"مذبحة قضائية" في مصر تهز نظام السيسي.. الخلفيات والتداعيات

داود علي | منذ ٥ أيام

12

طباعة

مشاركة

في إجراء وصف إعلاميا بأنه "مذبحة قضائية"، قرر وزير العدل المصري المستشار عدنان الفنجري، في 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، إحالة 48 قاضيا من المحاكم الابتدائية والاستئناف إلى التحقيق.

وجاء القرار بعد شكاوى متعددة أطلقها هؤلاء القضاة من تدهور أوضاعهم المالية، مقارنة بأوضاع بعض أركان السلطة، من ضباط الجيش.

وجاءت ضربة الفنجري للقضاة، استنادا إلى شكوى مقدمة من مدير إدارة التفتيش القضائي، بقيادة المستشار "وفائي أبسخرون".

والتي تعلقت بتحدث القضاة في "المجموعات القضائية" الخاصة عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن أحوالهم المالية الصعبة والأعباء الملقاة عليهم.

وهؤلاء القضاة المحالون إلى التحقيق عبروا عن سخطهم من فقدان امتيازاتهم واستقلاليتهم، وتحولهم إلى موظفين لدى السلطة التنفيذية، بالإضافة إلى تدهور حقوقهم المالية، بحسب وسائل إعلام مصرية.

تهديد بالإضراب 

وفي 29 نوفمبر 2024، لوح عدد من القضاة المحالين إلى التحقيق بعقد جمعية عمومية داخل مقر نادي القضاة.

وذكروا أنهم سيقومون بالدعوة إلى التصويت على قرارات تعليق العمل في المحاكم، بالإضافة إلى الإضراب والاعتصام داخل النادي، احتجاجا على قرارات الإحالة التي عدوها تعسفية.

ونقلت وكالة "مزيد" الإخبارية المصرية في 2 ديسمبر/ كانون الأول 2024، عن مصادر خاصة لم تسمها أن أسر القضاة المحالين للتحقيق، والتي تضم مستشارين وقضاة بدرجات وظيفية مختلفة سواء كانوا أبناء أو أقارب، أعلنت تضامنها الكامل معهم، ما يشير إلى تضخم الأزمة.

وأشارت إلى أنه يجرى حاليا ترتيب لقاء يجمع بين وزير العدل عدنان الفنجري ومجلس إدارة نادي قضاة مصر، برئاسة نائب رئيس محكمة النقض المستشار أبو الحسين فتحي قايد، لبحث الأزمة ومحاولة نزع فتيل التصعيد.

تحقيق بلا أساس 

وفي تعليق على قرارات الإحالة وأزمة قضاة مصر قال المستشار جمال قابيل، الرئيس بمحكمة استئناف القاهرة، لصحيفة “القدس العربي”، إن قرار وزير العدل بإحالة القضاة إلى التحقيق أمام إدارة التفتيش القضائي لا يستند إلى أي أساس قانوني.

وأكد قابيل أن القضاة المحالين للتحقيق لم يرتكبوا أي مخالفة تستوجب مثل هذا الإجراء، حيث اقتصرت تصرفاتهم على كتابة تدوينات داخل مجموعات مغلقة مخصصة للقضاة فقط.

بينما ذكر المستشار أشرف مصطفى أن التمييز المالي بين قضاة النقض وقضاة المحاكم الأخرى بدأ منذ عام 2014.

وشدد أن قضاة النقض يحصلون على امتيازات مالية مضاعفة رغم تقليص اختصاصاتهم.

ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يطالب فيها القضاة بتحسين أوضاعهم المعيشية، فسبق ودعا نادي قضاة مصر عام 2020 مع اشتداد الأزمة الاقتصادية، بزيادة الرواتب والامتيازات.

وفي خطاب وجهه (آنذاك) رئيس النادي، المستشار محمد عبد المحسن إلى رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي، قال إن القضاة يعانون من نقص في حقوقهم بسبب غياب المساواة مع بعض الهيئات القضائية الأخرى.

وطالب الخطاب وقتها بالمساواة بين قضاة المحاكم الثلاث (النقض والاستئناف والابتدائي) في الرواتب والحوافز، وزيادة قيمة حضور الجلسات ونسب دعم العلاج، وزيادة المعاشات.

فئوية وفساد

وفي 28 نوفمبر 2024، ذكرت صحيفة "أخبار الغد" المحلية، أن أعلى مرتبات رؤساء محاكم الاستئناف بلغ مقداره شاملا كل شيء نحو 40 ألف جنيه شهريا (الدولار = 49.84 جنيها).

وأضافت: "بينما نظراؤهم في محاكم النقض يصل مرتب كل منهم إلى 75 ألف جنيه، وهناك فارق كبير لرؤساء الهيئات القضائية الذين يحصلون على أضعاف هذه المبالغ شهريا". 

المثير أن غضب ذلك القطاع من القضاة يأتي رغم ما يميزهم به نظام السيسي من حوافز ومكافآت وبدلات ومخصصات شهرية وسنوية.

حيث عمل على زيادة رواتب القضاة بشكل منتظم منذ الانقلاب العسكري في 3 تموز/ يوليو 2013. 

فخلال عام 2018، حصل قضاة الاستئناف على زيادة برواتبهم 5 آلاف جنيه بأثر رجعي لمدة عام، مع مساواتهم بقضاة محكمة النقض، إلى جانب العلاوة السنوية.

وفي عام 2017، قرر مجلس القضاء الأعلى زيادة رواتبهم ما بين 2600 و4200 جنيه.

وقبلها  في أبريل/ نيسان 2016، زادت رواتب القضاة ما بين 5 آلاف و7 آلاف جنيه شهريا، فيما زادت في منتصف 2015، بنسبة 30 بالمئة.

وكان المجلس القومي للأجور قد وضع الحد الأدنى للأجور في 30 يونيو 2024، ووصل إلى 6 آلاف جنيه، وذلك بعدما رفع القطاع الحكومي الحد الأدنى للأجور ووصل أيضا لـ6 آلاف جنيه في القطاع الخاص.

وفي 10 أكتوبر 2024، صرح رئيس الاتحاد العام لنقابات مصر، عبد المنعم الجمل، لقناة "etc" المحلية، أن الـ6 آلاف جنيه (الحد الأدنى للأجور) هو مجمل الأجر الذي يتقاضاه الشخص العامل في الشهر، ويتم خصم التأمينات منه، لذلك من ممكن أن يقبض الشخص 4500 أو 4600 جنيه.

اختبارات مذلة 

ومع ذلك لم تكن الأزمة الاقتصادية والمذبحة القضائية الأخيرة هي عامل الخلاف الوحيد بين القضاة والنظام. 

ففي 9 يوليو/ تموز 2024 تم الكشف عن رسوب عشرات القضاة المعينين في وظائف بالنيابة العامة ومجلس الدولة، في اجتياز اختبارات الكلية الحربية ما جعلهم يخضعون لدورة تدريبية بإشراف عسكري.

وكان النظام المصري قد أرسى في أبريل/ نيسان 2023، توجيها رئاسيا لمؤسسات الدولة يلزم الراغبين في التعيين بالحكومة بالحصول على دورة تأهيل داخل الكلية الحربية لمدة ستة أشهر كشرط أساسي للتعيين.

وجعل شهادة الحصول على التدريب ضمن مسوغات التعيين، وهو أمر رفضه نادي قضاة مصر.

كما أدانت دوائر قضائية مصرية، الإصرار على ترسيخ هذا المسار، مؤكدة أنه انتهاك شديد لاستقلال القضاء.

وشددت على أن هذه الممارسات تعد مساسا بالمكوّن القضائي لأعضاء السلطة القضائية ومؤثرا مباشرا على تكوينهم القضائي ومسلكهم اللاحق في ما يخص وظائفهم، ويؤثر هذا المسلك على مصداقية وسلوك المشاركين في هذه الدورات من القضاة وغيرهم.

ووصف رئيس مؤسسة دعم العدالة، ناصر أمين قرار تدريب القضاء عسكريا وإبعادهم حال رسوبهم بأنه "أخطر تهديد لاستقلال القضاء منذ أكثر من 70 عاما".

وذكر في بيان، عبر حسابه على موقع "فيسبوك" أن تدريب المعينين الجدد من القضاة في الأكاديمية العسكرية لمدة 6 أشهر يتضمن شبهتين".

وأكمل: "الأولى: الإخلال بمبدأ الفصل بين السلطات، وثانيتهما المساس باستقلال السلطة القضائية، فوفقا لمبادئ الأمم المتحدة بشأن استقلال القضاء فإن أي تدخل من السلطة التنفيذية بشأن السلطة القضائية يعد تدخلا وانتقاصا من سلطة الأخيرة واعتداء على استقلالها، وسلبا لاختصاصاتها". 

وعقب: "أي تدخل في شؤون القضاء بدءا من تعيينهم وتأهيلهم وتدريبهم وأعمالهم ونقلهم وانتدابهم يعد تدخلا منهيا عنه بموجب أحكام الدستور في مواده، رقم 165 بشأن استقلال السلطة القضائية". 

وتابع: "كذلك المادة 166 بشأن استقلال القضاة وعدم جواز تدخل أية سلطة في شؤون العدالة، والمادة 173 بشأن اختصاصات المجلس الأعلى للقضاء". 

سيطرة بالرعب 

ولطالما أرعبت المنظومة الأمنية والاستخباراتية للسيسي، معظم أعضاء وعناصر السلطة القضائية في مصر

ففي إطار سعي السيسي إلى تلك الهيمنة، استخدم سلاحا متداولا في يد السلطة، عبر إثارة العديد من قضايا الفساد التي لاحقت القضاة وأعضاء النيابة.

كان أبرزها في يناير/كانون الثاني 2016، عندما ضبطت هيئة الرقابة الإدارية (مصطفى نجل عبد الفتاح السيسي من أبرز قياداتها)، مدير مشتريات مجلس الدولة جمال اللبان، وبحوزته مبالغ مالية كبيرة، قدرت بـ24 مليون جنيه مصري، و4 ملايين دولار، ومليوني يورو، في واحدة من أكبر قضايا الفساد القضائي، التي هددت قيادات السلك القضائي بالكامل.

ولم يخل الأمر من إجراءات انتقامية بحق بعض القضاة، حدث هذا مع القاضي شريف حافظ (من أنصار تيار استقلال القضاء)، بعد تخفيفه حكما في قضية محلية، الأمر الذي أغضب قادة الانقلاب، ووضع تحت النظر، حتى تم اتهامه في قضية رشوة جنسية في يونيو/حزيران 2016، ورفعت عنه الحصانة القضائية، وأحيل لمجلس التأديب.

لكن تم الحكم ببراءة حافظ في يوليو/تموز 2016، بعد أن أصيب في سمعته.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2016، كانت المنظومة القضائية على موعد مع قضية فساد شغلت الرأي العام.

حيث تم القبض على المستشار طارق محمد زكي مصطفى (رئيس محكمة جنح مستأنف ديرب نجم بمحافظة الشرقية)، بعد أن اكتشفت كميات من الحشيش داخل سيارته، وكان برفقته طالبة وسائق، في أحد الأمكنة بمحافظة السويس.

ولعل هذه القضية أثارت حفيظة القضاة، من خطورة "تشويه السمعة"، والكشف عن قضايا مماثلة، ما جعل معظمهم ينأى عن الدخول في معارك مباشرة مع السلطة، وهو ما حدث في صراع تعديلات قانون السلطة القضائية، والحكم في مصرية جزيرتي تيران وصنافير.

وفي 20 أغسطس/ آب 2019، نشرت مؤسسة "مالكوم كير -كارنيغي للشرق الأوسط"، ورقة عن السلطة القضائية في مصر، للباحثة سحر عزيز، بعنوان "القضاء المصري تحت السيطرة"، قالت فيها: "تسببت الجهود المستمرة التي تبذلها السلطة التنفيذية لإحباط القضاة المستقلين ومعاقبتهم بإضعاف القضاء والسيطرة عليه". 

وختمت بحثها بالقول: "على ضوء الأدوات المختلفة المستعملة من أجل كبح استقلال القضاء، ليس مفاجئا أن أقساما من السلطة القضائية تتعاون في حملة القمع التي تستهدف حاليا المعارضين السياسيين، فالمناخ السياسي الراهن يفرض ثمنا باهظا جدا على القضاة الذين يجرؤون على تحدي المصالح الأساسية للسلطة التنفيذية".