هزت الرأي العام الموريتاني.. كيف أصبح انتقاد الرئيس جريمة تفوق الإساءة للنبي؟
غضب الحكومة الموريتانية وأغلبيتها البرلمانية ودفاعها عن رئيس الجمهورية محمد ولد الغزواني، سابق وأولى من دفاعها عن رسول الله وتجريم الإساءة إليه.
هذا ما أكده واقع الحال في موريتانيا بعد ضجة كبيرة وتفاعلات متلاحقة للحكومة ونوابها بالبرلمان، إثر مداخلة للنائب محمد بوي ولد الشيخ محمد فاضل، استبدل فيها الأسماء في إساءة طالبة بالبكالوريا للرسول الكريم بما يفيد كما لو أنها موجهة للنظام ولرئيسه.
وقال النائب محمد بوي إن مداخلته خلال جلسة 22 يوليو/ تموز 2023 في البرلمان، هي إسقاط تخيلي افتراضي، هدفه لفت الانتباه إلى فداحة الإساءة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأوضح النائب في تصريحات صحفية، أن الهدف أيضا هو "انتقاد موقف الحكومة على عدم حسمها في اعتقال المسيئة، والتردد الطويل في تحويلها للقضاء، واعتراضا على إتاحة الفرصة لها للهرب".
وفي 26 يوليو، أعلنت النيابة العامة بنواكشوط الغربية، عن إحالة مارية الشيخ عبد الله أوبد للسجن الاحتياطي، وتوجيه تهم إليها بينها “الاستهزاء والسَّب بحق رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي للمساس بثوابت ومقدسات الدين الإسلامي”.
وأكدت النيابة “أنها توصلت يوم الثلاثاء 18 يوليو من وزارة التهذيب الوطني وإصلاح النظام التعليمي برسالة إبلاغ وإحالة وقائع تتعلق بمحتوى ورقة إجابة في امتحان شهادة البكالوريا 2023، لتلميذة مشاركة من مركز ثانوية مقاطعة أطار، تضمن إساءة للجناب النبوي الشريف صلى الله عليه وسلم، وللمقدسات الإسلامية”.
وتابعت: “على الفور، وطبقا للقوانين الإجرائية والموضوعية النافذة في المجال الجنائي، تم البدء في إجراءات بحث ابتدائي في القضية، قاد إلى التعرف بدقة على المشتبه بها وتحديد مكانها وتوقيفها”.
وهزت هذه القضية الرأي العام الموريتاني منذ أسابيع بشكل جعل الكثيرين يتهمون السلطات بالتباطؤ في شأنها، وجرى التحرك بعد إثارة الأمر بشدة في البرلمان من خلال قضية النائب محمد بوي.
تفاعل السلطة العليا للصحافة والسمعيات البصرية بموريتانيا "الهابا" مع الموضوع كان سريعا، إذ ألزمت النائب البرلماني محمد بوي بحذف مداخلته الأخيرة في البرلمان. كما جرى اتخاذ إجراءات لاحقا تمنعه من حضور بعض الجلسات مع دعوات لعزله.
في السياق ذاته، حذفت قناة البرلمانية، الجهة المحتكرة لحقوق بث جلسات البرلمان، بثها المباشر المتعلق بجلسة نقاش برنامج الحكومة، والتي تحدث خلالها النائب محمد بوي.
وحذفت القناة بثها المباشر قبل صدور قرار السلطة، المؤرخ بـ 23 يوليو 2023، والذي ألزمها بحذف "المقطع المسيء".
رد الحزب الحاكم
تفاعلا مع الواقعة، أهاب حزب الإنصاف الحاكم، "بكل القوى الحية في الوطن وفي مقدمتهم نواب الشعب للتصدي بكل الوسائل لكل ما من شأنه النيل من رموز هذا الوطن"، في إشارة منه إلى رئيس الجمهورية.
وأضاف الحزب في بيان، وفق موقع "مركز الصحراء" المحلي، 23 يوليو 2023، أن "الخوض في أعراض الناس ينافي إلى أقصى الحدود فلسفة المحجة البيضاء وسبيل سنة خير البرية الغراء، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم".
وأكد البيان أن "الخوض في عرض أي مواطن يظل مستنكرا شرعا ومستهجنا في أعراف مكارم الأخلاق".
وذكر المصدر ذاته، أن الحزب تفاجأ "من مداخلة أحد النواب أثناء هذه الجلسة، متخذا من الدفاع عن الجناب النبوي الشريف مطية للتهجم على شخص فخامة رئيس الجمهورية والتعرض لأقدس الرموز الوطنية للجمهورية الإسلامية الموريتانية".
و"في هذا استهتار كبير بقوانين الجمهورية ونيل من هيبة الغرفة الموقرة واستفزاز لمشاعر المواطنين ودوس على أقدس مبادئ الديمقراطية"، كما قال.
وأوضح الحزب أن "مثل هذا التصرف، أيا كانت نوايا وأغراض مرتكبه، سيصطدم بحصن الدين القويم والخلق السوي الذي سيظل أبناء هذا الشعب يتوارثونه جيلا بعد جيل"، على حد تعبير البيان.
بدوره، دعا القيادي في حزب "الإنصاف" الخليل ولد الطيب، الكتل البرلمانية إلى الدعوة لعقد جلسة مخصصة لرفع الحصانة عن النائب محمد بوي ولد الشيخ محمد فاضل.
ووفق موقع "شوف ريم" المحلي، 23 يوليو 2023، اتهم ولد الطيب البرلماني محمد بوي بالإساءة للشعب الموريتاني ولمحيطه الأسري.
ودعا القيادي الحزبي "إلى تطبيق المادة الثانية من قانون حماية الرموز التي تنص على أن من أساء لرئيس الجمهورية يسجن من سنتين إلى أربع مع غرامة مالية".
كما دعت "وكالة الوئام الوطني للأنباء" المحلية في افتتاحية موقعها ليوم 23 يوليو 2023، إلى محاسبة النائب محمد بوي، وأن لا يمر ما قاله كسحابة صيف.
وقالت الوكالة إن "مداخلة البرلماني تضمنت كلاما خطيرا على قيم المجتمع ومقام الغرفة التشريعية ورموز البلد ما كان لقائله أن يقوله بالمرة"، وفق تعبيرها.
ووصف المصدر ذاته دفاع البرلماني عن الحضرة النبوية الشريفة بـ "المزايدات"، وأن ما قاله "انحراف خطابي"، داعيا إلى "تفعيل قوانين رادعة حماية لرموز البلد والشخصيات العامة وحتى العادية من الخطابات المزايدة وغير المهذبة".
غضب واسع
عدد من الفاعلين الإعلاميين والسياسيين والحقوقيين المتفاعلين مع الحدث، قالوا إن غضب الأغلبية البرلمانية يدل أن دفاعها عن الرئيس سابق عن دفاعها عن الجناب الشريف.
وفي هذا الصدد، كتب الناشط السياسي محمد الأمين يسلم أحبيب، في تدوينة على فيسبوك، 23 يوليو 2023، "في الجمهورية الإسلامية الموريتانية أسيء للجناب النبوي ولم يتحرك أحد من حاشية السيد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني حتى الساعة".
وأضاف: "وفي مداخلة النائب محمد بوي الشيخ محمد فاضل قامت الدنيا ولم تقعد داخل قبة البرلمان بأن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني خط أحمر".
بدوره، قال الناشط المدني أحمد محمود حبدان، في تدوينة على فيسبوك، 23 يوليو 2023، "الحقيقة المرة هي أن استفزاز النائب محمد بوي للنواب الأغلبية المحترمين أظهر أن بعضهم ولا أقول كلهم، أكثر غضبا ونصرة وذودا عن الجناب الغزواني".
وأضاف حبدان: "وربما ذلك لا يرجع إلى عدم محبتهم لنصرتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو وحل الموالاة ومسايرة ولي الأمر في تبعية عمياء وجد فيها الأستاذ محمد بوي ضالته من حيث لا يدرون".
بدوره، انتقد المحامي محمد المامي مولاي أعلي، قرار "الهابا" الموجه للنائب البرلماني رغم أنها هيئة معنية بقطاع الصحافة والنشر.
وقال المامي في تدوينة على فيسبوك: "من المنظور العلمي البحت، لم أستطع فهم إصدار الهابا لقرار تأديبي ضد شخص ليس صحفيا ولا مؤسسة إعلامية، وبالتالي لا يدخل في مجال اختصاصها المحدد في المادة 3 من قانونها المعدل".
وفي تفاعله مع الحدث، قال رئيس حركة "كفانا" الحقوقية، يعقوب أحمد المرابط، إن نظام الغزواني أشعل فتيل باروده، ووجه إلى النائب محمد بوي، "فوهات مدفعيته نحو آخر معاقل الديمقراطية والشرعية الدستورية في البلاد".
وذكر المرابط في بيان صدر باسم الحركة، 25 يوليو، أن النظام وجه "سيوف الهابا وقانون الرموز ليستهدف من خلالها حرية النائب البرلماني في ممارسة مهامه"، معتبرا أن "هذا تركيع وضرب لسلطته المستمدة من قوة الدستور".
وشدد البيان أن المماطلة في إنزال العقوبة بحق المسيء (ة) للجناب الشريف، والتسريع في العقوبة بغير ذنب لنائب برلماني محصن بقوة المادة 50 من الدستور الموريتاني، على ممارسته لحقّه في حرية التعبير هي إبراز الوجه الدكتاتوري العسكري البغيض لهذا النظام، وسعيه الحثيث لقتل كل مظاهر الحياة الديموقراطية في البلد.
ونبهت الحركة إلى أن ترهيب النائب البرلماني محمد بوي من لدن السلطة التنفيذية، سيجعل البرلمانيين في حالة خوف من انتقاد الحكومة، لتلافي العقوبة.
وبعد أن حذرت "كفانا" من اتخاذ أي إجراءات أو قرارات تصب الزيت على النار، دعت كل الأحرار في البلاد إلى إعلان النفير العام والاستعداد لحماية مستقبل الحريات.
سلسلة عقوبات
وبدأت الحكومة الموريتانية وأغلبيتها البرلمانية سلسلة عقوبات في حق النائب محمد بوي، كان أولها في 24 يوليو 2023، بمنعه من حضور أربع جلسات في الدورة البرلمانية الحالية.
وأعلن رئيس المجلس، محمد ولد مكت، أن المجلس التنفيذي للجمعية الوطنية، اتخذ القرار بناء على المادتين 80 و84 من النظام الداخلي للجمعية، فيما انسحب نواب من الجلسة رفضا للقرار المعلن.
في الأثناء، جرى الإعلان عن تشكيل لجنة برلمانية لرفع الحصانة عن النائب محمد بوي، وهي الخطوة التي لقيت استهجان ورفض فعاليات قانونية وحزبية وبرلمانية.
وفي هذا الصدد، قال النائب المعارض محمد الأمين ولد سيدي مولود، إن تشكيل لجنة برلمانية للبت في رفع الحصانة عن النائب محمد بوي "جريمة قانونية ودستورية"، مطالبا النواب برفض "المهزلة".
وأضاف ولد سيدي مولود في تصريح لـ "صحراء ميديا"، 25 يوليو 2023، أن نواب تحالف "جود" و"الصواب" يرفضون الإجراءات التي سيتم اتخاذها لتشكيل لجنة برلمانية للبت في رفع الحصانة عن محمد بوي.
ولد مولود عاد ليؤكد أنهم لا "يشاطرون محمد بوي الرأي"، لكن حرية التعبير يكفلها الدستور للنائب في البرلمان.
وأشار ولد سيدي مولود إلى أن نواب تحالف "جود" وحزب "الصواب" أعلنوا 25 يوليو، مقاطعة الجلسات الأربع من الدورة الحالية التي طرد منها النائب محمد بوي، تعبيرا عن "تضامنهم معه".
ودعا نواب الجمعية الوطنية إلى "رفض هذا الاحتقار المؤسسي وطغيان المؤسسة التنفيذية لرفض هذه المهزلة".
وخلص ولد مولود إلى القول "التاريخ كفيل بمحاسبة كل من يؤيد رفع الحصانة عن النائب".
وكان نواب كتلتي جود والصواب قد أعلنوا رفض عضوية اللجنة المشكلة لدراسة طلب رفع الحصانة عن النائب البرلماني محمد بوي ولد الشيخ محمد فاضل.
وأصدرت فرق أحزاب "الصواب" و"جود" و"تواصل" بيانا أكدت فيه إدانة هذه الإساءة بأقصى درجات الإدانة، مطالبة "السلطات بمعاقبة مرتكبها، وبحماية المقدسات بصرامة وحزم".
كما أدانت الكتل البرلمانية ما "بدأ من إجراءات وخاصة رفع الحصانة ضد النائب محمد بوي إثر مداخلته التي تمثله هو فقط".
وعدّت "ما يسعى إليه الجهاز التنفيذي مخالفا للدستور والقانون، ومسارا خطيرا بدأت الجمعية تسلكه وسيقضي على بقايا التنوع السياسي والمؤسسية في البلد".
وطالب البيان "جميع النواب بالوقوف ضد تغوّل السلطة التنفيذية على الجهاز التشريعي، وعدم قبول تدمير النصوص الدستورية الصريحة التي توفر الحصانة للنواب في آرائهم أثناء تأدية مهامهم مهما كان الموقف من هذه الآراء التي تمثل من تصدر عنهم".
وأهابت الأحزاب الموقعة على البيان، "بجميع النواب العمل على عودة المكتسبات التي سلبها النظام الداخلي الحالي، بما في ذلك تشكل الفرق البرلمانية، ومسارات التحقيق والاستجواب، وغيرها مما عرقل أداء النواب وفرغ العمل البرلماني من محتواه".
تزلف للنظام
يرى المحامي محمد كوف الشيخ المصف العربي، أن مداخلة النائب محمد بوي قد أخرجها عمدا من أسماهم بالمتملقين عن هدفها ومضمونها.
وقال محمد كوف، وفق "شبكة المراقب" المحلية، 25 يوليو 2023، إن القصد من ذلك هو التزلف لرئيس الجمهورية تزلفا في غير محله، لأنه ليس مستهدفا بما قاله هذا النائب أصلا.
وذكر المتحدث ذاته، أن النائب محمد بوي أكد في بداية كلامه أن ما سيقوله هو كلام افتراضي وليس على حقيقته، بمعنى أنه لا يقصد به في الحقيقة رئيس الجمهورية.
وعدّ أن الحماس الذي اشتعل في نفوس المدافعين عن الرئيس دليل نفاق وتزلف ليس إلا، على حد تعبيره.
من جانبه، أكد المحامي محمد ولد اشدو، أن النائب محمد بوي محمي بموجب المادة 50 من الدستور.
وأضاف ولد اشدو في تصريح لوكالة الأخبار، 26 يوليو 2023، أن النائب لم يتهم الرئيس في مداخلته المتداولة، إنما قدم طرحا افتراضيا، معتبرا أن "من حازوا له التهم، هم من تلزم محاكمتهم وفق قانون الرموز".
وقال إن الدولة وقعت في فخ "الإساءة المختلقة"، حيث أدخلت نفسها في مشكلة لمّا تعرف بعد كيف تواجهها.
وشدد المتحدث ذاته على أن "من تجاوز أسس العدالة والدستور لصالحه، عليه أن يفهم أنه سيواجه بذات السلوك".
وعبر عن أمله في طي هذا الموضوع بالتفاهم، قائلا: إنه "يسعنا الحفاظ على كياننا كشعب ودولة فقط في ظل القانون"، مؤكدا أن "انعدام احترام القوانين يعني انعدام كل ذلك".
أما القيادي الإسلامي ورئيس حزب تواصل الأسبق، محمد جميل منصور، فأكد في تدوينة نشرها بحسابه على فيسبوك، 23 يوليو 2023، أن إدانة الإساءة والبراءة من المسيئين للجناب النبوي الشريف لا خلاف عليه، وأن للجميع المطالبة بتسريعها وإنزال أشد العقوبة بمن تجرأ على النبي.
لكن، يستدرك محمد منصور، "ليس من الوارد ولا المطلوب إشاعة فقرة الإساءة ونشرها بين الناس، فيمكن لذلك أن يشيع نوعا من التطبيع معها".
واسترسل، "من المستهجن، ولو كان ذلك بأسلوب التخيل والافتراض، وصف رئيس الجمهورية بأوصاف سوقية وهابطة"، داعيا إياه إلى الاعتذار عما بدر منه.
كما دعا المتحدث ذاته "الحكومة والقضاء للإسراع في إجراءات معاقبة المسيئين، على نحو يعبر عن حب هذه البلاد للنبي صلى الله عليه وسلم، ويزجر من تسول له نفسه النيل من الرحمة المهداة".
المصادر
- افتتاحية/ آن للمزايدات أن تتوقف.. فقبة البرلمان أولى باحترام القانون وحفظ الأعراض
- الخليل ولد الطيب يطالب برفع الحصانة عن النائب محمد بويا
- نائب برلماني: رفع الحصانة عن ولد الشيخ محمد فاضل جريمة قانونية
- محامي:المتملقون اخرجوا مداخلة النائب محمد بوي من سياقها الصحيح
- ولد اشدو: الإساءة اختلاق مخابراتي والدستور يحمي النائب محمد بوي