حادثة نائل المرزوقي.. كيف كشفت عن الغضب المدفون في ضواحي فرنسا؟

12

طباعة

مشاركة

كثيرا ما حذر المسؤولون الفرنسيون خلال السنوات الماضية، من أن الضواحي الفرنسية التي يقود سكانها اضطرابات عنيفة؛ نتيجة أخطاء متعمدة من الحكومة بحقهم، هي بـ "مثابة إنذار بالخطر" يهدد البلاد.

إلا أن إبقاء الحكومات الفرنسية المتعاقبة على سياسة الإهمال والتهميش وعدم تحسين واقع تلك الضواحي، التي يقطنها نحو خمسة ملايين نسمة، نسبة كبيرة منهم من المهاجرين والمتحدرين من أصول أجنبية، يجعل منها بؤرا قابلة للانفجار عند أي حدث يمس أبناءها.

وقد تكررت مشاهد الفوضى والسلب والنهب والتخريب والاعتداء على الممتلكات في فرنسا، عقب مقتل الفتى الفرنسي من أصول جزائرية نائل المرزوقي (17 عاما) برصاص عنصر شرطة بمدينة نانتير في الضاحية الغربية لباريس صباح 26 يونيو/حزيران 2023، بدعوى عدم امتثاله لدورية مرورية.

كسر العزلة

حادثة وفاة الشاب الوحيد لأمه، والتي وصفتها الخارجية الجزائرية بأنها جرت "بشكل وحشي ومأساوي" أشعلت احتجاجات عارمة عمت الشوارع في العديد من مدن البلاد وخاصة في باريس، رغم توجيه تهمة القتل العمد إلى الشرطي الفرنسي والذي أعيد إلى الحبس الاحتياطي.

وقد تخلل أغلبها أحداث عنيفة، رغم انتشار المدرعات والفرق الخاصة، وتطبيق نحو 20 مدينة حظرا ليليا للتجول للحد من أعمال الشغب.

وعلى خلفية ذلك، أوقفت الشرطة الفرنسية آلاف الأشخاص في عموم البلاد، بدعوى الإخلال بالنظام العام.

ودلت تلك الأحداث الأكثر حرجا للسلطات الفرنسية على عمق الفجوة وعدم نجاح الحكومات في كسر عزلة الضواحي التي تشهد أوضاعا أمنية هشة وحالة اجتماعية واقتصادية صعبة منذ عقود.

ويبقى الفقر والبطالة في "مستويات مرتفعة" في هذه الأحياء رغم سياسة التحديث المدنية التي أطلقت في 2003 وخطة 2008 لكسر عزلة الضواحي وتوفير فرص العمل للشبان ومكافحة الرسوب المدرسي والجريمة.

فمع نحو خمسة ملايين نسمة، نسبة كبيرة منهم من المهاجرين والمتحدرين من أصول أجنبية حاصلين بغالبيتهم على الجنسية الفرنسية، تعاني الأحياء الحساسة في ضواحي المدن الكبيرة من "تقصير بنيوي للدولة" كما ذكر تقرير للبرلمان عام 2010 والذي أضاف حينها أن الدولة تعيش "أزمة هوية وشرعية".

وفي 27 أكتوبر/تشرين الأول 2005 قتل الشابان زيد البنا (17 عاما) وبونا تراوري (15 عاما) عند محول كهرباء لجآ إليه هربا من مطاردة الشرطة في كليشي-سو-بوا.

وفي الليلة التالية هاجم عشرات الشبان الغاضبين من مناطق الضواحي، رجال الإطفاء والشرطة في مبان عامة، ثم توسعت الحركة إلى مدن أخرى بالضاحية الباريسية والبلاد.

واستمرت الاضطرابات ثلاثة أسابيع ما تسبب بأضرار كثيرة وإحراق آلاف السيارات وسقوط مئات الجرحى وتوقيف الآلاف وفرض تدابير حظر التجول وإعلان حالة الطوارئ خلال نحو شهرين.

ويبدو أنه منذ تلك الحادثة لم تتلاش أسباب الغضب لدى سكان الضواحي من سياسات الحكومة تجاه تحسين واقعهم ومعاملتهم.

وما يميز أعمال الشغب الجديدة، عن سابقاتها هو أن عددا لا بأس به من مرتكبيها هم، وفق السلطات، فتية "صغار جدا، وينفسون عن غضبهم" بتدمير الممتلكات العامة وإحراق السيارات ونهب المتاجر والاشتباك مع الشرطة.

وبحسب الرئيس إيمانويل ماكرون فإنه من أصل 875 شخصا أوقفتهم الشرطة بتاريخ 29 يونيو 2023 كان ثلثهم شبابا، وأحيانا فتية صغار جدا، ووفقا لوزير الداخلية جيرالد دارمانان فإن "متوسط العمر هو 17 عاما".

وقد تبين أن بعضهم تلامذة في المرحلة الثانوية، وآخرين يدرسون في معاهد مهنية، بينما يعمل بعضهم الآخر ندلاء في مطاعم وحانات، وكثيرا منهم بالكاد بلغوا سن الـ18عاما، وغالبيتهم ليس لديه أي سجل إجرامي.

ولعب أبناء حي بابلو بيكاسو بضاحية نانتير غربي باريس حيث كان يقطن الشاب نائل دورا كبيرا في إحداث الاضطرابات.

وفي السياق، التقت وكالة الأنباء الفرنسية عددا من هؤلاء الشبان وقد أكد قسم كبير منهم أنهم إنما يرتكبون هذه الأعمال "تنفيسا عن الغضب" الناجم عن شعورهم "بالظلم".

وقال أحد هؤلاء المحتجين في باريس ويدعى إبراهيم (اسم مستعار) إن "أعمال النهب لن تفيد بشيء لا التحقيق ولا نائل".

الأحياء الشعبية

تؤكد بيانات معهد الإحصاء الوطني (إنسي) لعام 2023، أنه في فرنسا، يعيش 5,2 مليون شخص، أي حوالي 8 بالمئة من السكان، في أحياء محرومة.

وفي عام 2014، حددت الدولة 1514 حيا فقيرا عرفت بـ"الأحياء ذات الأولوية لسياسة المدينة".

وهذه الأحياء هي بمجملها سكنية واسعة في ضواحي المدن الكبرى أو مناطق صناعية سابقة أو أحياء بعيدة عن وسط مدن صغيرة ومتوسطة الحجم.

وتشير بيانات معهد الإحصاء الوطني لعام 2021، إلى أن نحو 23,6 بالمئة من سكان هذه الأحياء لم يولدوا في فرنسا، مقارنة بـ10,3 بالمئة في بقية البلد.

في ضاحية سين-سان-دوني الباريسية ذات الكثافة السكانية العالية، وهي من الأحياء الشعبية، يرتفع هذا المعدل إلى 30,9 بالمئة، وفق بيانات "إنسي" لعام 2020.

وفقا لتقرير صادر عام 2017 عن هيئة "المدافع عن الحقوق" الفرنسية، فإنه يزيد احتمال أن يتعرض شاب يُنظر إليه على أنه أسود أو عربي إلى تدقيق أمني بعشرين ضعفا عن غيره.

واللافت أن متوسط الدخل المتاح في الأحياء الشعبية يبلغ 13,770 يورو سنويا لكل أسرة، مقارنة بـ21,730 يورو في المناطق المحيطة بها، وفق بيانات "إنسي" لعام 2020.

ويعيش أكثر من نصف الأطفال في هذه الأحياء في فقر (56,9 بالمئة مقابل 21,2 بالمئة في بقية فرنسا)، وفق معهد الإحصاء الوطني.

وبشكل عام، كان معدل الفقر في الأحياء الشعبية عام 2019 أعلى ثلاث مرات من أي مكان آخر في فرنسا.

إذ يعيش 43,3 بالمئة من سكانها تحت خط الفقر مقارنة بـ14,5 بالمئة في بقية المناطق.

ويستفيد ربع سكان الأحياء الشعبية من "دخل التضامن النشط" والمساعدات الاجتماعية المستحقة للأشخاص الأكثر حرمانا، وهو ضعف المعدل في بقية فرنسا، وفق "المرصد الوطني لسياسة المدينة".

أما معدل البطالة فهو أعلى بكثير في الأحياء الشعبية، ففي عام 2020، كان 18,6 بالمئة من القوى العاملة عاطلين عن العمل مقارنة بـ8 بالمئة على المستوى الوطني، وفق "إنسي".

وفي الانتخابات الرئاسية لعام 2017، امتنع 48 بالمئة من سكان هذه الأحياء البالغين عن التصويت أو لم يسجلوا في القوائم الانتخابية، بحسب دراسة أجراها "معهد مونتين" عام 2020، فيما انخفضت هذه النسبة إلى 29 بالمئة في بقية فرنسا.

ورغم ذلك، استثمرت الوكالة الوطنية للتجديد الحضري نحو 12 مليار يورو في الأحياء الشعبية بين عامي 2004 و2020.

وفي 600 حي، جرى هدم مجمعات سكنية ضخمة متهالكة وشيّدت مكانها مباني منخفضة وأكثر انفتاحا على المدن.

وتعتزم الحكومة استثمار 12 مليار يورو إضافية بحلول عام 2030، وفق ما ذكرت وكالة الأنباء الفرنسية في تقرير لها بتاريخ 2 يوليو/تموز 2023.

غياب المعالجة

وفي هذا الإطار، قال الصحفي المقيم في فرنسا عمار العلاء "إن فرنسا جلبت الناس إلى الضواحي منذ خمسينيات القرن العشرين من مستعمراتها، من المغرب والجزائر ودول إفريقيا من أجل إعمارها من جديد، ووضعتهم في أماكن محددة في البلاد".

وأضاف العلاء لـ "الاستقلال": "عقب ذلك بدأت تكدس اللاجئين والمهاجرين في تلك الضواحي مما دفع هؤلاء لجلب عوائلهم وأقربائهم وأصبحت بالتالي مناطق يقصدها أبناء تلك البلدان بحكم العيش في مناطق من ذات البلد".

وأردف قائلا: "هؤلاء أصبحوا عقب ذلك فرنسيين من أصول عربية وإفريقية وآسيوية، مما ولد حالة فرز لهذه المناطق من قبل السلطات الفرنسية عن باقي المناطق التي يسكنها الفرنسيون الأصليون".

وألمح العلاء إلى أن "مناطق هؤلاء من أصول أجنبية تكون فيها مثلا النظافة بشكل أقل ومستوى التعليم متدني ونسبة البطالة تتجاوز 30 بالمئة والفقر تتجاوز نسبته ببعض المناطق 40 بالمئة بينما هي في عموم فرنسا تبلغ 15 بالمئة".

وأمام هذا الوضع "أصبح شباب تلك المناطق لا يكملون تعليمهم ويصبحون ضحية للمخدرات لدرجة أنها توصم بأنها مناطق غير آمنة".

وبين أن ذلك يرجع إلى أن الدولة الفرنسية لم تدمجهم بالمجتمع وتركتهم بشكل عشوائي دون معالجة مرحلية لمشاكلها المتراكمة بشكل مستمر.

وبين أن تلك المشاكل دفعت الكثير منهم للقيام بأعمال شغب واضطراب مستغلين مثل حادثة القتل العمد هذه التي ما كانت لتحدث لولا تعامل الشرطي بهذه الطريقة مع الضحية نائل بعدما اكتشف أن أصوله عربية من شكله واسمه".

ونوه العلاء، إلى "أن بعض هذه الضواحي يكاد المرور بها من غير سكانها أن يكون مخاطرة قد تودي بصاحبها للأذى الذي يتجاوز اللفظي إلى الضرب بآلات حادة، وخاصة لهؤلاء من الفرنسيين والأوروبيين بينما قد يسعفك أحيانا الحديث باللغة العربية لتدارك الموقف".

وذهب للقول: "مظاهر السلب ونهب الممتلكات بحجة الاحتجاجات التي شاهدها العالم من هؤلاء هي نتيجة طبيعية لشعورهم دائما بالتهميش".

وبين أنهم "يشعرون بالتمييز من قبل الدولة الفرنسية؛ لأنهم من أصول ليست فرنسية، رغم أنهم جيل ثانٍ وثالث من أبناء المهاجرين وحاصلون على الجنسية لكن ممارسات الحكومات المتعاقبة ولد لديهم عدم الانتماء لفرنسا".

واستدرك قائلا: "وخاصة في ظل وجود الفروق الكبيرة بين هؤلاء والفرنسيين والأوروبيين حتى من ناحية طبيعة المهن التي يعملون بها وأغلبها محصورة بالمعامل والورشات".

وهذا ما يجعلهم ينظرون إليه على أنه مقصود من قبل الحكومة ويسير ضمن سياسة لا تسمح لهم بالتطور وحتى استلام مناصب وإدارات سواء بالاقتصاد أو السياسة أو أي شيء، وفق قوله.

وبرأي أستاذ علم الاجتماع في جامعة رين (غرب) سامي زغناني فإن أعمال العنف التي شهدتها فرنسا يجب النظر إليها من منظور الانتفاضة وليس أعمال الشغب.

وقال زغناني لوكالة الأنباء الفرنسية مطلع يوليو 2023 إن "مصطلح أعمال شغب يقلص هذا العنف إلى جنوح حضري بسيط في حين أنه ينطوي على بُعد سياسي لا يمكن إنكاره" في سياق الفروقات الاجتماعية المتزايدة في البلاد.

وأوضح أنه عندما يستهدف هؤلاء الشبان مدارس أو مراكز اجتماعية أو مكتبات عامة، فإن ما يقومون به هو "أعمال تدمير لما هو قريب".

وهو أمر "يمكن أن يعكس شعورا دفينا بأن هذه الأحياء لا قيمة لها في نظر المجتمع الأوسع، مما يغذي شكلا من أشكال الانتفاضة الذاتية التدمير".

والاحتجاجات لا تنحصر في المدن الكبيرة وضواحيها بل تطال أيضا المدن الصغيرة والمتوسطة الحجم، وهو أمر "يؤكد أن ما يحدث هنا ينطوي على أبعاد سياسية"، وفقا لزغناني.