اتصالات سرية.. هل تصمد إندونيسا أمام الضغوط للتطبيع مع إسرائيل؟
رغم غياب علاقات ديبلوماسية واقتصارها على تعاملات تجارية وسياحية وأمنية بين إسرائيل وإندونيسيا، إلا أن هذه الدولة المسلمة، تواجه محاذير داخلية صعبة تحول دون ركوب جاكرتا قطار التطبيع مع الكيان الإسرائيلي.
ففي وقت تصف فيه صحف إندونيسية ذهاب جاكرتا لتطبيع العلاقات مع تل أبيب في الوقت الراهن قبل نيل فلسطين استقلالها بأنه بمثابة "انتحار سياسي"، إلا أن إثارة الحديث عنه بين الفينة والأخرى يبدو أمرا معتادا.
إندونيسيا وإسرائيل
وأمام ذلك، أفاد تقرير لصحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، بأن تل أبيب تجري من وراء الكواليس اتصالات سرية مع مسؤولين مهمين في إندونيسيا بخصوص تطبيع العلاقات، وفق تقرير لها نشر بتاريخ 6 سبتمبر/أيلول 2023.
وذكر التقرير أن انتخابات هامة ستجرى في إندونيسيا خلال فبراير/شباط 2024، لاختيار رئيس وبرلمان جديدين، ونتائجها ستحسم إن كانت ستطبع علاقاتها مع إسرائيل.
ولا توجد حاليا علاقات دبلوماسية رسمية بين إسرائيل وإندونيسيا، بل توجد قنوات اتصال مباشرة مع عدة جهات إندونيسية معنية بتعزيز العلاقات، كما توجد بين الطرفين علاقات تجارية وسياحية وتعاون أمني.
وأضاف التقرير أن الأميركيين يعملون من وراء الكواليس لإقناع الإندونيسيين بتطبيع علاقاتهم مع إسرائيل، لافتا إلى أن هناك نقاشا في إسرائيل حول ما إذا كانت إندونيسيا ستطبع العلاقات قبل السعودية، أو ستفضل التوجه لهذا التطبيع في أعقاب السعودية.
في حين أن "هناك من يأمل بتحركات من جانب جاكرتا تؤدي إلى دفء العلاقات بين الطرفين، وأن هناك مسؤولين إسرائيليين يعبرون عن شكوكهم حيال هذه القضية ويعتقدون أن الإندونيسيين غير مستعدين لذلك"، وفق الصحيفة.
ونقلت الصحيفة العبرية عن مسؤول إسرائيلي (لم تسمه) أن إندونيسيا تخشى من مظاهرات واحتجاجات شعبية، ولذلك ستنتظر أن تفعل قبلها السعودية، موضحا أنه مع التركيبة الحكومية الحالية سيكون من الصعب للغاية دفع الإندونيسيين إلى اتخاذ مثل هذه الخطوة.
ويعود تاريخ مأزق السياسة الخارجية بين إندونيسيا وإسرائيل إلى أربعينيات القرن العشرين.
وفي الواقع فإن إندونيسيا تدعم حل الدولتين للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وكانت من أنصار القضية الفلسطينية، ولهذا لم تقم بعد علاقات دبلوماسية مع إسرائيل.
وفي أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان في العالم والبالغ عددهم 280 مليون نسمة، يكاد يكون دعم الدولة الفلسطينية عالميا.
رفض حكومي
ويسترشد الرافضون للتطبيع مع إسرائيل، من ديباجة الدستور الإندونيسي التي تمنع حاملي جوازات السفر الإسرائيلية - حتى لو كانوا فلسطينيين - من زيارة إندونيسيا منذ إعلان الدولة اليهودية استقلالها عام 1948.
أما رسميا، فكثيرا ما أعرب الرئيس الإندونيسي الحالي، جوكو ويدودو، مرارا وتكرارا عن دعمه لإقامة دولة فلسطينية حرة وفقا لما ينص عليه الدستور.
وناضلت إندونيسيا باستمرار من أجل استقلال فلسطين ونددت بوحشية إسرائيل.
وانضم العديد من الأفراد والجماعات إلى العمل الإنساني لمساعدة الفلسطينيين، بما في ذلك إنشاء المستشفيات في الأراضي المحتلة.
ومن الأمثلة الصارخة على التشدد حيال الموقف من فلسطين، رفض الرئيس ويدودو في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عرضا بشكل علني بتقديم واشنطن لإندونيسيا ما يصل إلى 2 مليار دولار كمساعدات تنموية إذا وافقت على الاعتراف رسميا بإسرائيل وفتح علاقات دبلوماسية معها.
لكن ردت جاكرتا بأنها لن تقبل عرض ترمب إلا إذا اعترف بفلسطين كدولة حرة.
ويكاد يكون الموقف من التطبيع بين إندونيسيا وإسرائيل محل نقاش عميق.
إلا أن الجميع متفق على أن الخطوات نحو هذا الأمر الحساس، يجب أن تكون مدروسة نظرا لصلابة الموقف الشعبي الرافض للفكرة قبل حصول الفلسطينيين على حقوقهم المشروعة واستعادة أرضهم المحتلة.
فلا يخفى في المشهد السياسي إندونيسيا من وجود آراء متباينة حول الموقف من التطبيع ومدى أهمية ذلك في حضور هذا البلد بالساحة العالمية.
مواقف حاسمة
لكن رغم ذلك، هناك من يرى أن الفكرة شبه "مستحيلة في الوقت الراهن" ومن أبرز علامات ذلك؛ هو رفض جاكرتا إبداء اللين بشأن حضور رياضيين إسرائيليين لبطولات مقامة على أراضيها.
فضلا عن رفض استضافة بطولات بسبب نزول منتخبات إسرائيل بقوائم الدول المشاركة فيها، رغم أن هذا يحرم إندونيسيا من فوائد اقتصادية وسياحية كبيرة من عوائد تلك البطولات.
لكن مرد ذلك، كما تقول صحف محلية إندونيسية، لوجود كتلة صلبة داخل أروقة الحكم تعارض التطبيع، علاوة على وجود قاعدة شعبية دينية عريضة ترفض التطبيع.
ولهذا فإن الحكومة كانت مضطرة لاتخاذ قرار حاسم بمنع الرياضيين الإسرائيليين من الدخول لإندونيسيا للمشاركة في بطولات عالمية.
إذ تدرك جاكرتا أن هناك قوة فعالة للرياضة في تعزيز الاندماج بين الشعوب، ومن هناك تحاول إسرائيل تحقيق خرق في المجتمع الإندونيسي الذي يعطي أهمية كبير لاستضافة دوريات وبطولات عالمية في أكثر من صعيد رياضي.
فبينما يشتهر شعب جزيرة بالي الإندونيسية بالتسامح وكرم الضيافة، فقد رفض حاكمها وايان كوستر في أبريل/نيسان 2023 مشاركة الفريق الإسرائيلي في دورة الألعاب العالمية الشاطئية (النسخة الثانية) لعام 2023، التي كان مقررا إقامتها من 5 إلى 12 أغسطس من العام المذكور.
وقال حينها كوستر لصحيفة "جاكرتا بوست" إن الرياضيين الإسرائيليين غير مرحب بهم، مستشهدا بديباجة دستور البلاد التي تدعو إلى الإلغاء العالمي للاستعمار ودعم قيام الدولة الفلسطينية.
إلا أن المدينة الإندونيسية أعلنت الانسحاب من تنظيم دورة الألعاب العالمية الشاطئية؛ وأرجعت ذلك لكون الحكومة الإندونيسية لم تفرج عن الميزانية المخصصة للألعاب، دون أن تشير صراحة إلى رفض مشاركة اللاعبين الإسرائيليين بالبطولة.
وحينها خرجت متظاهرون إندونيسيون وقاموا بإغلاق طريق مركزي في جاكرتا، ورفعوا الأعلام البيضاء وهتفوا: "الله أكبر" و"إسرائيل، أخرجي من بطولة العالم".
وكانت الجماعات الإسلامية التي نظمت احتجاجات بجاكرتا في مارس/آذار 2023، أحرقت خلالها الأعلام الإسرائيلية ورفعت لافتات كتب عليها "إسرائيل عدوة الإسلام".
ورفضت إسرائيل آنذاك إخضاع رياضييها لشروط خاصة طرحها وزير الشباب والرياضة الإندونيسي، ديتو أريوتيجو، في محاولة اللحظة الأخيرة لإنقاذ الألعاب العالمية، مثل اللعب في ملاعب فارغة، أو عدم رفع العلم الإسرائيلي وعدم أداء النشيد الوطني الإسرائيلي المحظور في إندونيسيا.
لكن انسحاب إندونيسيا من هذه البطولة حرمها من استضافة بالي وجزيرتين أخريين لكأس العالم تحت 20 عاما 2023 كانت مقررة في مايو/أيار من العام المذكور.
وعقب ذلك ذكرت مواقع محلية، أن هذا سيؤثر مستقبلا على استضافة البلاد لأحداث رياضية دولية أخرى، بما في ذلك كأس العالم 2034 أو الألعاب الأولمبية 2036.
وغالبا ما يلقى الموقف المتشدد تجاه إسرائيل استحسان الناخبين المسلمين المحافظين هناك، وهم الكتلة الأكثر أهمية في أي انتخابات وطنية.
وذكرت مجلة الأخبار الإندونيسية "تيمبو" في وقت لاحق أن الرئيسة الإندونيسية السابقة، ميجاواتي سوكارنوبوتري، التي ترأس حاليا حزب النضال الديمقراطي الإندونيسي الحاكم - والذي يمثله كوستر - أمرته بحظر الرياضيين الإسرائيليين حتى يتمكن الحزب من تسجيل نقاط في الفترة التي تسبق الانتخابات المقبلة.
إذ يحظى التحرك لمنع الرياضيين الإسرائيليين من المشاركة في الأحداث الرياضية في إندونيسيا بدعم من مجلس العلماء، وهو أعلى هيئة لعلماء المسلمين في البلاد، بالإضافة إلى جبهة المدافعين عن الإسلام القوية، وهي منظمة إسلامية تمثل مجموعة ضغط وتتمتع بحضور بارز على وسائل التواصل الاجتماعي، وغيرها من المنظمات.
انتحار سياسي
وتقول صحيفة "جاكرتا بوست" في تقرير لها نشر في أبريل 2023، إن إسرائيل كثفت جهودها لإقناع إندونيسيا بالتوقيع على اتفاقيات "أبراهام" للتطبيع والتي بدأت تل أبيب توقيعها عام 2020 مع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان.
وتضيف أن مثل هذه الاتفاقيات من شأنها أن تعرض جاكرتا لخطر الفوضى السياسية الكبيرة، كون سياستها الخارجية طويلة الأمد متمثلة في دعم استقلال فلسطين.
وصرح وزير تنسيق الشؤون السياسية والقانونية والأمنية، محفوظ إم دي، أخيرا بالقول: "ليس لدى إندونيسيا علاقات دبلوماسية مع إسرائيل وسيظل الأمر كذلك حتى تتحرر فلسطين".
وضمن هذه الجزئية تصف الصحيفة هذه السياسة بـ"الكسولة كونها تهدر فرصة إندونيسيا للعب دور في التفاوض على حل الدولتين، الذي تؤيده".
وهناك في إندونيسيا من يدفع لتفتح الحكومة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، ويبرر هؤلاء مثل نائب الرئيس السابق يوسف كالا بقوله "إن ذلك يمكن جاكرتا من العمل كوسيط بين إسرائيل وفلسطين".
لكن هناك من يرد على هذه الدعوة بالقول، بالنسبة للمسلمين الإندونيسيين، المعتدلين والمحافظين على حد سواء، طالما أن الشعب الفلسطيني مضطهد من قبل الإسرائيليين، فإنهم لن يؤيدوا فتح علاقات مع إسرائيل، وفق ما ذكر تقرير لصحيفة "جاكرتا بوست" في 24 أغسطس/آب 2022.
وتضيف الصحيفة، أنه ليس من الواضح لماذا أثار كالا، رجل الأعمال والسياسي ورئيس مجلس المساجد الإندونيسي (DMI) والصليب الأحمر الإندونيسي (PMI)، هذه القضية الحساسة سياسيا في هذه اللحظة.
وراحت تقول: "ربما يحظى كالا بدعم حكومي، رغم أن الرئيس ويدودو لن يقبل الفكرة أبدا، لأن قول أي شيء جيد عن إسرائيل سيكون انتحارا سياسيا".
كما أنه "من غير المتصور تقريبا أن تفكر الحكومة الحالية في فتح علاقة رسمية مع إسرائيل، إذ أنه حتى الآن تمر العلاقات التجارية والدفاعية بين البلدين عبر طرف ثالث".
وزادت بالقول إن "فكرة كالا عن إسرائيل تستحق الدعم، لكن إندونيسيا لا يمكنها فتح علاقات دبلوماسية مع إسرائيل إلا بعد إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وهو أمر شبه مستحيل حتى الآن".
وزار كالا الأراضي الفلسطينية المحتلة وإسرائيل وأكد أنه التقى بمسؤولين إسرائيليين وفلسطينيين بصفته الشخصية.
وسبق أن التقى بصفته نائبا للرئيس، برئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك بنيامين نتنياهو، على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول 2018.
إندونيسيا عنيدة
وكان الرئيس الرابع لإندونيسيا، عبد الرحمن جوس دور وحيد، من أشد المؤيدين لإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل ولم يتردد أبدا في إظهار موقفه.
وتواصل وحيد مع القادة الإسرائيليين، ومن بينهم شمعون بيريز، وبصفته رئيسا سابقا لأكبر منظمة إسلامية في البلاد "نهضة العلماء"، كان بإمكان وحيد تجنب أي رد فعل عنيف من الجماعات المناهضة لإسرائيل، لكنه ما زال غير قادر على تحقيق فكرته.
وضمن هذا الإطار، يقول الخبير في الشؤون الإندونيسية، جيورا اليراز، خلال مقابلة مع قناة "كان" العبرية في 21 مارس/آذار 2023 إن "إندونيسيا مقارنة مع دول عربية أكثر عنادا بكل العوامل المرتبطة بالاتصال السياسي".
ومضى يقول: "الشارع هناك يشتعل حول كل ما يجري في إسرائيل والضفة وغزة. يوجد هناك جهات إسلامية ناشطة جدا، كما أن طبيعة النظام الذي يتمتع بخط ديموقراطي، يتيح للمجال العام أن يكون مشتعلا".
وتوجد علاقات تجارية غير رسمية بين إسرائيل وإندونيسيا، ويشير موقع مكتب التجارة إسرائيل-إندونيسيا إلى أن "المواطنين الإسرائيليين لن يكونوا قادرين على الحصول على تأشيرات سياحة للأفراد، إنما تأشيرات تجارية لإندونيسيا فقط. يوجد عدد من وكالات السفر القادرة على توفير تأشيرة سياحية جماعية للإسرائيليين".
ومن صور الممانعة الداخلية للتطبيع مع إسرائيل، دعت جمعيات إسلامية في إندونيسيا في 10 فبراير/شباط 2022 إلى إغلاق المعرض الأول للهولوكوست في البلاد، متهمة إياه بأنه "جزء من محاولة لتطبيع علاقات البلاد مع إسرائيل".
وجرى إطلاق المعرض في اليوم الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست، في 27 يناير/ كانون الثاني 2022، داخل الكنيس اليهودي الوحيد في إندونيسيا والواقع في مقاطعة شمال سولاويزي.
وسبق أن زارت بعثة إسرائيلية تضم مستثمرين، وخبراء تكنولوجيين ومسؤولين تجاريين في يوليو/تموز 2022 إندونيسيا.
وذكرت وقتها صحيفة "إسرائيل هيوم" أن هدف الزيارة كان التعرف على إمكانات هذه الدولة للعلاقات مع إسرائيل، عن طريق الاستثمارات، والمشاريع والشركات الناشئة ومبادرات التأثير الاجتماعي.