"دبلوماسية المياه".. هل تتمكن تركيا من ملء الفراغ الإيراني في العراق؟

أنقرة تستخدم "دبلوماسية المياه" كأداة للحفاظ على نفوذها على صناع القرار العراقيين
لم تكن الوثيقة الموقعة بين العراق وتركيا في مجال التعاون المائي مجرد اتفاق تقني يعالج أزمة شح المياه أو ينظم الإطلاقات المائية نحو الأراضي العراقية، بل رآها مراقبون تحمل أبعادا سياسية أوسع، لا سيما أنها تأتي في وقت يشهد فيه الشرق الأوسط تراجعا واضحا للدور الإيراني.
وفي 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، وقّع وزير الخارجية التركي هاكان فيدان ونظيره العراقي فؤاد حسين في العاصمة بغداد، وثيقة تتعلق بآلية تمويل المشاريع ضمن اتفاقية التعاون الإطارية في مجال المياه بين حكومتي البلدين، وذلك استكمالا لاتفاق جرى التوصل إليه عام 2024.

النفط مقابل الماء
على المستوى الرسمي العراقي، أكد رئيس الحكومة محمد شياع السوداني أن اتفاقية التعاون الإطارية الموقعة مع تركيا تمثل إحدى الخطوات المهمة نحو إيجاد حلول دائمة لأزمة المياه في العراق، وذلك وفق بيان رسمي صادر عن مكتبه الإعلامي في 2 نوفمبر.
وبحسب السوداني، فإن "الاتفاق سيكون أحد الحلول المستدامة لأزمة المياه في العراق، من خلال حزم المشاريع الكبيرة المشتركة التي ستُنفذ في قطاع المياه، لمواجهة وإدارة أزمة شحّ الموارد المائية".
ولفت إلى أهمية متابعة تنفيذ مخرجات الاتفاق التي جرى التوصل إليها خلال زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى بغداد عام 2024، موضحا أن أزمة المياه تُعد أزمة عالمية، وأن العراق أحد البلدان التي تضررت بسببها.
وأشار السوداني إلى أن "اتفاق آلية التمويل سيعزز العلاقات الثنائية مع تركيا، ويسهم في تناميها بمختلف المجالات، بما يحقق المصالح المشتركة للبلدين الصديقين".
من جهته، وصف وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين، خلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره التركي هاكان فيدان، الاتفاق بأنه "اتفاق تاريخي بشأن إدارة المياه بين بغداد وأنقرة".
وأردف قائلا: "لقد عقدنا في أنقرة اجتماعات موسعة حول قضية المياه، وتوصلنا هناك إلى اتفاقات، وهذه الاتفاقات تحولت إلى مذكرة تفاهم، وسيتم بعد ساعات توقيع الاتفاق التاريخي المتعلق بإدارة المياه، وهو الأول من نوعه في تاريخ العلاقات العراقية – التركية".
بدوره، قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان: إن الاتفاق "سيمهد الطريق لإعادة تأهيل شبكات المياه في العراق بشكل دائم". مضيفا: "سيكون أكبر استثمار في البنية التحتية في تاريخ العراق".
وبحسب ما نشرته وكالة الأنباء العراقية (واع) في 4 نوفمبر، فإن المناقشات بين أنقرة وبغداد استمرّت لأكثر من عام للتوصل إلى آلية مناسبة تساعد على تنفيذ الاتفاقات ومذكرات التفاهم الموقعة بشأن قطاع المياه.
وأشارت الوكالة الرسمية إلى أن المشاريع تشمل: "تحسين نوعية المياه وإيقاف تلويث الأنهار، وتطوير أساليب الري واستخدام تقنيات الري الحديثة، واستصلاح الأراضي الزراعية، وحوكمة إدارة المياه في العراق وترشيد استخدامها".
وأضافت أن "تمويل هذه المشاريع سيكون وفق سياقات وزارة المالية العراقية، ومن حساب يُنشأ من بيع كميات من النفط الخام تُحدد بقرار من مجلس الوزراء، ووفقا لسعر النشرة العالمية للنفط العراقي المباع للشركة التركية التي يجب أن تكون مقبولة لدى شركة تسويق النفط العراقي".
وتابعت: "وقد تمَّ تضمين الآلية شرطا ينص على أنه في حال إعادة بيع النفط العراقي خارج جمهورية تركيا وفي السوق الأوروبية فقط، تكون حصة العراق (65 بالمئة) من الفائدة المتحققة من إعادة بيع النفط بسعر أعلى من النشرة العالمية".
وتُعد "اتفاقية التعاون الإطارية في مجال المياه"، المبرمة في 22 أبريل/نيسان 2024، و"وثيقة آلية التمويل" الموقعة في 2 نوفمبر، بداية مرحلة إستراتيجية جديدة في العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين. وفق وكالة "الأناضول" التركية.

أبعاد سياسية
فيما يتعلق بتوقيت توقيع الاتفاق قبل الانتخابات العراقية التي جرت في 11 نوفمبر، قال الخبير في الشأن التركي، محمود علوش: إن "ثمة بُعدا سياسيا واضحا للاتفاق، فهو مرتبط بالوضع الجديد السائد في العلاقات بين البلدين، خصوصا في ظل حكومة محمد شياع السوداني التي شهدت تقدما كبيرا على مستوى التعاون الثنائي".
وأوضح علوش في حديثه لـ"الاستقلال" أن "ملف المياه يُعد جزءا من مجموعة ملفات تشكل الإطار العام للعلاقات العراقية– التركية، وعلى رأسها ملف الأمن، لا سيما أن توقيع الاتفاق تزامن مع تنامي التعاون بين الجانبين في مكافحة الإرهاب، والدور الذي تلعبه بغداد في رعاية ودعم عملية السلام بين تركيا وحزب العمال الكردستاني".
وأضاف الخبير أن "التراجع الإيراني في المنطقة أوجد فراغات واضحة، وتحديدا في سوريا والعراق، تسعى تركيا إلى ملئها. ففي الجانب السوري، استطاعت أنقرة، بفعل نفوذها المتنامي بعد التحولات الأخيرة في دمشق، أن تشغل مساحة واسعة من الفراغ الذي تركته إيران".
وأردف علوش قائلا: "أما في العراق، فلا شك أن تركيا تسعى للاستفادة من التراجع الإيراني النسبي، لكنها تدرك أن طهران ما تزال قوة إقليمية مهيمنة من حيث التأثير في الساحة العراقية مقارنة مع الجانب التركي".
ورأى علوش أن العلاقات بين أنقرة وبغداد تمثل "فرصة مهمة للأخيرة من أجل توسيع هامش المناورة الإقليمي، وموازنة علاقاتها مع الفاعلين الإقليميين الرئيسين، وفي مقدمتهم تركيا وإيران".
وشدَّد على أن "تركيا لا تتطلع إلى التدخل في الشأن السياسي الداخلي للعراق، لكنها ترى أن استقرار العراق هو جزء من استقرارها هي أيضا، تماما كما هو الحال في سوريا".
وانطلاقا من ذلك، فإن الدبلوماسية التركية تجاه العراق – بحسب علوش – ترتكز على "مساعدة بغداد في تحقيق الاستقرار الداخلي، بصفته بوابة لتعاون أكثر فاعلية مع تركيا في الملفات التي تهمها، وفي مقدمتها الأمن والمياه".
في المقابل، يرى مراقبون عراقيون أن أنقرة تمكنت، عبر اتفاق المياه، من تحقيق نفوذ إستراتيجي جديد في العراق، وربما تستخدمه لاحقا كورقة ضغط سياسية على القوى الشيعية الحاكمة منذ عام 2003، ما يمنحها تأثيرا متزايدا في المشهد السياسي العراقي، في ظل تراجع النفوذ الإيراني وصعود الدور الأميركي.
وأشار المراقبون إلى أن إيران كانت تستخدم ملف الكهرباء كورقة ضغط على الحكومات العراقية السابقة؛ إذ أدى قطعها إمدادات الكهرباء في صيف عام 2018 إلى إشعال موجة تظاهرات واسعة في البلاد، أسهمت في منع رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي من الفوز بولاية ثانية.
وكان العبادي قد صرّح في مقابلة تلفزيونية نهاية عام 2018 بأن طهران أسهمت في منعه من تولي الولاية الثانية بسبب "صراع الإرادات داخل إيران وخارجها". مؤكدا أن هذا الصراع تضمن أيضا قطع الغاز الإيراني عن محطات الكهرباء العراقية.

"دبلوماسية المياه"
وعلى الصعيد ذاته، قال موقع "المونيتور" الأميركي: إن أنقرة تستخدم ما يُطلق عليه "دبلوماسية المياه" كأداة للحفاظ على نفوذها لدى صناع القرار العراقيين، لا سيما قبيل الانتخابات التي جرت في 11 نوفمبر؛ حيث تبرز نفسها كجزء من الحل لمشكلة النقص المتزايد في المياه بالعراق.
وأضاف التقرير الذي نُشر في 3 نوفمبر، أن هذا الإعلان منح دفعة سياسية لرئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، الذي يواجه غضبا شعبيا متزايدا بسبب النقص الحاد في المياه، خاصة في محافظة البصرة؛ حيث تصاعدت الاحتجاجات نتيجة الجفاف.
ومن الجانب التركي، سيسمح هذا الترتيب لأنقرة بكبح التدفقات النقدية للخارج وضمان حصول شركاتها على عقود مربحة. بحسب تقرير الموقع الأميركي.
وعلى نفس المنوال، وصفت صحيفة "الأخبار" اللبنانية، التابعة لحزب الله، الاتفاقية بأنها "تتضمن منح تركيا صلاحيات فنية وإدارية في إدارة الإطلاقات المائية، مقابل إسقاط ديون مستحقة ورفع سقف التبادل التجاري إلى 30 مليار دولار سنويا". وأضافت أن "الإدارة التركية ستتولى مسؤولية السدود والخزانات والبنى التحتية المائية خلال فترة التنفيذ".
ورأت الصحيفة أن الاتفاق يمنح تركيا اليد العليا في إدارة شريان الحياة العراقي، وسط مخاوف من رهن القرار المائي بالملفين الاقتصادي والسياسي، لا سيما في وقت يتصاعد فيه الغضب الشعبي في المدن العراقية جراء الجفاف الذي طال نهري دجلة والفرات والأهوار الجنوبية.
ومع ذلك، أشارت الصحيفة إلى أن "الحكومة العراقية تركز أكثر على الجانب السياسي من الاتفاق مع أنقرة، بينما تبقى الملفات الفنية والبيئية في الخلفية".
في مشهد غير مسبوق يجسد أزمة المياه في العراق، بدا نهر دجلة وسط بغداد أشبه بساقية ضحلة تحاصرها جزر طينية، بينما يواصل نهر الفرات انحساره في المحافظات الغربية للبلاد.
وتعاني بلاد الرافدين لأول مرة من أزمة جفاف تُعد الأسوأ منذ نحو قرن؛ حيث أعلنت وزارة الموارد المائية العراقية في بيان رسمي أن "عام 2025 هو الأشد جفافا منذ عام 1933".
وأكد وزير الموارد المائية العراقي، عون ذياب، أن إيران قطعت أربعة روافد لنهر دجلة. مشيرا إلى أن طهران غيّرت أيضا مجرى بعض الأنهر المغذية لنهر ديالى شرق العراق.
وأضاف الوزير العراقي، في مقابلة تلفزيونية بتاريخ 11 أبريل/نيسان 2024، أن بلاده أبلغت إيران بضرورة التنسيق بشأن الأنهار التي تغذي نهر دجلة.
وبسبب الارتفاع المستمر في درجات الحرارة وتزايد نقص المياه عاماً بعد عام، أصبح العراق من بين أكثر خمس دول في العالم تعرضا لتأثيرات التغير المناخي، وفقا للأمم المتحدة، وهو ما أدى إلى نزوح آلاف العائلات من محافظات الجنوب، لا سيما محافظتي ميسان وذي قار.
المصادر
- "المياه مقابل النفط" عراقيون ينتقدون اتفاقية المياه بين العراق وتركيا .. فما التفاصيل؟
- أول اتفاقية مائية منذ عقود: العراق تحت رحمة تركيا
- اتفاق «استراتيجي» بين بغداد وأنقرة لتنظيم وإدارة ملف المياه
- العراق: إيران قطعت 4 روافد لنهر دجلة وغيرت مجرى أخرى
- أول اتفاقية مائية منذ عقود: العراق تحت رحمة تركيا
- تركيا والعراق يوقعان "وثيقة الآلية" لتمويل مشاريع التعاون بمجال المياه
















