الأولى عربيا.. كيف باتت موريتانيا وكرا لعمليات غسل الأموال؟
تصدرت موريتانيا الدول العربية بشأن حجم غسل الأموال، وفق دراسة اقتصادية متخصصة، ما خلق تفاعلا إعلاميا واسعا بالبلاد، دفع الحكومة الموريتانية إلى الرد عليها.
وصدرت الدراسة في 3 يوليو/ تموز 2023 عن "مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات" ومقره بيروت، وتفاعلت مع عديد من وسائل الإعلام الموريتانية، بينها موقع "الأخبار" المحلي.
ويُقصد بـ"غسل الأموال" إخفاء أو تمويه مصدر العائدات التي تم الحصول عليها بطريقة غير مشروعة، بحيث يبدو أنها جاءت من مصادر مشروعة.
وكشفت الدراسة أن موريتانيا جاءت في المرتبة 13 عالميا والأولى عربيا في غسل الأموال لسنة 2022.
وقالت إن الإمارات والسعودية والمغرب والأردن وتونس ومصر والبحرين جاءت ضمن الدول العربية العشر الأولى في غسل الأموال في الشرق الأوسط.
وحدد المشرف على الدراسة الخبير في علم المستقبليات وليد عبد الحي، أربع قنوات رئيسة لغسل الأموال، هي: المؤسسات المالية، والتجارة عبر الإنترنت، والوسائط الإلكترونية المتمثلة في البطاقات الذكية أو التحويل الإلكتروني للنقود أو العملات المشفرة، وقنوات الأصول العينية.
وقال إن التقارير الدولية "حددت أنماط الجريمة التي تدر الأموال الهائلة، وهي تتمركز في الأنماط الأربعة التالية طبقا لمقياس غسل الأموال:
الاتجار بالبشر (نحو 1.1 تريليون دولار سنويا)، وتجارة المخدرات (نحو 1 تريليون دولار سنويا)، وتجارة السلاح (نحو 984 مليار دولار سنويا)، وتهريب البشر (نحو 954 مليار دولار سنويا).
وأكد الباحث أن درجة الالتزام في الدول العربية بضوابط الهيئات الدولية لمنع غسل الأموال ما تزال محدودة، موضحا أن عوامل القرب الجغرافي تسهم في انتقال عمليات غسيل الأموال بين دولة وأخرى، طبقا لنماذج القياس الدولية.
وذكرت الدراسة أن درجة الالتزام في الدول العربية بضوابط الهيئات الدولية لمنع غسل الأموال ما تزال محدودة، وأن فترة ما أسماها بـ"عشرية الاضطراب" أي مرحلة "الربيع العربي" عرفت تزايدا ملحوظا في مجال غسيل الأموال، وأن هناك علاقة بين الفساد وغسل الأموال وعدم الاستقرار السياسي.
كما أكد أن عوامل القرب الجغرافي تسهم في انتقال عمليات غسل الأموال بين دولة وأخرى، طبقا لنماذج القياس الدولية، مشيرا إلى أن دولة الاحتلال "إسرائيل" تحتل مرتبة متقدمة في نسبة غسيل الأموال إلى إجمالي الناتج المحلي.
ويقدم مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات نفسه كمؤسسة دراسات واستشارات مستقلة، تأسست في بيروت عام 2004، وتعنى بالدراسات الإستراتيجية والأكاديمية واستشراف المستقبل، ويغطي مجال عمله العالمين العربي والإسلامي.
"ظاهرة معروفة"
عدد من الفاعلين والمتابعين للمشهد الاقتصادي والإعلامي والسياسي أكدوا أن ظاهرة غسل الأموال منتشرة في موريتانيا، مشددين أن سببها الرئيس يعود إلى ما هو سياسي، وخاصة ضعف المراقبة والمحاسبة.
وفي هذا الصدد، قال الخليل ولد خيري، رئيس منتدى المستهلك الموريتاني، إن غسل الأموال بموريتانيا معروف وموجود.
وأوضح لـ"الاستقلال"، أن هذا الأمر يتم عبر سرقة المال العمومي، والمتاجرة بالممنوعات والمواد المهربة، وهي الأموال التي تحتاج إلى إعادة إرجاع للسوق عبر غسلها.
وأضاف: يشتهر عندنا كثير من رجال السلطة بالفساد المالي، حيث يقومون بتحويل الأموال العامة التي هي تحت تصرفهم بحكم القانون والاختصاص الوظيفي، إلى قطع أرضية وفيلات خاصة، ومن خلال ذلك يبيضون أموالهم، ولاسيما في إسبانيا وتركيا والمغرب وغيرها.
وأبرز ولد خيري أن هذا الأمر سائد مع كامل الأسف في موريتانيا، ولذلك لا غرابة أن تتصدر البلاد قائمة الدول العربية والشرق أوسطية في مجال غسل الأموال وتبييضها.
وذكر المتحدث ذاته، أن بعض المسؤولين يأخذون الميزانية كلها، ولا يقومون بأي شيء، تحت أنظار العموم ومعرفتهم.
واسترسل ولد خيري، كما تجد بعض الموظفين والمنتخبين ممن لم يرث مالا من أبيه ولا يقوم بأي نشاط اقتصادي أو استثماري، يتحول بعد فترة إلى واحد من كبار الملاك والأثرياء، وهذا كله يأتي من الأموال المنهوبة.
في السياق ذاته، أكد الإعلامي والناشط السياسي جعفر مولاي الزين احمدو، أن الوضع بخصوص غسل الأموال صار مفضوحا بموريتانيا الآن أكثر من السابق.
وتابع لـ "الاستقلال"، نحن الآن نرى تمويلات تذهب لمشاريع معلنة تم تدشينها بتغطيات إعلامية، ثم تختفي هذه التمويلات دون إتمام هذه المشاريع أو البدء فيها من الأساس، ليظهر لاحقا أن المشرفين على تلك المشاريع قد امتلكوا قصورا وسيارات وأسواقا، وشركات.. إلخ.
وذكر المتحدث ذاته، أن أساس غسل الأموال هو هذه الأموال المنهوبة من خزينة الدولة، سواء بطرق مباشرة أو غير مباشرة.
وقال جعفر احمدو، إن هذه الأموال يجب تبريرها قانونيا، إلا أن المتورطين في تبييض وغسل الأموال يملكون النفوذ الكافي للحصول على شهادات وفواتير وتحويلات وأوراق تتفق والإجراءات القانونية المتبعة لتبرير دخلهم، لأن السارق هو ذاته الرقيب.
رد الحكومة
رد الحكومة الموريتانية لم يتأخر على ما ورد في الدراسة التي انتشرت خلاصاتها بشكل واسع في الإعلام الموريتاني.
حيث نفى وزير النفط والطاقة الناطق الرسمي باسم الحكومة الموريتانية الناني ولد اشروقة، معرفته بمركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، الناشر للدراسة.
وقال ولد اشروقة في ندوة صحفية، بتاريخ 6 يوليو 2023، ردا على سؤال حول عدم تفاعل الإعلام الرسمي مع المعطيات المتداولة عربيا ومحليا والواردة في الدراسة العلمية المذكورة، إن موريتانيا تشهد تحسنا جيدا في مستوى الحكامة المالية بشهادة الخارجية الأمريكية وصندوق النقد والبنك الدوليين.
وأضاف ولد اشروقة أنه لم تمض بعد 3 أسابيع على ترشيح موريتانيا من طرف المنظمة الدولية للشفافية، عاطفا على أنه من المناسب العودة في مثل هذه التقييمات للمؤسسات ذات المصداقية.
وفي الفترة الأخيرة، ترأس محمد الأمين الذهبي، محافظ البنك المركزي الموريتاني، الثلاثاء 23 مايو/أيار 2023، الاجتماع السنوي السادس والثلاثين لمجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالمنامة – البحرين.
ووفق منشور للبنك عبر صفحته على فيسبوك، انعقد هذا الاجتماع العام لمدة 3 أيام، وناقش خلاله سبل تحسين الآليات لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحة انتشار أسلحة الدمار الشامل في دول الأعضاء.
وأردف، وذلك من خلال "تعزيز قدرات دول الأعضاء"، و"تقييمات متبادلة بين دول الأعضاء"، و"المتابعة والتعاون الدولي بين المجموعة والمنظمات الأخرى من نوع مجموعة العمل المالي GAFI".
وسبق للحكومة الموريتانية، أن أعلنت عن إقرار إستراتيجية وطنية لمكافحة الرشوة ممتدة على الفترة ما بين عامي 2023 و2030، ومؤسسة على تقييم لوضعية مكافحة الفساد في موريتانيا منذ عام 2010، وعلى الأنشطة التي تم الشروع فيها منذ عام 2019 تاريخ وصول الرئيس محمد ولد الغزواني للحكم.
كما أكدت الحكومة في بيان بتاريخ 27 أبريل/ نيسان 2023 أن "مكافحة الفساد منذ 2019، اعتمدت على آليات متعددة، بينها الصدور المنتظم لتقارير محكمة الحسابات، وتقييم منظومة الصفقات العمومية، ونشر قائمة الصفقات المبرمة بالتراضي، وأداء اليمين من قبل الأشخاص المسؤولين عن الصفقات العمومية".
وأوضح البيان "أن الإستراتيجية الوطنية المستحدثة لمكافحة الرشوة للفترة 2023-2030، تهدف بشكل رئيس إلى ضمان توعية أفضل للمجتمع بفئاته كافة، مع تعزيز السلطات وفعالية الهيئات القضائية وجهات الرقابة، ودعم دور البرلمان والمجتمع المدني في مجال مكافحة الفساد".
وتقوم هذه الإستراتيجية على خمسة مرتكزات لها تأثير حقيقي على الرشوة، أولها الحكامة الجيدة، ثم الوقاية والكشف عن الرشوة، ثم القمع، ثم الإبلاغ والتحسيس، وآخرها الثقافة المناهضة للرشوة.
وأكد وزير الشؤون الاقتصادية الموريتاني عثمان مامودو كان، "أن موريتانيا كانت لديها إستراتيجية لمكافحة الرشوة منذ عام 2010، وقد أصبح من الضروري مراجعة الإستراتيجية السابقة بعد تقييم تنفيذها ومعرفة نقاط قوتها وضعفها، وما حققته من إنجازات ومكاسب".
وأبرز "أن الإستراتيجية ستنفذ عبر خطة عمل خاصة تتألف من 110 نشاطاً، وأن تنفيذها سيكلف حوالي مليار أوقية جديدة خلال الفترة ما بين 2023 و2030".
وأوضح "أن المصلحة المنتظرة من هذه الإستراتيجية هي تحديد مكامن الفساد والقطاعات والوظائف الخاضعة للفساد داخل هذه المواقع"، مضيفا "أن الجانب الآخر من الإستراتيجية هو أنها تدمج الاتصال كعنصر أساسي في زيادة الوعي العام المتعلق بالفساد".
وأضاف الوزير عثمان مامودو كان، أنه "في إطار عملية التحسيس، سيخصص يوم وطني لنشر محتوى الإستراتيجية الجديدة، وسيتم خلال هذا اليوم منح درع تذكاري للشخص أو المؤسسة التي تعدّ الأكثر كفاءة في مكافحة الفساد في موريتانيا".
وعن ضمانات تنفيذ الإستراتيجية الجديدة، أكد الوزير "أن تنفيذها سيتم من خلال برنامج يضمن تنفيذها بشكل فعال"، مشددا أن "هذه الاستراتيجية تشكل التزاما قويا من الحكومة، بوضع حد لهذه الظاهرة".
يذكر أن موريتانيا احتلت الرتبة 140 في مؤشر محاربة الفساد العالمي، من أصل 180 دولة وذلك في طبعة المؤشر لعام 2021 مقابل احتلالها الرتبة 134 من 180 دولة في سنة 2020.
من جانب آخر، سلمت وزارة الداخلية واللامركزية الموريتانية الترخيص رقم 32 23 06 212 FA لصالح "الهيئة العربية الإفريقية لمحاربة الفساد والرشوة" حديثة النشأة.
ووفق "وكالة تقدم" الإخبارية المحلية، في 30 مارس/آذار 2023، يأتي ميلاد هذه الهيئة وشرعيتها في ظرف ينخر فيه جسم الدولة بسبب الانتشار الكبير لهذين الوباءين والحاجة الماسة لمحاربتهما من طرف مواطنين مخلصين وغيورين على بلدهم ويرفضون التفرج على هذه الظاهرة.
وقالت الوكالة الإخبارية إن خروج هذه الهيئة بنجاح من مرحلة المخاض الطويلة تجعل الموريتانيين يعلقون عليها آمالا كبيرة خاصة وأنها تأتي في ظرف بلغ كل من الفساد والرشوة ذروته، لاسيما مع ملف عشرية الفساد التي حكم فيها الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز.
تحديات مستقبلية
ولا يرى الإعلامي والناشط السياسي جعفر مولاي الزين احمدو، من حل في الأفق القريب لمعالجة مشكلة الفساد وغسل الأموال في موريتانيا.
وقال جعفر احمدو لـ"الاستقلال"، في الحقيقة لا حل يظهر في الأفق لهذا المشكل الوطني، فالضحية - الشعب - متواطئة مع هؤلاء عبر تجديد ثقتها فيهم عند كل انتخابات، وفق تعبيره.
واسترسل، وكل ما نستطيع فعله هو الدعاء لهذا الشعب، عله يصحو من غفوته، فقد طال به الرقاد والنار تأكل وطنه وهو لا حراك.
في المقابل، يقول الخليل ولد خيري، رئيس منتدى المستهلك الموريتاني، إن لموريتانيا مؤسستين معنيتين بالحد من غسل الأموال، وهي المفتشية العامة للدولة، ومحكمة الحسابات.
وشدد ولد خيري لـ"الاستقلال"، على أن الحل لمواجهة الفساد وغسل الأموال يتمثل في تفعيل هذه المؤسسات، وجعلها مهنية لا سياسية، مؤكدا أن هذا التفعيل سيخفف من الفساد دون أن يقضي عليه تماما.
وذكر المتحدث ذاته، أن من أسباب هذا الوضع أيضا، أن مفهوم الدولة مايزال غائبا عن كثير من الأذهان وفي الممارسة، في ظل ارتفاع أسهم ورايات الجهوية والقبيلة، التي تطفو على السطح بقوة.
وقال ولد خيري، كما أن مجابهة هذه الظاهرة، يستدعي العمل على تفعيل منظمات المجتمع المدني الناشطة في مجال محاربة الفساد.
وأيضا الإعلام الخاص والاستقصائي، منبها إلى أن هذه المداخل كلها تساهم في الحد من الفساد ومحاصرة غسل الأموال، وفضح القائمين به ومحاسبتهم، قانونيا وشعبيا، يختم الناشط السياسي الموريتاني.