رغم توحشها ضد الفلسطينيين.. لماذا تسعى بريطانيا إلى "حظر مقاطعة إسرائيل"؟
في غمرة سياسات التوحش الإسرائيلية والعدوان المتكرر على الأراضي الفلسطينية، قدمت الحكومة البريطانية إلى البرلمان مقترحا يمنع "مقاطعة إسرائيل"، ويضع قيودا على حرية التعبير في هذا الشأن.
وأيد مجلس العموم في 26 يونيو/ حزيران 2023، مشروع قانون "النشاط الاقتصادي للهيئات العامة للشؤون الخارجية" بأغلبية 268 إلى 70 صوتا بعد ساعات من المناقشة.
وبموجب القانون الجديد، سيجرى حظر مقاطعة البضائع الإسرائيلية، من خلال فرض أحكام جديدة تمنع الهيئات العامة، بما فيها المجالس المحلية، من التأثير أو الخضوع للرفض السياسي أو الأخلاقي المرتبط ببعض الدول الأجنبية، خاصة عند اتخاذ قرارات اقتصادية معينة.
فلماذا قدمت الحكومة ذلك المشروع؟ ومن تستهدف تحديدا من ورائه؟ وما إمكانية تطبيقه وتمريره ليصبح نافذا؟
مشروع جدلي
رغم الاعتراضات والتحذيرات من أنه يقيد حرية التعبير والدفاع عن حقوق الإنسان، مضت الحكومة البريطانية قُدما في مشروع القانون، وجرى التصويت عليه بالقراءة الثانية في البرلمان.
وبعد التصويت بالقراءة الثانية فإن المشروع ينتقل إلى مرحلة المناقشة في اللجنة المختصة في مجلس العموم.
ويمكن للنواب في هذه المرحلة مناقشة المشروع من جميع جوانبه واقتراح إضافة أو حذف أو تعديل على بنود القانون، قبل وصول المشروع إلى التصويت بالقراءة الثالثة.
لينتقل المشروع بعدها إلى مجلس اللوردات الذي قد يصوت لصالح المشروع ليصبح قانونا نافذا، أو يطرح تعديلات عليه، وفي هذه الحالة يعود المشروع إلى مجلس العموم للتصويت عليه مجددا.
وبحسب القانون، ستخضع جميع مؤسسات المملكة البريطانية الممولة من القطاع العام للمساءلة القانونية، وستواجه غرامات كبيرة حال استجابتها لحملات المقاطعة وسحب الاستثمارات ضد دول وأقاليم أجنبية، على رأسها الاحتلال الإسرائيلي.
لذلك ستكون المجالس المحلية وصناديق التقاعد البريطانية التي تعد من أكبر الصناديق الاستثمارية في البلاد، وتضع معايير أخلاقية على أساسها تقرر الاستثمار في شركة ما أو دولة ما، على رأس المستهدفين من القانون الجديد.
خاصة أن معايير الكثير من المجالس المحلية وصناديق التقاعد، قامت على سحب استثماراتها من الشركات التي تتعامل مع المستوطنات الإسرائيلية، أو حتى شركات أخرى تتعاون مع دول تنتهك حقوق الإنسان.
لكن هناك جهة أخرى مهمة يستهدفها القانون، بحسب تقرير نشره موقع "ميدل إيست آي" البريطاني في 16 يونيو.
حركة BDS
وبين أن هذه الخطوات تستهدف حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، التي تسعى للضغط على إسرائيل لإنهاء احتلالها غير الشرعي للأراضي الفلسطينية.
واقتبست هذه الحركة نموذج المقاطعة الناجح لجنوب إفريقيا في زمن الفصل العنصري.
وقد جرى تدشينها في 9 يوليو 2005، بنداء من 171 منظمة فلسطينية غير حكومية، وسرعان ما انتشرت في 55 دولة حول العالم على رأسها الدول الكبرى مثل: "بريطانيا والولايات المتحدة وكندا وفرنسا وألمانيا واليابان والبرازيل وغيرها".
ووضعت الحركة هدفها الأساسي، متمثلا في مقاطعة وسحب الاستثمارات وتطبيق العقوبات ضد إسرائيل حتى تنصاع للقانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان.
أما الأهداف الثلاثة المعلنة للحملة هي "إنهاء الاحتلال الإسرائيلي واستعماره لكل الأراضي العربية، وتفكيك جدار الفصل العنصري حول القدس المحتلة، والاعتراف الإسرائيلي بالحقوق الأساسية للفلسطينيين والمواطنين العرب (في الأراضي المحتلة عام 1948).
إضافة إلى مطالباتها باحترام إسرائيل وحماية وتعزيز حقوق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم كما هو منصوص عليه في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194.
ولطالما سببت تلك الحركة قلقا وإزعاجا لإسرائيل، فخلال المؤتمر السنوي الأول عام 2007، صوت الاتحاد الأكاديمي البريطاني (اتحاد الجامعات والكليات) لصالح طلب الحركة بمقاطعة المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية، ولكن ليس الأفراد.
وفي يونيو/حزيران 2015، أجرت مؤسسة "راند" الأميركية لتحليل الأبحاث والتقارير لصالح الجيش الأميركي، تحليلا استنجدت من خلاله أن حركة المقاطعة إذا استمرت على وتيرة نجاحها لمدة عشر سنوات أخرى، من الممكن أن تكلف الاقتصاد الإسرائيلي 47 مليار دولار.
وفي عام 2016, دعا وزير الاستخبارات الإسرائيلية آنذاك يسرائيل كاتس، إلى ضرورة ملاحقة واستهداف قادة وناشطي حركة المقاطعة في مختلف أنحاء العالم.
الأمر الذي عده المرصد "الأورومتوسطي لحقوق الإنسان"، تعديا على حق الناشطين في الأمن الشخصي، وحق الحياة، والحق في التعبير والاحتجاج السلمي.
لكنه دلل أن الحركة مثيرة لقلق وانزعاج الحكومات العبرية، وبالتالي كانت على رأس المستهدفين من القانون البريطاني بتقييد دور حركات المقاطعة، وسحب الاستثمارات منها، وفرض العقوبات عليها.
الجانب الخطأ
في 4 يوليو/تموز 2023, أعلنت النائبة البريطانية السابقة "مارغريت هودج"، والتي عملت في حكومتي حزب العمال في عهد توني بلير وغوردون براون، أن التشريع المقترح "معيب وسيئ الصياغة وسيكون له عواقب وخيمة هنا وفي الخارج"
وذكرت أن "مشروع القانون ليس محاولة مدروسة لتحقيق السلام أو توفير أمن أفضل لإسرائيل أو الرد على التهديدات التي تشكلها حركة المقاطعة".
وفي 8 يوليو 2023, أدلت "أليسيا كيرنز"، وهي نائبة محافظة تشغل رئيسة لجنة العلاقات الدولية في البرلمان البريطاني، تصريحات لصحيفة "الغارديان"، حذرت فيها من الخلط الموجود في القانون بين إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة.
وأضافت أن هذا القانون يخالف "السياسة الخارجية البريطانية التي تعد الضفة الغربية والقدس الشرقية مناطق محتلة".
وذكرت أن مشروع القانون الجديد يحتوي على فصول ستكون سببا في إسقاطه لو جرت معارضته وعرضه على المحاكم البريطانية.
واختصت بذلك البند الذي يوسع من نطاق منع مقاطعة أي شركة أو مؤسسة حتى تلك التي تشتغل في الأراضي الفلسطينية المحتلة كما هو متعارف عليه في القانون الدولي وكذلك الأمر بالنسبة للجولان المحتل.
وكان "حزب العمال" البريطاني المعارض في طليعة الرافضين، وأدلى ببيان شدد فيه أن "مشروع القانون بصياغته السيئة قد يثير معاداة السامية ويقيد حرية التعبير".
كما رأت وزيرة المجتمعات في حكومة الظل ليزا ناندي، أن القانون "فضفاض، ويمنح وزير الإسكان والمجتمعات مايكل جوف صلاحيات بعيدة المدى، ما سيؤدي إلى تداعيات سلبية".
وأشارت إلى أن "بنود القانون لا علاقة لها بقضية المقاطعة التي تدّعي الحكومة أنها تريد حلها".
فيما أعربت البعثة الفلسطينية في المملكة المتحدة عن قلقها من المشروع، وقالت إنه "يمنع الهيئات العامة من اتخاذ قرارات أخلاقية بشأن استثماراتها، ويمكن أن يقوض قدرة ناشطي حقوق الإنسان والبيئة وغيرهم من محاسبة منتهكي القانون الدولي".
وطالب زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي"كولوم ايستوود"، بضرورة إلغاء مشروع القانون، لأنه يساند الحكومات والمجتمعات التي تضطهد الأقليات.
وأعلن صراحة أنه يجب مساندة الشعب الفلسطيني في وجه الاحتلال الإسرائيلي من أجل عالم أكثر عدالة.
وعلى مستوى المنظمات الحقوقية الدولية، أصدرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" بيانا غاضبا ذكرت فيه بريطانيا بتاريخ عام 1980، حينما حاولت الحكومة البريطانية إصدار قانون يمنع مقاطعة نظام الفصل العنصري "الأبارتايد" في جنوب إفريقيا.
وقالت المنظمة الحقوقية في بيانها "إن لندن يجب ألا تقف مرة أخرى في الجانب الخطأ من التاريخ من خلال معاقبة المؤسسات العمومية التي تحاول أن تقوم بالقرارات الصحيحة".
قانون عنصري
وعلق الأكاديمي الفلسطيني المقيم ببريطانيا محمود الغساني، على مشروع قانون "النشاط الاقتصادي للهيئات العامة للشؤون الخارجية"، وتأثيره على المؤسسات والحركات الناشطة في مقاطعة إسرائيل، قائلا: "محاولة عرقلة حركات ودعوات المقاطعة السلمية المناهضة لإسرائيل وأساليبها القمعية ضد الشعب الفلسطيني ليست جديدة".
فهي قائمة ومستمرة، وليست في بريطانيا وحدها، بل في كثير من الدول الغربية، وفق ما قال الغساني في حديث لـ"الاستقلال".
وأضاف: "في عام 2015, عملت فرنسا على حظر حركة مقاطعة إسرائيل، وفي الولايات المتحدة، جرى تمرير قوانين في 25 ولاية، تمنع الشركات وحتى الأفراد من مقاطعة دولة الاحتلال تحديدا واستثنائيا من بين كل دول العالم الأخرى".
بمعنى أنه يمكن أن تقاطع الصين أو الهند أو الدول العربية، لكن لا تفكر في مقاطعة إسرائيل، وفق رأيه.
وأتبع أن: "واشنطن فرضت عقوبات على دعاة المقاطعة عبر حرمانهم من إبرام عقود عمل مع الحكومة".
واستطرد: "لكن تلك العقبات لم تقف أمام طريق دعاة المقاطعة، ففرنسا التي أدانت حركة بي دي إس عام 2015، وجرمت 11 شخصا من مساندي فلسطين، ذهبت قوانينها أدراج الرياح عندما ألغت محكمة حقوق الإنسان الأوروبية هذه القوانين عام 2020".
وعقب: "لذلك سيكون مصير القانون البريطاني العنصري على نفس الشاكلة، خاصة أنه يكيل بمكيالين، فضلا أنه قد يحرم فئات أخرى عن أخذ حقوقهم ومقاومة مضطهديهم، مثل الإيغور في الصين أو مسلمي الهند وغيرهم".
وختم: "لذلك ستواصل حركات المقاطعة عملها متبوعة بعشرات الآلاف من الأنصار حول العالم، ولولا ذلك التأثير لما صدرت تلك القوانين المجحفة".