مصطفى جواد.. عالم عراقي درس العربية للملك وصحح الخطأ لرئيس الوزراء

يوسف العلي | 3 years ago

12

طباعة

مشاركة

بالتزامن مع اليوم العالمي للغة العربية في 18 ديسمبر/كانون الأول 2021، حلت الذكرى الـ52 على وفاة أحد أبرز علماء لغة الضاد، العلامّة العراقي مصطفى جواد، الذي وصف في عصره بأنه "دائرة معارف" تمشي على الأرض.

وتوفي جواد ببغداد في 17 ديسمبر/كانون الأول 1969، وشيعه إلى مثواه الأخير حشد كبير من طلبة العلم والأكاديميين والمحبين تقدمهم الرئيس العراقي الراحل أحمد حسن البكر، إذ كان لديه برنامج إذاعي شهير يستمع إليه العراقيون.

مولده ونشأته

ولد جواد بمحلة القشلة في بغداد عام 1904 لأبوين من عشيرة صارايلو التركمانية التي تنحدر من محافظة ديالى العراقية، وكان والده خياطا عمي فنشأ ابنه فقيرا.

درس الابتدائية في ديالى حيث حفظ القرآن وتعلم القراءة والكتابة، وبعد وفاة والده في أوائل الحرب العالمية الأولى عام 1914، عاد إلى بغداد وأكمل دراسته في المدرسة الجعفرية.

وساهم شقيقه "كاظم بن جواد" الذي كان من أدباء بغداد في التراث الكلاسيكي في بناء قاعدة العشق اللغوي عند شقيقه الأصغر، إذ كلفه بدراسة النحو ومعاني الكلمات وأعطاه قاموسا في شرح مفردات العربية وأوصاه بأن يحفظ عشرين مفردة في اليوم الواحد.

وحفظ مصطفى جواد كتاب الأجرومية في النحو خلال ثلاثة أيام، حيث دهش الشيخ شكر البغدادي مدير المدرسة الجعفرية من ذلك، وشاع أمره بين طلاب المدرسة لذا أطلق عليه لقب "العلامة النحوي الصغير".

أكمل دراسته في دار المعلمين العالية عام 1924، وفي هذه الدار وجد اثنين من أساتذته يعتنيان بموهبته.

وهما: طه الراوي، حيث أهداه كتاب المتنبي لما وجده يحفظ له قصيدة طويلة بصوت شعري سليم، وساطع الحصري حيث أهداه قلما فضيا بعد أن وجد قابلية تلميذه تتجاوز مساحة عمره.

وكان أساتذة مصطفى جواد في دار المعلمين العالية يقولون له: "أنت أفضل من أستاذ!" فهو يكمل عجز البيت الشعري إذا توقف عن ذكره، ويحلل القصيدة ويتصيد الأخطاء ويشخص المنحول بقدرة استقرائية غير مستعارة من أحد.

بعد تخرجه في دار المعلمين العالية، مارس مهنة التعليم في المدارس تسع سنوات (1924-1933) متنقلا بين البصرة والناصرية وديالى والكاظمية، حيث تم تعيينه معلما للمدارس الابتدائية.

وعمل مدرسا بمعهده، الذي تخرج فيه، وبكلية التربية التي ورثت المعهد بعد تأسيس جامعة بغداد، وبعدها حصل على بعثة لتطوير دراساته في باريس فقضي سنة كاملة في القاهرة لتعلم الفرنسية وهناك التقى رواد الثقافة طه حسين وعباس محمود العقاد وأحمد حسن الزيات.

سافر إلى فرنسا خلال الفترة (1934-1939) وأكمل دراسة الماجستير والدكتوراه في جامعة السوربون في الأدب العربي فنالها عن أطروحته "الناصر لدين الله الخليفة العباسي"، لكن نشوب الحرب العالمية الثانية جعله يعود إلى بغداد عام 1939 قبل أن يناقش أطروحته.

المسيرة المهنية

في 1925 جرى تعيينه كاتبا للتحرير بوزارة المعارف (التربية) ونقل بعد ذلك معلما في المدرسة المأمونية بالعاصمة بغداد، ومنها نقل إلى المدرسة المتوسطة الشرقية الشهيرة ببغداد.

وخلال هذه المدة تعرف على اللغوي البارز الأب أنستاس الكرملي، وكان للأخير مجلس أدب ولغة في الكنيسة اللاتينية يؤمه أدباء الدرجة الأولى في بغداد.

وفي جلسته الأولى أثار مصطفى جواد معركة حامية حول العامية والفصحى، وكان يبارزهم بالأدلة، فمال إليه الكرملي منذ لحظته الأولى قائلا: "أريدك يا أخ اللغة أن تحضر مجلسي كل أسبوع".

عند حضوره في الأسبوع الثاني كلفه الكرملي بأن يرتب مكتبته على التنظيم العصري وكانت من خيرة مكتبات بغداد، فنظمها وجعل لها فهارس وأخرج منها العابث والمكرر.

ثم اقترح عليه الكرملي الكتابة في مجلته الشهيرة "لغة العرب"، فكتب أبحاثا لغوية ونقدا في التراث اللغوي وزاوية خاصة بـ"التصويبات اللغوية".

كتابات مصطفى جواد هذه جعلته على الألسنة بين أخذ ورد وجدل وانتقاد وكانت معاركه تسمع في القاهرة وبلاد الشام.

كما شغل منصب المشرف على الأساتذة الخصوصيين الذين أشرفوا على تدريس وتثقيف الملك فيصل الثاني ملك العراق في أربعينيات القرن العشرين.

وهو أحد الأصدقاء المقربين لرشيد عالي الكيلاني رئيس الوزراء العراقي خلال العهد الملكي في أعوام (1933، 1940، 1941).

وندب مصطفى جواد لتأسيس معهد الدراسات الإسلامية العليا وأنيطت به عمادته عام 1962، وحفلت حياته بجهود علمية في البحث، ونالت تحقيقاته إعجاب الباحثين في الأقطار العربية والإسلامية، فأصبح علما من أعلام القرن العشرين في اللغة والتاريخ الإسلامي والعربي.

وإلى جانب تدريس اللغة لأكثر من خمس وأربعين سنة، كتب مصطفى جواد كثيرا من الكتب عن اللغة العربية وكيفية تحديثها وتبسيطها.

وعرف العراقيون جواد من خلال برنامجه الإذاعي الشهير "قل ولا تقل"، حيث كان برنامجا لغويا شيقا وكان يتابعه الصغار والكبار. وعبره بسط اللغة العربية للمستمع العام وللمختص اللغوي في آن واحد.

وترجع الأسباب التي دعته إلى عمل برنامج "قل ولا تقل" إلى استهانة طبقة من المترجمين باللغة العربية، وقد امتاز منهم بهذا الإثم اللغوي مترجمو البحوث العسكرية، بحسب قوله.

كما أن كثيرا من الكتاب والشعراء "يكتبون كلاما غير مشكول، واللحن في غير المشكول لا يظهر، وبعضهم يكسر المفتوح ويفتح المضموم وينون الممنوع من الصرف ويكسر المضموم".

جانب طريف 

وثبت بعض المواقف الطريفة لمصطفى جواد، إذ ينقل عنه الصحفي العراقي الراحل رشيد الرماحي، قوله: "خلال فحص الطبيب شوكت الدهان لجواد إثر ألم في الصدر ألم به، لم يستطع أن يخفي عنه وأخبره بأنه يعاني من (جلطة قلبية) وبينما توقع أن يحزن لهذا الخبر، ابتسم جواد وقال له: (يا دكتور... قل غلطة قلبية... ولا تقل جلطة قلبية)".

وفي موقف آخر، التقى جواد، رئيس الوزراء العراقي عبد الكريم قاسم وقال له: (أرجو أيها الزعيم أن لا تقول: "الجَمهورية" بفتح الجيم، بل قلْ الجُمهورية بضم الجيم) وتقبل الزعيم النصيحة.

وفي ذات مرة أخطرته وزارة المعارف بكتاب رسمي بضرورة عدم نشر المقالات في الصحف استنادا للقوانين التي لا تجيز للموظف المشاركة في الأمور العامة، فصحح الأخطاء الواردة في الكتاب بالقلم الأحمر وأعاده إلى الوزارة داعيا أن تقوم بتقويم كتابها قبل أن تقوّم الآخرين.

وذات يوم كان مسافرا خارج العراق وعند وصوله مطار البلدة التي يروم السفر إليها طلب منه الموظف المسؤول إبراز وثيقة التطعيم ضد الجدري فأخطأ في نطق الكلمة بكسر الجيم ورفع التشديد فرد عليه جواد قل الجدري برفع الجيم وتشديد الدال.

حارس اللغة

العلامة جواد كان بعيدا عن السياسة ولا يعنى بمتابعة مجرياتها حتى قيل إنه لو سئل عن مدير شرطة بغداد لصعب عليه معرفته، ولكن لو سئل عن رئيس الشرطة في زمن هارون الرشيد لقال إنه فلان ابن فلان عين لرئاسة الشرطة سنة كذا وعزل من عمله عام كذا وتوفي عام كذا واستخلفه فلان، ولأورد تاريخ الشرطة في ذلك الزمن.

وإثر صراعه مع مرض عضال لازمه لسنوات، كان وداع جواد الأخير عام 1969 في تظاهرة كبرى سار فيها جمهور غفير من محبيه، وبرحيله فقد العراق علما من أعلامه البارزين.

وكان مصطفى جواد يتقن أربع لغات إضافة إلى العربية، هي: الفرنسية والإنجليزية والتركية والفارسية، وترجم منها كثيرا من الكتب إلى العربية، مثل رواية (الأمير خلف وأميرة الصين) من الفرنسية، وكتب "بغداد مدينة السلام"، و"رحلة أبي طالب خان إلى العراق وأوروبا"، و"بغداد في رحلة نيبور" من الإنجليزية، و"رباعيات الخيام" من الفارسية.

وترك جواد خلفه 46 مؤلفا، نصفها مطبوع ونصفها الآخر ما زال مخطوطا، وأشهر المخطوط كتابه الكبير "أصول التاريخ والأدب" في 24 مجلدا ومازالت موجودة لدى ولده المهندس جواد مصطفى جواد.

وله عديد من المؤلفات المشتركة ومقالات ودراسات منشورة لم تجمع بعد.

ونقد جواد شعره مرارا لأنه شعر علماء يغلب فيه المنطق على الوجدان.

وعندما توفي جواد، رثاه الشاعر العراقي مصطفى جمال الدين، قائلا:

 

يا حارس اللغة التي كادت على صدأ
 

 

اللهي أن لا يرن لـها صـدى
 

هبت عليها الحادثات فلم تدع
 

 

غصنا بعاصف حقدها متأودا
 

عربي طـبع لا يتعتع نطـقـه
 

 

حصر على النبت الغريب تعودا