قمع المسلمين في إريتريا.. كيف صادر نظام أفورقي آخر منارة قرآنية في قندع؟

المسلمون في إريتريا يواجهون تهميشا مضاعفا بالداخل والخارج
في قلب مدينة قندع الإريترية، بإقليم شمال البحر الأحمر، اعتاد الأطفال المسلمون السير في الصباح الباكر حاملين ألواحهم الخشبية إلى مركز تحفيظ القرآن الكريم.
لكن في 16 أغسطس/ آب 2025، ساد صمت ثقيل بعد أن اقتحمت قوات الأمن المبنى، واعتقلت شيخه المعروف آدم شعبان، وأغلقت أبوابه لتسلمه إلى وزارة التعليم.
لم يكن هذا المشهد سوى حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الهجمات التي يشنها نظام الرئيس أسياس أفورقي على المؤسسات الإسلامية منذ أكثر من ثلاثة عقود، في محاولة منظمة لإلغاء أي فضاء ديني أو تعليمي مستقل عن قبضة الدولة.
الحملة الأخيرة
القصة كانت في ظاهرها إغلاق مركز ديني قديم، لكن في عمقها تكشف عن سياسة سلطوية لإعادة هندسة المجتمع منذ استقلت إريتريا عام 1993.
ومن قندع إلى كرن وأسمرا، تتكرر الحكاية نفسها، معاهد إسلامية عريقة أغلقت، مساجد هدمت، مئات العلماء والدعاة اعتقلوا أو اختفوا قسر في مجتمع يشكل المسلمون فيه نصف سكان البلاد.
وبحسب "المنظمة العربية لحقوق الإنسان" في بريطانيا، فإن المركز الذي داهمته قوات الأمن الإريترية تأسس عام 1969 على أرض وقف أهداها المواطن سيد محمد داود.
ولم يكن ذلك المركز مجرد مدرسة قرآنية، بل ركيزة أساسية في حفظ الهوية الدينية والثقافية للمجتمع المسلم المحلي عبر عقود.
فقد خرج أجيالا من العلماء والدعاة، وكان بعض الأطفال يقطعون مسافة ساعة ونصف سيرا على الأقدام ليصلوا إليه.
وقالت المنظمة: إن هذا الحدث ليس استثناء، بل يأتي ضمن سجل متواصل من الانتهاكات، فمنذ التسعينيات، شملت الإجراءات إغلاق معاهد عريقة تعود إلى القرن الماضي.
منها معهد الدين الإسلامي في كرن (تأسس عام 1961)، معهد عنسبا وازنتت (1963)، معهد أصحاب اليمين (1969)، والمعهد الإسلامي في قندع نفسه.
كذلك إغلاق مدرسة الضياء الإسلامية في أسمرا (تأسست 1967)، ثم مركز الضياء والبخاري لاحقا بين عامي 2000 و2020، فيما جرى هدم أربعة مساجد في مدينة مندفرا خلال عامي 1995 و1996.
وهذه ليست قرارات إدارية عابرة، بل حلقة ضمن خطة مستمرة لتفكيك أي مؤسسة دينية إسلامية مستقلة عن سيطرة النظام.

حصار العلماء والدعاة
إلى جانب إغلاق المؤسسات، شنت السلطات حملات اعتقال واسعة استهدفت العلماء والدعاة.
فقد وقعت أكثر من 220 شخصية دينية وتعليمية ضحية الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري، بعضهم توفي في ظروف غامضة داخل السجون، بينما ترفض السلطات حتى الكشف عن أسمائهم أو ظروف وفاتهم.
هذه الممارسات تكشف بوضوح عن عقلية نظام يخشى من أي صوت مستقل، ولو كان في إطار تعليم القرآن الكريم للأطفال.
ولم يتوقف أثر هذه السياسات عند حد المؤسسات، بل انعكس على المجتمع الإريتري المسلم بأكمله.
فقد أضعفت بنيته التعليمية، وحرم من إدارة أوقافه، وصار بناء المساجد خاضعا لقيود مشددة. ومع غياب هذه المؤسسات، تفقد الأجيال الجديدة حلقات الوصل مع تراثها الديني والثقافي.
ويرى كثيرون أن النتيجة هي مجتمع مهدد بفقدان ذاكرته الروحية. ففي وقت يتباهى فيه النظام بأنه يحافظ على “الوحدة الوطنية”، يمارس تمييزا صارخا ضد نصف السكان.
ومن هنا طالبت المنظمة العربية لحقوق الإنسان بالإفراج الفوري وغير المشروط عن الشيخ آدم شعبان وسائر المعتقلين، كما دعت المقررين الأمميين المعنيين بحرية الدين إلى التدخل العاجل بشأن الاعتقال التعسفي.
وأكدت أن استمرار هذه السياسات يجعل من الضروري إرسال بعثة لتقصي الحقائق حول أوضاع الحرية الدينية والتعليم الديني في البلاد.
لكن هذه الدعوات، رغم أهميتها، تواجه جدار الصمت الذي يحيط بإريتريا، حيث تحكم الدولة قبضتها على الإعلام والمجتمع المدني.

المسلمون وأفورقي
وأسياس أفورقي، الرجل الذي قاد كفاح بلاده ضد إثيوبيا حتى نالت استقلالها عام 1991، تحول بعد ثلاث سنوات فقط من إعلان الدولة الجديدة إلى رئيس يمسك بمفاصل السلطة بقبضة من حديد.
فمنذ انتخابه عام 1993 عبر الجمعية الوطنية، وقيادته لاحقا لتحويل "الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا" إلى حزب حاكم تحت مسمى "الجبهة الشعبية من أجل الديمقراطية والعدالة"، لم يعرف الإريتريون تعددية سياسية ولا تداولا للسلطة.
وبقدر ما كان أفورقي رمزا للتحرر في بداية التسعينيات، صار لاحقا عنوانا للقمع والاستبداد، حيث تُتهم حكومته بارتكاب انتهاكات واسعة النطاق من اعتقالات تعسفية واختفاءات قسرية وتعذيب.
فيما صنفت تقارير الأمم المتحدة ومنظمات دولية بلاده ضمن الأسوأ بالعالم في مجال حقوق الإنسان وحرية الصحافة.
لكن أكثر ما يميز علاقة أفورقي في المجتمع هو سياساته تجاه المسلمين الذين يشكلون غالبية تاريخية في إريتريا.
فهذه الفئة، التي كانت تشكل نحو 80 بالمئة من السكان قبل عقود، وجدت نفسها تدريجيا في مواجهة مشروع منظم لتقليص حضورها.
وبالتوازي مع هذه السياسات، روج إعلام النظام لرواية جديدة تزعم أن المسلمين والمسيحيين يشكلون نسبا متساوية في المجتمع، رغم أن البلاد لم تشهد أي إحصاء رسمي منذ أكثر من ربع قرن.
وبات واضحا أن العلاقة بين أفورقي والمسلمين في إريتريا تقوم على معادلة الإقصاء والتهميش.
إذ يسعى النظام إلى تفريغ المجتمع من مؤسساته وهويته الدينية، وإعادة صياغة التركيبة السكانية والسياسية بما يضمن بقاءه المطلق، حتى لو كان الثمن محو تاريخ وذاكرة أغلبية البلاد.

رسالة تحذيرية
وفي حلقة بثت على قناة "سلام" الفضائية، المختصة بالشأن الإريتري، في 28 يوليو/تموز 2025، وجه الأمين العام لرابطة علماء إريتريا الشيخ برهان سعيد، انتقادات لاذعة لنظام أفورقي، واصفا إياه بأنه يقود دولة منحازة للمسيحيين على حساب الأغلبية المسلمة.
وأكد أن السلطة في البلاد أصبحت اليوم تحت سيطرة المسيحيين بنسبة تقارب 98 بالمئة، بينما جرى تهميش المسلمين بشكل شبه كامل، إلى درجة انعدام مكانتهم ودورهم في الحياة العامة.
وأشار الشيخ برهان إلى أن هذا التهميش لم يأت من فراغ، بل نتيجة سياسة طويلة استهدفت المسلمين في هويتهم مباشرة.
في المقابل، سمحت الحكومة ببناء الكنائس الجديدة في مختلف المدن، بل ومنحتها استثمارات على أراضي المسلمين.
حتى إن الكنيسة الإريترية كرمت أفورقي تقديرا لـ “خدماته” لها خلال سنوات حكمه، في الوقت الذي يحرم فيه المسلمون من أبسط حقوقهم في تكريم علمائهم أو إدارة أوقافهم.
وتساءل الشيخ عن الأسباب التي تمنع الحكومة من السماح بعودة ملايين اللاجئين المسلمين إلى أرضهم، في حين يفتح الباب واسعا أمام توسع الكنيسة.
وأضاف أن الشعب الإريتري كان يظن أن حكومة أفورقي ستبقى "علمانية" على مسافة واحدة من الأديان، لكن التجربة أثبتت أنها تقترب من المسيحيين وتقصي المسلمين بشكل ممنهج.
وحذر الشيخ من أن هذه السياسات المنحازة لا تهدد المسلمين وحدهم، بل تدفع البلاد نحو فتنة كبرى بينهم وبين المسيحيين، محملا أفورقي المسؤولية عن خطر تمزيق النسيج الوطني.
وفي ختام حديثه، دعا الشيخ برهان عقلاء المسيحيين في إريتريا إلى نصح النظام قبل فوات الأوان، محذرا من أن استمرار هذه السياسات "التدميرية" سيدفع ثمنها الجميع.
معادلة مزدوجة
وعن سياسات أفورقي، قال أستاذ العلوم الإسلامية الإريتري الدكتور عافه محمد عثمان: إنه لا يمكن فهم نهج أفورقي بمعزل عن الموقع الجيوسياسي الحساس لإريتريا في قلب القرن الإفريقي.
وتابع لـ"الاستقلال": "فموقعها الإستراتيجي على البحر الأحمر جعلها مطمعا إقليميا، وسط تنافس محموم بين قوى مثل الإمارات والسعودية وإيران وتركيا".
وقد استثمر النظام هذه الوضعية، مستخدما شعار مكافحة الإرهاب كورقة ضغط في تعامله مع واشنطن والاتحاد الأوروبي، مقدما نفسه كدولة علمانية صارمة تكبح ما يسميه الإسلام السياسي، وفق عثمان.
"وهو ما سمح له بالإفلات من المساءلة رغم سجله الأسود في انتهاكات حقوق الإنسان، خاصة ما يتعلق بالقمع الممنهج ضد المسلمين".
وأشار عثمان إلى أن السياسات الدينية للنظام ليست إجراءات معزولة، بل جزء من معادلة حكم مزدوجة، تقوم في الداخل على سحق كل فضاء مستقل قد يتيح للمجتمع بناء مؤسسات بديلة.
وفي الخارج تعتمد على ترويج صورة الدولة القوية العلمانية التي تحارب التطرف، لتأمين غطاء شرعي دولي.
والنتيجة أن المسلمين في إريتريا يواجهون تهميشا مضاعفا، قمعا في الداخل وتجاهلا في الخارج، على حد تعبيره.
وتابع قائلا: "إريتريا، تضم تسع قوميات، ست منها يتبع أبناؤها الإسلام بشكل كامل، فيما الغالبية في القوميات الثلاث الأخرى أيضا مسلمون، باستثناء قومية واحدة ذات أغلبية مسيحية".
وهذا يعني أن المسلمين يمثلون عمق الهوية التاريخية للبلاد، لكن النظام يسعى لإقصائهم وإضعاف مؤسساتهم، بحسب تقديره.
وحذر من أن هذه السياسات تمثل مشروعا يستهدف تحييد الدين وترويضه لخدمة السلطة لا المجتمع، مؤكدا أن "المسيحيين والمسلمين مطالبون اليوم بالاتحاد ورفض محاولات النظام لإدامة حكمه وتقسيم الشعب".
المصادر
- "العربية لحقوق الإنسان": السلطات الإريترية تضيق على المؤسسات الإسلامية
- الشيخ برهان سعيد: 98% من السُّلطة في إرتريا بيد المسيحيين وعلى المسلمين في إرتريا أن لا يسكتو على هذا الظلم
- مأساة المسلمون في إريتريا
- Rare protests in Eritrea
- احتجاجات المغتربين الإريتريين على التمييز ضد المسلمين
- رئيس إريتريا ذو القبضة الحديدية.. ثلاثة عقود في السلطة