاستقرار الوطني".

اعتراف نهائي
وتناول سوخوف في حديثه مع صحيفة "فيدوموستي" تفاصيل مستقبل الوجود العسكري الروسي في سوريا، وقال: "لا تزال القواعد الروسية قائمة في قاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية".
وتابع: "وفي أغسطس/ آب 2025، التقى وزير الدفاع السوري الجديد مرهف أبو قصرة بنظيره الروسي أندريه بيلوسوف في موسكو، حيث ناقشا آفاق التعاون الدفاعي والوضع الإقليمي".
ثم في أكتوبر/ تشرين الأول 2025، صرح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بأن "عدة دول في الشرق الأوسط مهتمة بالقواعد الروسية"، لكنه أشار إلى ضرورة "إعادة صياغة مهامها"، مضيفا أن سوريا أيضا تبدي اهتماما بهذا الملف.
كما أكد المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، في 15 أكتوبر 2025، أن هذا الموضوع مطروح للنقاش مع السلطات السورية الجديدة.
في هذا السياق، يؤكد سوخوف على أهمية القواعد العسكرية الروسية في سوريا، قائلا: "تحتاج موسكو إلى موطئ قدم في البحر المتوسط لتسهيل الخدمات اللوجستية لإبراز القوة في المنطقة وفي إفريقيا، بينما تحتاج دمشق إلى أطر قانونية ومالية جديدة للتعاون لا تُنظر إليها على أنها امتداد لإرث الأسد".
ويضيف سوخوف أن "روسيا قد تساعد في بناء جيش سوري جديد يضم معارضين سابقين للأسد".
موضحا: "تسعى دمشق إلى تعزيز القدرات القتالية لهذا الجيش، وقد تتعاون مع روسيا في التنسيق مع تركيا وفي التعامل مع الصراع مع إسرائيل".
من جانبه، أشار الباحث ألكسندر سيمينوف إلى أن "قرار الحفاظ على القواعد الروسية قد اتخذ منذ فترة، لكن موسكو تركز الآن على مدى فعاليتها، وقد تُعيد النظر في الحاجة إلى وجود القاعدتين معا".
بدوره، يرى الخبير في شؤون الشرق الأوسط أنطون مارداسوف أن "قاعدة حميميم لا تزال تؤدي دورا لوجستيا كمركز عبور نحو إفريقيا، لكنها من الناحية العسكرية تعاني من ضعف في التجهيزات، خاصة بعد سحب منظومات الدفاع الجوي منها في شتاء 2025، ما يجعلها غير قادرة على أداء مهام الردع في المنطقة".
وبناء عليه، يقدر أن "روسيا قد تعيد نشر طائراتها في مدينة القامشلي شمال شرق سوريا، حيث تحتفظ بوجود محدود لأغراض التفاوض مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)".
ورغم قرب القامشلي من الحدود التركية، يرى الباحث أن "استخدامها لأغراض مدنية قد يكون ممكنا، كما أن استمرار العمل في قاعدة اللاذقية وارد، إلى جانب احتمال نشر دوريات روسية في الجنوب للمساعدة في تهدئة التوتر مع إسرائيل".
وبحسب تقارير إعلامية، نفذت روسيا أولى دورياتها العسكرية بعد تغيير القيادة السورية، وذلك في محيط مدينة القامشلي شمال شرق البلاد، في مؤشر على استمرار التنسيق الأمني بين الطرفين، وفق التقرير.
ويرى الباحث في شؤون الشرق الأوسط كيريل سيمينوف أن "هذه التطورات، بالإضافة إلى زيارة الشرع إلى موسكو تؤكد أن العلاقات بين روسيا وسوريا لا تزال تحمل طابعا إستراتيجيا، وتتطور بشكل تدريجي يشمل طيفا واسعا من المجالات".
وأشار إلى أن اللقاء في الكرملين "رسخ عمليا الاعتراف الروسي الرسمي والنهائي بشرعية القيادة السورية الجديدة".
وأضاف سيمينوف في تصريح لصحيفة "إزفستيا": "كل التحفظات الغربية التي تحدثت عن أن الاتصالات الروسية السورية كانت اضطرارية، تجووزت بالكامل".
وأردف: "لقد تمكن الطرفان من تخطي إرث الماضي، وإن لم يرتق التعاون إلى مستوى نوعي جديد، فإنه على الأقل استعاد زخمه الإيجابي، ما يفتح آفاقا إستراتيجية واسعة".
كما شدد سيمينوف على أن "الوجود العسكري الروسي في سوريا لا يزال يشكل عنصرا مهما في تحقيق الاستقرار".
مشيرا إلى أن "القواعد الروسية يمكن أن تُستخدم في مواجهة التهديدات الإرهابية الجديدة، خاصة تلك التي قد تصدر عن تنظيم داعش، فضلا عن كونها وسيلة لدعم السلطات السورية الجديدة في مواجهة الضغوط الخارجية".

إعادة تقييم
على الصعيد الاقتصادي، أشارت الصحيفة إلى أنه "على مدار السنوات الماضية، وقع الطرفان العديد من العقود في مجالات البنية التحتية والطاقة والنقل، إلا أن جزءا كبيرا منها تم في ظروف سياسية مختلفة، ويحتاج اليوم إلى إعادة تقييم وتحديث".
في هذا الصدد، يرى الباحث في مركز دراسات الشرق المعاصر التابع لمعهد الاستشراق الروسي، فلاديمير أحمدوف، أن "مراجعة هذه الاتفاقيات خطوة ضرورية".
مؤكدا في حديثه لصحيفة "إزفستيا" أن "العلاقات الاقتصادية والعسكرية والتقنية تشكل العمود الفقري للتعاون الثنائي، وأن استمرار المشاريع الجديدة سيكون صعبا دون مراجعة الاتفاقيات القديمة".
من جانبه، يرى الباحث أنطون مارداسوف أن "دخول شركة نفط روسية، أثبتت نجاحها في ليبيا، إلى السوق السورية يعد احتمالا واقعيا، خاصة في ظل تردد الشركات الغربية في الاستثمار داخل سوريا رغم التصريحات السياسية الداعمة".
لكن مارداسوف يحذر من أن "هذا الانخراط يحمل معه تحديات أمنية، إذ يتطلب توفير الحماية للمواقع والمنشآت".
وهو الأمر الذي أشارت صحيفة "نيزافيسيمايا غازيتا" إلى أنه "يثير حساسيات لدى السوريين والروس على حد سواء، خصوصا في ظل التجارب السابقة مع شركات أمنية خاصة مثل (فاغنر) و(ريدوت)، التي أثارت جدلا واسعا".
وتطرقت الصحف الروسية للحديث عن ملف تسليم الأسد لدمشق، فقد أفادت وكالة "رويترز"، نقلا عن مصدر رسمي سوري، أن الشرع يعتزم مطالبة روسيا بتسليم الرئيس السابق بشار الأسد إلى دمشق، بهدف محاكمته بتهم تتعلق بارتكاب جرائم بحق السوريين.
في هذا السياق، ذكر موقع "RTVI" أن روسيا كانت قد رفضت سابقا تسليم الأسد، كما كشف الشرع نفسه في مقابلة مع صحيفة "نيويورك تايمز".
استنادا إلى ذلك، يعتقد الباحث نيكولاي سوخوف أن "احتمال تسليم موسكو لحليفها السابق (ضعيف جدا من الناحية الواقعية)، لأن مثل هذا القرار سيُحدث صدى دوليا سلبيا ويضر بصورة روسيا على الساحة العالمية".
ولفت إلى أنه "بدلا من ذلك، قد تتيح موسكو لدمشق الوصول إلى الأصول المالية والوثائق الخاصة بنظام الأسد، والتي يعتقد أنه نقلها إلى روسيا".
ويصف سوخوف هذا الخيار بأنه "واقعي ويصب في مصلحة الطرفين".
بدوره، يرى مارداسوف في تصريح لصحيفة "نيزافيسمايا غازيتا" أن "الشرع لا يمكنه تجاهل هذه القضية".
وقال: "من الطبيعي أن يثير أحمد الشرع هذا الموضوع، حيث إنه مضطر لطرحه ليبرز لأنصاره أنه يتعامل مع المسألة بجدية".
واختتم: "في الحقيقة، الأمر بروتوكولي أكثر منه عملي، وتحتاج دمشق إلى إثارته لأسباب سياسية متعددة، لكنها تدرك تماما أن موسكو لن تقدم على مثل هذه الخطوة لدواع تتعلق بسمعتها الدولية".














