كيف ظهرت تونس فاقدة للسيادة في أزمة بوراوي بين فرنسا والجزائر؟
وضعت أزمة الصحفية والمعارضة الجزائرية أميرة بوراوي، تونس في قلب أزمة دبلوماسية أظهرت فقدانها للقدرة على اتخاذ قرار مستقل في ظل حكم الرئيس قيس سعيد.
يعود أصل المشكلة إلى دخول بوراوي إلى تونس عبر الحدود البرية مع الجزائر، بطرق غير قانونية، لكونها ممنوعة من مغادرة التراب الجزائري، نظرا لنشاطها السياسي المعارض للسلطة القائمة.
وحين حاولت بوراوي السفر جوا من مطار العاصمة تونس إلى فرنسا، بجواز سفر فرنسي، جرى إيقافها من قبل الجهات الأمنية، في 3 فبراير/شباط 2023.
وأوقفت نظرا لغياب ختم الدخول إلى التراب التونسي عن جواز سفرها، وجرى عرضها على قضاء تونس، في 6 فبراير 2023.
وقالت صحيفة "لوموند" الفرنسية، في اليوم التالي إن بوراوي أفلتت من تسليمها إلى الجزائر بعد أن غادرت باتجاه مدينة ليون الفرنسية.
وجاء ذلك بعد ساعات من المفاوضات المكثفة بين سلطات باريس وتونس، بمشاركة دبلوماسي يُعتقد أنه السفير الفرنسي في تونس أندري باران. وأضافت الصحيفة أن بوراوي تمتعت بالحماية الدبلوماسية لفرنسا باعتبارها مواطنة فرنسية.
إذ جرى استقبالها لبضع ساعات في السفارة الفرنسية في تونس، قبل أن تحصل على إذن بالسفر إلى فرنسا من الرئيس التونسي قيس سعيّد شخصيا.
وأميرة بوراوي ناشطة معارضة للسلطة الجزائرية منذ سنوات، وكانت من مؤسسي حركة بركات (كفاية)، التي نظمت تظاهرات في مارس/آذار 2014، احتجاجا على ترشح الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسية رابعة.
كما نشطت عام 2017 ضمن حملة سياسية وشعبية تطالب بتطبيق المادة 102 من الدستور المتعلقة بإقرار شغور منصب رئاسة الجمهورية، بسبب غياب بوتفليقة عن المشهد السياسي حينها، ونشطت كذلك في بداية الحراك الشعبي، في فبراير 2019.
وتعرضت بوراوي لسلسلة من الملاحقات القضائية، ففي يونيو/حزيران 2020، دانتها محكمة جزائرية بالسجن لمدة عام نافذ مع إيداعها الحبس فورا، بتهمة "إهانة رئيس الجمهورية والتحريض على التجمهر".
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2021، أصدر القضاء الجزائري في حقها حكما بالسجن في قضيتين، تخص الأولى "إهانة هيئة حكومية ورئيس الجمهورية، وتوزيع منشورات من شأنها المساس بالأمن العام".
وتخص الثانية تهمة "المساس بالمعلوم من الدين والاستهزاء ببعض الأحاديث النبوية"، إذ جرى سجنها بهذه التهمة قبل أن يُفرج عنها لاحقا.
وبقيت بوراوي منذ تلك الفترة موضوعة على لائحة الممنوعين من مغادرة التراب الوطني وحجب جواز سفرها.
جدل تونسي جزائري
وبعد الواقعة الأخيرة، أصدرت السلطات الجزائرية بيانين، أولهما صدر عن وزارة الشؤون الخارجية والثاني عن رئاسة الجمهورية.
ففي البيان الأول، أعربت وزارة الشؤون الخارجية الجزائرية، 8 فبراير 2023، لسفارة فرنسا عن إدانة الجزائر الشديدة لانتهاك السيادة الوطنية من قبل موظفين دبلوماسيين وقنصليين وأمنيين تابعين للدولة الفرنسية.
وهؤلاء شاركوا في عملية إجلاء سرية وغير قانونية لرعية جزائرية يعد وجودها على التراب الوطني ضروريا بقرار من القضاء الجزائري، وفق الوزارة. وذكرت أن الجزائر، ترفض هذا التطور غير المقبول الذي يلحق ضررا كبيرا بالعلاقات الجزائرية-الفرنسية.
وفي اليوم نفسه، صدر بيان عن رئاسة الجمهورية الجزائرية، أعلنت من خلاله السلطات استدعاء سفيرها بباريس للتشاور.
وورد في البيان ما يلي: "في أعقاب المذكرة الرسمية التي أعربت من خلالها الجزائر عن احتجاجها بشدة على عملية الإجلاء السرية وغير القانونية لرعية جزائرية يعد وجودها على التراب الوطني ضروريا بقرار من القضاء، أمر رئيس الجمهورية، باستدعاء سفيرنا بفرنسا، سعيد موسى، فورا للتشاور".
من جهتها، أكدت بوراوي أن رحيلها إلى فرنسا عبر تونس ليس هروبا إلى "المنفى"، وأنها "ستعود قريبا" في ظل توتر دبلوماسي بشأنها بين باريس والجزائر.
وبحسب موقع "يورونيوز" الأوروبي، 9 فبراير 2023، قالت بوراوي: "لم أذهب إلى المنفى، فأنا في بلدي هنا مثلما كنت في الجزائر".
ورأت بوراوي تصرف شرطة الحدود التونسية "اختطافا"، مضيفة: "أشكر الذين أكدوا أنني لن أجد نفسي خلف القضبان مرة أخرى".
وأشارت هنا إلى منظمتيّ العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، والصحفيين، والموظفين العاملين في سفارة فرنسا في تونس.
كما أثار الحادث جدلا في تونس، خاصة أن النقاش تطور على مستوى انتهاك السيادة التونسية من قبل فرنسا، وأيضا خضوع تونس للضغط الجزائري.
وتجسد ذلك في إقالة وزير الخارجية عثمان الجرندي، وتعيين نبيل عمار حاملا جديدا للحقيبة الدبلوماسية، في 8 فبراير 2023.
وفي هذا الصدد، قال الناشط السياسي والإعلامي الجزائري وليد كبير، إن الرئيس التونسي لم يجد إلا التضحية بوزير خارجيته لإرضاء من أسماه "نظام العسكر" في الجزائر، مشددا أن هذا دليل على الضعف الكبير لقيس سعيد.
وأضاف كبير لـ "الاستقلال"، أن تدخل السلطة الجزائرية أو نظام العسكر في الشأن التونسي ليس بجديد.
وبين أن سبب هذا يرجع أساسا إلى الرئيس سعيد، الذي أضعف مؤسسات الدولة التونسية، وضرب عرض الحائط بكل المكاسب التي حققها الشعب التونسي بعد ثورة الياسمين، نهاية 2010 وبداية 2011.
ولم يستبعد كبير أن يكون رد الفعل الجزائري تجاه قضية بوراوي على الأراضي التونسية، محاولة من النظام السياسي لتسويق نفسه في الداخل التونسي، بأنه ليس ضعيفا أمام فرنسا، لاسيما بعد حادث الخوذة بباريس، والذي كانت فيه إهانة مباشرة لقائد الجيش الجزائري.
وكانت باريس أهدت رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي الفريق السعيد شنقريحة، خوذة الحرس الفرنسي، خلال زيارته لباريس ولقائه بالرئيس إيمانويل ماكرون، بقصر الإليزيه، 25 يناير/كانون ثاني 2023.
وأشار كبير إلى أن تضخيم الجزائر لردة فعلها يراد منه أيضا إيصال رسالة لروسيا، لاسيما بعد التقارب الأخير بين الجزائر وفرنسا، وذلك خوفا على خسارة الحليف الروسي، والتي ستكون عواقبها كبيرة على مؤسسة الجيش الجزائري.
ولم ينف المتحدث ذاته، أن النظام الجزائري يعيش نوعا من الارتباك في علاقاته مع البلدان المجاورة، مشيرا إلى أنه تائه ولا يحسن التصرف فيما يخص إدارة الأزمات.
وبدوره، قال زياد الهاشمي، النائب البرلماني التونسي والقيادي بائتلاف الكرامة، إن قيس سعيد دخل في لعبة المحاور منذ بداية التخطيط للانقلاب، لأنه كان يعلم جيدا أنه لن ينجح في انقلابه بدون سند دولي قوي وغطاء مالي، تحسبًا لأي عقوبات اقتصادية من بعض الأطراف الدولية، التي قد ترفض الانقلاب على أول تجربة ديمقراطية في المنطقة".
ولذلك، يردف المتحدث لـ "الاستقلال": "كان اعتماد قيس سعيد بالأساس على الجزائر وفرنسا، وبصفة أقل بعض الدول الخليجية، التي سرعان ما رفعت دعمها عنه عندما أعلن عن خريطة طريقه التي انفرد بها بالسلطة".
وأوضح الهاشمي أن "الجزائر كانت السند المالي الوحيد لقيس سعيد طيلة الفترة السابقة"، مشيرا إلى ما كشفه سيناتور أميركي من أن "الجزائر هي من تدفع رواتب الموظفين التونسيين".
واسترسل، "وأكثر من هذا، فإن الجزائر تكفلت بخلاص جملة من الديون المستحقة لبعض الشركات الجزائرية من بينها سوناطراك".
وبين الهاشمي أن الدعم السياسي لقيس سعيد كان حاضرا من طرف فرنسا أيضا، خصوصا على مستوى الموقف الأوروبي من الانقلاب، وكانت أجنحة الرئيس الروسي هي الجزائر وفرنسا حتى لا يسقط من علوه الشاهق "ولذلك لا يمكن له الاستغناء عنهما".
وقال النائب البرلماني، إن بروز أزمة الناشطة السياسية الجزائرية أميرة بوراوي، قلبت المعادلة، وجعلت قيس سعيد يضحي بعلاقاته مع الجزائر مقابل تقديم خدمات لفرنسا في حركة مفاجأة.
وعن تبعات هذا الأمر، ذكر الهامشي، أن الجزائر وإن أرادت على المستوى الرسمي استثناء تونس والتركيز على فرنسا، إلا أن التنكيل الذي وقع بمواطنين تونسيين على مداخل الحدود التونسية الجزائرية يؤكد الغضب الجزائري، والشعور بالغدر الذي تلقوه من طرف قيس سعيد.
وعلى المستوى الداخلي، يوضح أن هذه العملية تعصف بسردية قيس سعيد حول سيادة القرار الوطني، وتؤكد أنه بلا شخصية ولا إرادة أمام فرنسا.
انتقام ودعوة للتحقيق
من جانبه، أكد المحامي التونسي مالك بن عمر، أنه بسبب سماح سعيد للناشطة الجزائرية أميرة بوراوي بالسفر، شرع النظام الجزائري بكل وقاحة وسقوط في الانتقام من المواطنين التونسيين، لا ذنب لهم سوى أنهم تونسيون.
وأوضح بن عمر في تدوينة نشرها بحسابه على فيسبوك، 10 فبراير 2023، أن شرطة الحدود الجزائرية تمنع التونسيين الذين كانوا في الجزائر من المغادرة.
وذكر أن هناك 200 عائلة تونسية محتجزة على الحدود في هذا الطقس البارد، بلا شفقة ولا رحمة، فضلا أن كل البضائع التي اشتروها في الجزائر تُنتزع منهم.
وتساءل بن عمر، ما كل هذا الهم؟ كيف لدولة أن تتفرج على مواطنيها يحتجزون بهذه الطريقة؟ ليرد قائلا: لو كان لتونس دولة لتم استدعاء السفير الجزائري فورا.
هذا الخبر أكده أيضا الصحفي مولدي الزوابي، خلال مقابلة بإذاعة "راديو إف إم"، 10 فبراير 2023، والذي قال إن أي شيء يبتاعه التونسيون بالجزائر يجري استصداره من الجمارك، والتي لا تسمح بمرور أي شيء.
وذكر أن معاملة التونسيين تغيرت في الحدود الجزائرية التونسية، بعد تسليم أميرة بوراوي للسلطات الفرنسية.
هذه الأزمة أبانت عن ضعف كبير يعتري مؤسسات الدولة التونسية، وفي هذا الإطار، أكد الكاتب الصحفي يونس مسكين، أن الملاحظ الموضوعي والمحايد لما يحصل في تونس حاليا، لا يمكنه أن يتردد في الجزم بوجود انتكاسة سياسية ومؤسساتية شاملة في البلاد.
وقال مسكين لـ "الاستقلال"، إن "هذه الانتكاسة ظهرت من خلال ضرب كل المكتسبات الديمقراطية والحقوقية التي كانت تنعم بها تونس، وإقامة نظام ديكتاتوري يميل إلى الشمولية والحكم الفردي".
وتابع، "هذا التراجع الذي يجسده إسقاط الدستور، وتعليق عمل البرلمان، وتنظيم انتخابات صورية مفتقدة للحد الأدنى من الدعم الشعبي، أدى بالضرورة وبشكل بديهي إلى إضعاف الدولة التونسية أمام المخاطر والتهديدات الخارجية، كما يحصل دائما في مثل هذه الحالات".
وأوضح: "تستفرد قوى خارجية بالنظام، وتعمل على ابتزازه وإخضاعه لسطوتها لعدم قدرته على تعبئة أي دعم أو مساندة داخليين".
وأشار إلى أن هذا "ما جرى بشكل واضح لتونس أمام العديد من القوى الدولية والإقليمية، وبشكل خاص كل من جارتها الجزائر ومستعمرها السابق فرنسا".
وعن أسباب ذلك، قال مسكين إن "الاعتبارات الاقتصادية والأمنية التي جعلت تونس رخوة أمام أطماع هذه الأطراف، تسببت في خروج الوهن الواضح في اضطلاع الدولة التونسية بمهامها السيادية إلى العلن".
وبالتالي، يردف المتحدث ذاته، أنه جرت استباحة هذه السيادة بالشكل الذي تابعناه جميعا في قضية المواطنة الجزائرية-الفرنسية أميرة بوراوي. إذ تحولت تونس إلى ساحة لتحرك أطراف أجنبية بعيدا عن رقابة وإذن السلطات التونسية.
وبين الباحث التونسي في العلاقات الدولية بشير الجويني، أن "السماح بسفر الناشطة الجزائرية التي دخلت تونس على خلاف القانون إلى فرنسا مساس بالسيادة الوطنية وجريمة تتطلب التعجيل بفتح بحث جدي".
وبين أنه يجب التحقيق على الأقل فيما يتعلق بدخولها للتراب التونسي، بقطع النظر عن الموقف من علاقتها بالجزائر.
ودعا الجويني في تصريح له في 10 فبراير 2023، السلطات التونسية إلى "مصارحة الرأي العام والكف عن سياسات التعتيم ودفن الرأس في الرمال"، وفق موقع "عربي 21".
ورأى أن ما يجرى "إساءة للتونسيين والجزائريين ولعلاقات جوار تاريخية المساس بها هو مساس بركن مهم من أركان الدولة وتهديد جدي للاستقرار في المنطقة".
وقال الجويني: "لطالما تشدق سعيد بعدم الانحياز إلى محور دون آخر، لكن ذلك كلام فقط، بينما كل أفعاله نكوص عن مبادئ الدبلوماسية التونسية".
وختم الباحث في العلاقات الدولية حديثه بالقول إنه "من السيئ لتونس أن تكون ساحة لتصفية حسابات شريكين مهمين لها، والأسوأ أن يجر قيس سعيد تونس لمربع الاصطفاف والتفريط في السيادة الوطنية لأي طرف".
وكانت أميرة بوراوي، دعت تونس إلى أن تنأى بنفسها عن النظام الجزائري وتتحرر منه، وأن تتخلص من السلطة الحاكمة في الجزائر، لأنها في عزلة حقيقية.
وقالت بوراوي في تدوينة على حسابها بفيسبوك، في 9 فبراير 2023، إن الفرقة المتحكمة في النظام الجزائري ستسقط قريبا، في أعقاب سقوط السفاح البلشفي القديم (الرئيس الروسي) فلاديمير بوتين، على حد وصفها.
المصادر
- أزمة تهريب المعارضة الجزائرية أميرة بوراوي من تونس إلى فرنسا: هل أقيل وزير الخارجية بسببها؟
- أزمة جديدة أم ماذا؟ أميرة بوراوي تعلن عودتها قريبا للجزائر وتبون يستدعي سفير بلاده في باريس للتشاور
- بوادر أزمة بين تونس والجزائر بسبب فرنسا.. هل يخسر سعيّد أبرز حلفائه؟
- La militante franco-algérienne Amira Bouraoui échappe à une extradition vers Alger depuis la Tunisie après l’intervention de la France