انقلابات الظل.. هكذا تستخدم فرنسا الجيش والسياسة لإبقاء قبضتها على مالي

"المجلس العسكري المالي يضع باريس في مرمى الاتهام"
في تطور لافت يعكس عمق القطيعة بين باماكو وباريس، أعلن المجلس العسكري الحاكم في مالي يوم 14 أغسطس/ آب 2025 عن إحباط محاولة انقلابية تورط فيها جنرالان وعشرات الجنود لصالح باريس، إلى جانب اعتقال مواطن فرنسي يشتبه بارتباطه بجهاز الاستخبارات الفرنسية.
وأفادت مصادر أمنية لوكالة الصحافة الفرنسية بأن عدد الموقوفين بلغ 55 عسكريا على الأقل، بينهم عسكريون بارزون مثل عباس دمبلي، الجنرال الكبير في الجيش، والحاكم السابق لمنطقة موبتي، ونيما ساغارا، المرأة القوية التي كانت أول سيدة تتولى رتبة جنرال في سلاح الجو.
وبالتهمة الأخيرة، تكون باماكو قد وضعت باريس مجددا في قفص الاتهام، ليس فقط كقوة استعمارية سابقة، تعد مالي منطقة نفوذ تابعة لها، بل كفاعل نشط في محاولات زعزعة الاستقرار وإجهاض أي مسار استقلالي حقيقي في مالي ومنطقة الساحل الإفريقي بأسرها.
طبيعة المؤامرة
لم يكن الاتهام العلني مجرد تفصيل عابر في بيانات السلطة الانتقالية المالية، بل يندرج ضمن سياق أوسع من المواجهة مع النفوذ الفرنسي الذي حكم البلاد لعقود طويلة بعد الاستقلال الشكلي عام 1960.
فباماكو ترى أن تدخلات باريس لم تتوقف عند حدود السيطرة الاقتصادية والسياسية، بل امتدت إلى محاولات تقويض استقرار الدولة كلما حاولت التحرر من الوصاية القديمة.
وبحسب البيان العسكري، فإن المجموعة المعتقلة سعت إلى "زعزعة استقرار مؤسسات الجمهورية" بدعم مباشر من قوى أجنبية، في إشارة واضحة إلى فرنسا.
وتشير المعطيات إلى أن العملية استهدفت الحرس الوطني، وهو الجهاز الذي تخرج منه وزير الدفاع الحالي ساديو كامارا، أحد أبرز رجال السلطة الجديدة، ما يطرح علامات استفهام حول مدى تغلغل النفوذ الخارجي داخل المؤسسات الأمنية.
اللافت أن هذه الحملة جاءت متزامنة مع اعتقال رئيس الوزراء السابق المقرب من باريس، شوغيل مايغا بتهم فساد.
الأمر الذي يكرس صورة نظام يسعى لقطع الطريق أمام تحالفات سياسية داخلية وخارجية قد تعيد فتح الباب أمام تدخلات الإليزيه.
مالي التي عاشت عقدا من الاضطرابات منذ عام 2012 بسبب التمردات المسلحة وتنامي الجماعات المتشددة، وجدت نفسها بعد انقلابي 2020 و2021 في مواجهة مباشرة مع فرنسا.
لتقرر تحت قيادة العقيد أسيمي غويتا، الرئيس الحالي للبلاد، طرد القوات الفرنسية وإنهاء الشراكة العسكرية التاريخية معها، متجهة إلى روسيا وقوى أخرى تبحث من خلالها عن استعادة قرارها السيادي.
إستراتيجية غويتا
وفي 17 أغسطس 2025 تصاعدت الأزمة أكثر، بعدما طالبت فرنسا بالإفراج الفوري عن الدبلوماسي الذي يعمل في سفارتها بباماكو، عقب إعلان السلطات المالية توقيفه بتهمة "العمل لصالح جهاز استخبارات فرنسا".
الخارجية الفرنسية سارعت إلى التنديد بالخطوة، مؤكدة أن دبلوماسيها يتمتع بـ"الحصانة الدبلوماسية" وفق اتفاقية فيينا، ووصفت الاتهامات بأنها "باطلة ولا أساس قانونيا لها".
هذا التطور فتح جبهة جديدة من التوتر بين البلدين، إذ عدته باماكو جزءا من مخطط أوسع للتدخل الفرنسي في شؤونها الداخلية، بينما رأت باريس فيه انتهاكا للأعراف الدبلوماسية.
وفي الوقت ذاته، أصدرت السفارة الفرنسية رسالة تحذيرية إلى رعاياها في مالي، دعتهم فيها إلى توخي الحذر وتجنب أماكن التجمعات، ما يعكس إدراك باريس لخطورة الوضع وانزلاقه نحو مواجهة دبلوماسية وأمنية مفتوحة.
ويقود العقيد أسيمي غويتا، إستراتيجية فك الارتباط عن فرنسا، والتحالف مع روسيا.
وأسيمي المولود عام 1980 في أسرة عسكرية، تدرج في صفوف الجيش المالي منذ عام 2002 وشارك في المعارك ضد التمرد شمال البلاد، قبل أن يسطع اسمه بقوة عقب قيادته انقلابي 2020 و2021 اللذين أطاحا برئيسين مدنيين متعاقبين.
ومنذ ذلك الحين، بات الرجل الرقم الأبرز في معادلة الحكم الانتقالي، وفي مايو/أيار 2022 ثبتت المحكمة الدستورية موقعه رئيسا مؤقتا للمرحلة الانتقالية، ثم أوصى مؤتمر الحوار الوطني في أبريل/نيسان 2025 بمنحه ولاية جديدة مدتها خمس سنوات، رغم اعتراضات سياسية داخلية.
لكن الثابت أن غويتا رسخ منذ البداية خيارا إستراتيجيا، التخلص من النفوذ الفرنسي التاريخي والانفتاح الكامل على روسيا.
فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة، ردت على الانقلاب بسحب قواتها التي كانت تشارك في قتال الجماعات المسلحة.
في حين فتحت موسكو ذراعيها لباماكو، حيث أبرمت عدة صفقات مع مجموعة "فاغنر" لنشر مقاتلين ومرتزقة دعماً للجيش المالي.
ومع كل خطوة ابتعدت فيها مالي عن باريس، تعمقت شراكتها الأمنية والسياسية مع موسكو، في مسار يراه غويتا تجسيدا لـ"الاستقلال الثاني".
التوتر بلغ ذروته في يوليو/تموز 2022 حين نجا غويتا من محاولة اغتيال أثناء صلاة عيد الأضحى بالجامع الكبير في باماكو.
وهي الحادثة التي لمحت وسائل إعلام محلية إلى تورط فرنسا فيها، ما عزز رواية السلطة الانتقالية بأن باريس لم تتخل يوما عن سعيها لإبقاء مالي تحت قبضتها، بأي ثمن.
فشل استخباراتي
وفي تقرير لوكالة "رويترز" البريطانية بتاريخ 5 يناير/كانون الثاني 2025، وصفت التطورات المتسارعة في منطقة الساحل، تحديدا مالي، بأنها أكبر إخفاق إستراتيجي لفرنسا منذ عقود.
وربط التقرير بين إقصاء رئيس الاستخبارات الخارجية السابق، برنار إيميه (65 عاما)، وبين العجز الذي أصاب أجهزة المخابرات الفرنسية.
إذ فشلت في التنبؤ أو إحباط الانقلابات المتتالية التي اجتاحت مالي وبوركينا فاسو والنيجر خلال أربعة أعوام فقط، وأدت في النهاية إلى انهيار النفوذ الفرنسي وخروجها العسكري الكامل من المنطقة.
باريس التي كانت تفاخر بانتشار قوة "برخان" المكونة من 5500 جندي مدعومين بقدرات لوجستية وجوية واستخباراتية هائلة، وجدت نفسها مجبرة على الانسحاب أولا من مالي، التي مثلت رأس الحربة، ثم من بوركينا فاسو، وأخيرا من النيجر، حيث غادر آخر جندي فرنسي في 22 ديسمبر/كانون الأول 2023.
الأكثر خطورة أن الانسحاب الفرنسي ترافق مع تفكك المظلة الدولية التي كانت تدعمها.
فإلى جانب رحيل قوة “برخان” انسحبت قوة الكوماندوز الأوروبية "تاكوبا" وجزء كبير من القوات الأممية في مالي، ما ترك فراغا هائلا في معادلة الأمن الإقليمي.
وبينما لم تتمكن قوة محدودة إيطالية ألمانية أو القواعد الجوية الأميركية في النيجر من ملء هذا الفراغ، سارعت موسكو لاستغلاله عبر إعادة تنظيم مقاتلي "فاغنر" تحت اسم جديد، "أفريكا كوربس".
سياسات متخبطة
هذا التحول بحسب "رويترز" يعكس انتقال زمام المبادرة في الساحل من باريس إلى موسكو، حيث بات النفوذ الروسي يتعاظم بوضوح في مالي وبوركينا فاسو، على أنقاض النفوذ الفرنسي المتآكل.
وتضع هذه التطورات تحديات جسيمة أمام الاستخبارات الخارجية الفرنسية، الذي أوكلت إليها مهمة شاقة، تحت قيادة "نيكولا ليرنر"، تتمثل في محاولة فهم أسباب الانهيار والعمل على ترميم ما يمكن إنقاذه من حضور فرنسا في مالي، بصفتها واحدة من أكثر المناطق إستراتيجية في إفريقيا.
وكانت صحيفة "تايمز" البريطانية قد وجهت انتقادات لفرنسا بشأن إدارة مستعمراتها السابقة في إفريقيا، وحملتها المسؤولية عما وقع من اضطرابات.
وقالت في افتتاحيتها الصادرة في 8 أغسطس 2023: "إن سياسات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المتخبطة في المستعمرات الفرنسية السابقة في إفريقيا، فشلت في تحقيق الاستقرار لتلك البلدان".
وأضافت الصحيفة البريطانية أن مالي كانت تعد إلى وقت قريب من أكثر المستعمرات الفرنسية السابقة استقرارا بمنطقة الساحل الإفريقي، لكنها لم تعد كذلك الآن بعد الإطاحة بحكومتها، شأنها شأن بوركينا فاسو والنيجر.
المصادر
- مالي تتهم قوى أجنبية بالتآمر على استقرارها وتعتقل جنرالين ومواطناً فرنسياً
- باريس تستنكر توقيف مالي موظفا في السفارة الفرنسية
- آسيمي غويتا جنرال قاد انقلابين وحل الأحزاب وتولى رئاسة مالي
- "فاغنر" في مالي... مقايضة أمن النظام بثروات البلاد
- russia-wagner-mali-mercenaries-putin
- نيويورك تايمز: تفاصيل جديدة عن هزيمة فاغنر في مالي