مخاوف أميركية من "جوازات السفر الذهبية" في قبرص الرومية.. لماذا؟
"هذا لن يؤثر على تلك الجزيرة الصغيرة فحسب، بل أيضا على الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو والغرب بشكل عام"
في السنوات الأخيرة، فتحت قبرص الرومية بصورة لافتة أراضيها للأثرياء الروس للإقامة والاستثمار، لدرجة بات يبلغ عدد الروس هناك أكثر من 120 ألفا، أي ما يقرب من 10 بالمئة من السكان.
وفي هذا السياق، سلطت "مؤسسة جيمس تاون" الأميركية الضوء على النفوذ الروسي المتزايد في قبرص الرومية، محذرة الدول الأوروبية من أن ذلك قد يقوض مصالحها.
موطئ قدم
ونشرت المؤسسة مقالا للمدير السابق للأبحاث في الأكاديمية الدبلوماسية الأذربيجانية، بول جوبل، قال فيه إن "أجهزة الأمن الروسية تستخدم قبرص الرومية كموطئ قدم لها داخل الاتحاد الأوروبي لتقويض الغرب".
وأضاف: "منذ فبراير/شباط 2022، يندد العديد من الدول الأوروبية بالحرب التوسعية التي يشنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ضد أوكرانيا، وفرضت هذه الدول عقوبات، وطردت الجواسيس الروس الذين يعملون تحت غطاء دبلوماسي".
وأفاد بأن الأصوات التي تطالب الغرب بأن يبذل المزيد من الجهد تعالت أخيرا، في أعقاب تقرير صدر في 5 مايو/أيار أفاد بأن عملاء روسيين كانوا يخططون لتخريب البنية التحتية الرئيسة في جميع أنحاء أوروبا.
وهدف هؤلاء العملاء لإحداث الفوضى في القارة، وتقويض معارضتها لحرب بوتين، ووضع الأساسات لتحرك روسي مستقبلي ضد أعضاء حلف شمال الأطلسي “ناتو”.
وفي هذا الصدد، كان الاهتمام منصبا في المقام الأول على دول الناتو مثل المجر -التي تعارض الرد الغربي على عدوان الكرملين- وعلى الأنشطة الروسية هناك.
وانتقد الباحث هذا التوجه، مشيرا إلى أنه "لم يتم إيلاء سوى القليل من الاهتمام للتطورات في دول الاتحاد الأوروبي التي ليست أعضاء في حلف الناتو، مثل النمسا، وقبرص الرومية، وأيرلندا، ومالطا".
وقال إن "موسكو حققت نجاحا أكبر في تعزيز مواقفها في هذه البلدان، كما أنها تستخدم هذا النفوذ للقيام بأنشطة دبلوماسية وغير دبلوماسية لتعزيز مصالحها ضد الغرب".
ويرى المقال أن "قبرص الرومية هي أهم دولة في هذا الصدد بفارق كبير عن باقي الدول السابق ذكرها، ولدى موسكو سبب وجيه للتركيز عليها".
فقبرص جزيرة في البحر الأبيض المتوسط مقسمة عرقيا، وهي عضو في الاتحاد الأوروبي منذ عام 2004، على الرغم من أن قوانين الاتحاد الأوروبي لا تمتد إلى الشمال القبرصي التركي.
وبسبب هذا الانقسام، فإن الجزيرة ليست عضوا في حلف الناتو، وبالتالي، فهي تقدم لروسيا "مياها عكرة يمكنها الصيد فيها".
وقال إن "المشاكل التي تواجهها قبرص الرومية فتحت الباب أمام تدفق أعداد كبيرة من الروس على مدى العقدين الماضيين، حيث يقيم الآن أكثر من 120 ألف روسي في قبرص، أي ما يقرب من 10 بالمئة من السكان".
أضف إلى ذلك فساد حكومة قبرص الرومية في بيع ما يسمى "جوازات السفر الذهبية".
فقد سمحت هذه الجوازات، التي حصل عليها 2900 من الأثرياء أو النافذين الروس، بالتنقل بحرية في جميع أنحاء أوروبا، وهو أمر يمكن لموسكو الاستفادة منه، وفق المقال.
وندد الاتحاد الأوروبي بهذا في عام 2019، ولذلك أنهت قبرص الرومية هذا التوجه في عام 2020.
واستدرك المقال: "مع ذلك، فإن هذا ليس النشاط الروسي الوحيد في قبرص الرومية الذي أدانه الغرب، بل هناك نشاطات أخرى مازالت محل إدانة حتى اليوم".
على سبيل المثال، في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أشار صحفيون استقصائيون إلى أن البنوك الروسية في قبرص الرومية تساعد نظام بوتين على التهرب من العقوبات، وهي التقارير التي دفعت مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي إلى محاولة منع مثل هذا النشاط.
صورة مزعجة
وفي 1 مايو/أيار 2024، أصدر "مركز دوسير (Dossier Center)"، التابع لزعيم المعارضة الروسية في المهجر، ميخائيل خودوركوفسكي، تقريرا من 3 آلاف كلمة.
ويشرح التقرير بالتفصيل كيف حولت موسكو قبرص الرومية إلى موطئ قدم في أوروبا لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB) وأجهزة الأمن الأخرى في موسكو.
ويقول إن "الصورة التي يقدمها التقرير مزعجة للغاية، ولكن من المأمول أن تدفع الحكومات الأوروبية والحكومات الغربية الأخرى إلى اتخاذ إجراءات فورية وفعالة ضد هذه العمليات التي ترصدها إلى حد بعيد".
ويشير إلى أن قبرص الرومية لم تطرد أي دبلوماسي روسي منذ فبراير/شباط 2022، في تناقض حاد مع الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد الأوروبي.
بل في الواقع، خلال تلك الفترة، زاد عدد موظفي السفارة الروسية في الجزيرة إلى أكثر من 300 موظف، وجميعهم بعيدون كل البعد عن الدبلوماسية فعلا.
فقد ركّبت السفارة هوائيات اتصالات جديدة على سطح المبنى، وافتتحت قنصلية في الجزء التركي من الجزيرة، ووسعت عملها مع الشتات الروسي.
ويشير إلى أن "أكثر ما يدل على نوايا موسكو ربما يكون تعيين بوتين لمراد زيازيكوف، وهو فريق في جهاز الأمن الفيدرالي ولا يتمتع بخبرة دبلوماسية، سفيرا لدى قبرص الرومية في سبتمبر/أيلول 2022".
وفي ديسمبر/كانون الأول 2023، قلّد بوتين زيازيكوف وساما على عمله في الجزيرة.
وأضاف أن "بعض المراقبين قد يميلون إلى استبعاد الحجم الهائل للسفارة الروسية في قبرص الرومية بوصفه مجرد رد فعل معقول على وجود عدد كبير من السكان من ذوي الأصول الروسية هناك، بما في ذلك العديد من السياسيين المتقاعدين البارزين والأوليغارشيين".
"هذا فضلا عن وضع موسكو عشرات المليارات من الدولارات في البنوك القبرصية الرومية بهدف غسل الأموال".
ومع ذلك، كما يشير "مركز دوسير"، فقد استخدمت موسكو وسفارتها في نيقوسيا كلا من السكان الروس وأموالهم في بنوك القبرص الرومية للتحايل على العقوبات، وكسب النفوذ لتوجيه سياسات قبرص الرومية الداخلية والخارجية.
وقال: "ربما يكون هذا الأمر نُسي الآن، لكن قبرص الرومية كانت في عام 2016 أول دولة أوروبية تدعو إلى رفع العقوبات الغربية المفروضة على موسكو بعد ضم بوتين لشبه جزيرة القرم".
وأضاف: "اليوم، أصبحت حكومة قبرص الرومية من بين أولئك الذين يعارضون الاستيلاء على الأصول الروسية في الغرب وتحويل العائدات إلى أوكرانيا".
نشاط استخباري
وذكر "مركز دوسير" أن "قيادة الأنشطة الاستخباراتية لمختلف الأجهزة الروسية تتركز في الممثليات الدبلوماسية الروسية"، بما في ذلك في نيقوسيا، العاصمة.
وتشمل هذه الأجهزة جهاز الأمن الفيدرالي (FSB)، وجهاز المخابرات الخارجية (SVR)، والاستخبارات العسكرية الروسية (GRU).
وفي حالة قبرص الرومية، الدولة التي يبلغ عدد سكانها 1.2 مليون نسمة فقط، فإن هذه الأجهزة تنفّذ حتما عمليات ليس فقط في الجزيرة بل أيضا في بلدان أخرى.
ويتضمن عملهم -بحسب المقال- التواصل مع دول الاتحاد الأوروبي، والعديد منها أعضاء في الناتو، وحلفاء غربيين آخرين، بما في ذلك إسرائيل.
وأضاف أن "موظفي السفارة الروسية في نيقوسيا يعملون بشكل وثيق مع الكنيسة الأرثوذكسية الروسية التابعة لبطريركية موسكو، على الرغم من أن لديها كنيسة واحدة فقط في قبرص الرومية".
وتابع: "إنهم يدعمون وسائل الإعلام الناطقة بالروسية والأنشطة العامة ذات الطبيعة التي حظرتها معظم دول الاتحاد الأوروبي منذ عام 2022".
وأفاد بأنهم "يدعمون أيضا تشكيل أحزاب سياسية لاختيار المرشحين للحكومة القبرصية الرومية والتمثيل في مؤسسات الاتحاد الأوروبي".
كما أنهم يؤثرون باستمرار على قرارات الحكومة القبرصية الرومية بشأن التعليم واللغة وغيرها من القضايا، بحسب المقال.
وقال: "كما هو الحال في كثير من المواقف مع العمليات الاستخباراتية، تميل وسائل الإعلام إلى تغطية الإخفاقات بدلا من النجاحات".
واستدرك: "مع ذلك، فحتى هذا النوع من التقارير يسلط الضوء على مدى تشعب نهج موسكو تجاه قبرص الرومية بوصفها موطئ قدم ضد الغرب"
ولدى عرضه للتحقيق، قال الباحث في مركز "دوسير"، دميتري خميلنيتسكي، إن النتائج التي توصل إليها ينبغي أن تكون مثار قلق ليس لقبرص الرومية فحسب، بل للغرب ككل.
وأكد على أن "أولئك الذين يتجاهلون ما تفعله موسكو لأن قبرص الرومية لا تتبع نظام العقوبات الذي يفرضه الاتحاد الأوروبي، إنما يتجاهلون شيئا بالغ الأهمية".
فكما خلص خميلنيتسكي، فإن "قبرص الرومية لا تسعى إلى التخلص من العملاء الروس ولا تتدخل في عملهم، على الرغم من أن ما يفعله الكرملين واضح للعيان".
وختم المقال بالتشديد على أن "هذا لن يؤثر على تلك الجزيرة الصغيرة فحسب، بل أيضا على الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو والغرب بشكل عام".