مع تصاعد الأزمات في "بلاد الأرز".. الهجرة المتزايدة تعيد تشكيل ديموغرافية لبنان

12

طباعة

مشاركة

الأزمة الاقتصادية وجحيمها التي يعيشها لبنان منذ 2018، دفعت العديد من شباب "بلاد الأرز" إلى الهجرة "حاملين معهم أوجاع الأرض"؛ بحثا عن أمل جديد وحياة أفضل، وسط مخاوف من نهاية تعددية دينية تتفرد بها الجمهورية. 

وتشير أرقام مركز "الدولية للمعلومات" للدراسات (محلي/مستقل)، إلى أن "2019 كان عاما مفصليا على خط هجرة اللبنانيين الحديثة، حيث بلغ عدد الشباب المهاجر من لبنان 66 ألفا و806 أشخاص، بزيادة تفوق 100 بالمئة عن العام 2018 حين بلغت أعداد هؤلاء 33 ألفا و129 شخصا".

وتتنوع هويات الدول التي يقصدها الشباب بتنوع خلفياتهم الثقافية ومعتقداتهم الدينية، واهتماماتهم المستقبلية، فيما تترك هذه الهجرة تداعيات جدية على الصعيد الديموغرافي اللبناني، خاصة المسيحي منه، لأنها تذكر بموجات الهجرة القديمة التي سلكها المسيحي اللبناني بحثا عن الاستقرار.

موجة ثالثة

وأعد "مرصد الأزمة" التابع للجامعة الأميركية في بيروت، (مركز دراسات يعرف بدقته)، أواخر أغسطس/آب 2021، تقريرا يرصد ما وصفه بـ"موجة الهجرة الثالثة" التي دخلت فيها البلاد، إذ شهدت ارتفاعا ملحوظا في معدلات الهجرة، وكذلك في الساعين إليها، محذرا من عواقبها طويلة الأمد على مصير لبنان.

وحسب تصنيف المرصد، حصلت الموجة الأولى إبان الحرب العالمية الأولى عام 1914، حيث يقدر هجرة 330 ألف شخص من جبل لبنان، الذي يعتبر لبنان القديم حسب وجهة النظر الرسمية للدولة. 

أما الموجة الثانية فقد حدثت خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، حيث تم تقدير أعداد المهاجرين وقتها بحوالي 990 ألف شخص.

ويرى المرصد أن الهجرات الجماعية تشهدها البلدان التي تعيش أزمات اقتصادية عميقة، إذ تشكل الأزمات عوامل ضاغطة على السكان للرحيل بحثا عن أمن وأمان وسبل العيش.

وهو ما ينطبق على لبنان مع تفاقم حدة الأزمة الاقتصادية التي تنعكس على كافة جوانب الحياة، وانهيار قيمة الرواتب بالعملة المحلية، حيث تجاوز سعر صرف الدولار الواحد 20 ألف ليرة لبنانية، في حين أن الحد الأدنى للأجور بات أقل من 30 دولارا في الشهر، مقابل ارتفاع كبير في أسعار السلع والمواد الغذائية تجاوز الـ600 بالمئة.

يضاف إليه كذلك ارتفاع نسب البطالة التي تجاوزت عتبة الـ40 بالمئة، وفقا لتقارير أممية، فيما تجاوز معدل الفقر نصف السكان.

ويعرض المرصد ثلاثة مؤشرات مقلقة في لبنان فيما يتعلق بدخوله موجة هجرة جماعية من المتوقع أن تمتد لسنوات، الأول، ارتفاع فرص الهجرة عند الشباب اللبناني، حيث أشار 77 بالمئة منهم إلى تفكيرهم بالهجرة والسعي إليها، وهذه النسبة هي الأعلى بين كل البلدان العربية، بحسب تقرير "استطلاع رأي الشباب العربي" الصادر عام 2021.

المؤشر الثاني، الهجرة الكثيفة للمتخصصين والمهنيين، خاصة العاملين والعاملات في القطاع الصحي من أطباء وممرضين، وفي القطاع التعليمي من أساتذة جامعيين ومدرسيين بحثا عن ظروف عمل ودخل أفضل.

الثالث، توقع طول أمد الأزمة اللبنانية، فالبنك الدولي يقدر أن لبنان يحتاج، بأحسن الأحوال، إلى 12 عاما ليعود إلى مستويات الناتج المحلي التي سجلت عام 2017، وبأسوأ الأحوال إلى 19 عاما.

تركيا وقبرص

وتتوزع الهجرة اللبنانية على قارات العالم الست، فاللبنانيون الراغبون في الخروج من جحيم بلدهم يبحثون عن البلد الذي يمنحهم ما يفتقدونه في بلدهم الأم، الوظيفة، الاستقرار، الأمان، غير مبالين بأية عوامل أخرى.

وفي هذا الإطار ثمة بلدان تعد وجهة بارزة لموجة الهجرة اللبنانية الأخيرة، تأتي في مقدمتها تركيا.

وفي تقرير أعدته الباحثة فرح منصور، ونشر في صحيفة "المدن" الإلكترونية بتاريخ 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، تشرح فيه أسباب تفضيل اللبنانيين الهجرة إلى تركيا.

واعتبرت الباحثة أن قرار إلغاء تأشيرات السفر بين لبنان وتركيا عام 2010 من أهم العوامل التي دفعت بالشباب للهجرة نحو تركيا، إضافة إلى أنها فتحت بابا أمام الأجانب للاستثمار، ومن ثم الحصول على الإقامة والجنسية التركية للاستقرار، كما أن البيئة الاستثمارية في هذا البلد أكثر جذبا من بلدان أخرى.

وذكرت منصور أسبابا أخرى لا تقل أهمية أيضا تساهم في جذب اللبنانيين إلى تركيا، يأتي في طليعتها انخفاض كلفة المعيشة مقارنة بالبلدان العربية والغربية، من ناحية السكن والمواصلات والطعام وغيرها.

بالإضافة إلى الدافع الديني الذي يجذب أهل السنة في لبنان إلى الهجرة نحو إسطنبول، في المقابل تشكل جزيرة قبرص ملاذا للأثرياء اللبنانيين والميسورين وشطرا واسعا من الطبقة الوسطى. 

من جانبها، لفتت الصحفية إيناس شري إلى أن "اللبنانيين الذين اختاروا الاستقرار في قبرص معظمهم من الميسورين، الذين يمتلكون المال لكنهم لا يستطيعون تأمين احتياجاتهم على اختلافها في لبنان، بسبب فقدانها من الأسواق".

وأوضحت في تقرير عبر موقع "المفكرة القانونية" في 21 أكتوبر/تشرين الأول 2021 أن المدرسة الفرنسية الوحيدة في نيقوسيا لديها اليوم أكثر من 250 تلميذا لبنانيا (لا تزال اللغة الفرنسية هي الأكثر استخداما في المؤسسات التربوية اللبنانية الرسمية والخاصة)، ووجود 700 طلب لتلامذة لبنانيين، أسماء معظمهم على لائحة الانتظار للعام الدراسي المقبل.

ويتحدث سفير قبرص في لبنان، بانيوتس كرياكو عن ارتفاع هائل في الطلب على التأشيرة القبرصية، مشيرا إلى أن الطلب عليها منذ يونيو/حزيران 2021 لغاية منتصف أكتوبر/تشرين الأول يتجاوز الأعداد التي كانت تسجلها سنويا، والتي تتراوح بين 40-60 ألف تأشيرة، هذا عدا عن الأشخاص الذين كانت تأشيراتهم سارية من قبل، ومن يحمل تأشيرة أوروبية "شنغن".

ويذكر رئيس مجلس الأعمال اللبناني – القبرصي، جورج شهوان أن شركته وحدها باعت خلال الأشهر الستة الأخيرة أكثر من 160 شقة للبنانيين، مؤكدا وجود 15 ألف لبناني يملكون شققا في الجزيرة. 

ومن الأسباب المشتركة للهجرة اللبنانية إلى تركيا وقبرص، هو قرب البلدين من لبنان وسهولة الانتقال ما بينهما وبين الوطن الأم، وكما أن تركيا أكثر جذبا للمسلمين، فقبرص أكثر جذبا للمسيحيين.

النزيف المسيحي

إلا أن أرقام المهاجرين إلى قبرص بالتحديد يشكل هاجسا لدى المجتمع المسيحي في لبنان، خاصة الكنيسة المارونية، بسبب ارتفاع نسب الهجرة لدى المسيحيين أكثر بكثير من المسلمين.

ويقدر الأب طوني خضرا، رئيس مؤسسة "لابورا" المعنية برصد مشكلة الفقر والبطالة، خاصة لدى المجتمع المسيحي، أن 230 ألف مواطن غادروا الأراضي اللبنانية خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام 2021 قصدا للهجرة.

وكذلك لتأثير الهجرة على الواقع الديموغرافي للمسيحيين المختل أساسا لصالح المسلمين، حيث يوجد فجوة واضحة وقديمة بين أعداد المسيحيين والمسلمين في لبنان، وتسهم هجرة الشباب المسيحي في تعميقها.

وهذا الواقع دفع بالبطريركية المارونية إلى إطلاق جمعيات تسعى لتثبيت المسيحي في أرضه، وإحدى هذه الجمعيات "حركة الأرض" التي أطلقت عام 2013 من المركز، تحت شعار "تبقى الأرض أرضنا، رمز وجودنا".

كما تم إطلاق مؤسسة "لابورا" عام 2008 للعمل على حث المسيحيين للانخراط في مؤسسات الدولة وأجهزتها، عبر دورات تدريب وتثقيف وتحضير لمباريات الدخول إلى الوظائف الرسمية.

وفي دراسة أجرتها شبكة "الدولية للمعلومات" يظهر أن خوف المسيحيين من الهجرة له ما يبرره، حيث أظهرت الدراسة انخفاض أعدادهم بشكل كبير منذ آخر إحصاء رسمي لعدد السكان عام 1932. 

فبينما كان المسيحيون يشكلون نسبة 58.7 بالمئة من اللبنانيين، مقابل 40 بالمئة من المسلمين انقلب المشهد تماما عام 2018، حيث انخفضت نسبة المسيحيين إلى 30.6 بالمئة وارتفعت نسبة المسلمين إلى 69.4 بالمئة، بحسب "الدولية للمعلومات". 

وهو ما خلصت إليه أيضا إدارة الإحصاء المركزي، وهي مؤسسة رسمية تتبع لرئاسة مجلس الوزراء، في الدراسة التي أعدتها عن السكان في لبنان، ونشرتها أوائل العام 2019.

وفي حديث مع "الاستقلال"، يقول جورج الرطل وهو مسيحي لبناني سافر في أكتوبر/تشرين الأول 2021 مع عائلته إلى العاصمة الفرنسية باريس، إن "الإحصاءات تظهر أن ما يفوق الـ60 بالمئة من الشباب المسيحي يريد الهجرة ويسعى إليها بشكل حثيث، لانسداد أفق الانفراج الداخلي".

ويوضح الرطل أنه قبل 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 كانت نسبة البطالة بشكل عام 39 بالمئة، وفي صفوف الشباب 50 بالمئة، أما اليوم فهي بحدود 45 بالمئة بشكل عام، وتبلغ 60 بالمئة بين الشباب.

ويشدد على أن الإشكالية الأساسية، إن كانت على الصعيد الوطني أو المسيحي، هي غياب إستراتيجية طويلة الأمد، فنحن نتعامل مع الأزمات عند وقوعها، علما بأنه كان يجب أن نحاول التصدي لها قبل نحو 50 عاما.

فيما اعتبر الصحفي جورج حايك أن ما وصل إليه حال لبنان يشجع المسيحيين على الهجرة، فهم لا يستطيعون العيش "في أجواء غير نهضوية"، مشيرا إلى انهيار القطاعات التي كانوا يسيطرون عليها، مثل قطاع المصارف والجامعات والمؤسسات التربوية، وتفكك مؤسسات الدولة.

ولفت في مقالته بموقع "لبنان الكبير" (مستقل) في 11 أكتوبر/تشرين الأول 2021 إلى "هجرة مسيحية غير مسبوقة في عهد الرئيس ميشال عون الذي يعتبر نفسه حامي الوجود المسيحي في لبنان والمشرق بكامله".

وخلص حايك الى أن "لبنان المتميز بالتعددية الدينية والثقافية والحضارية لن يعود كذلك إذا ما فقد الوجود المسيحي فيه، لأنه جوهر التوازن في إطار التعددية، وهم بحاجة إلى رؤية إستراتيجية تعيد التوازن لدورهم الوطني".