بعيدا عن الهيمنة الفرنسية.. كيف بدأت الجزائر رحلة الخروج إلى إفريقيا؟
الأشهر القليلة الماضية، شهدت تنقلات وزيارات لمسؤولين بين عواصم مالي وموريتانيا والنيجر والجزائر، ووعودا بمساعدات واستثمارات جزائرية في المنطقة.
تدفع الحكومة الجزائرية مؤخرا باتجاه تفعيل تجارة المقايضة مع دول الجوار الجنوبية في خطوة تستهدف تثمين آليات التعاون والتمهيد لتغيير البوصلة الاقتصادية نحو الوجهة الإفريقية.
بدأ هذا النشاط أولى خطواته مع دولة مالي بعد سنوات من غلق الحدود البرية، كما يجري دعم النشاط التجاري مع دولة موريتانيا، وأعلنت الجزائر في 30 مارس/آذار 2021، عن تقديم منحة للتجار على كل عملية تصدير نحو إفريقيا.
في المقابل، عاد التوتر ليطبع مجددا العلاقات الجزائرية الفرنسية، بعد أشهر من تقارب لافت بين رئيسي البلدين عبد المجيد تبون، وإيمانويل ماكرون.
وبعد أشهر من التحضير والتنسيق، ودون سابق إنذار، أجل البلدان إلى وقت غير معلوم اجتماع اللجنة المشتركة رفيعة المستوى الذي كان مقررا في الأسبوع الثاني من أبريل/نيسان 2021، في الجزائر، برئاسة رئيسي الوزراء عبد العزيز جراد، ونظيره الفرنسي جان كاستيكس.
"مستوى استثنائي"
العلاقات بين الجزائر والنيجر وصلت إلى "مستوى استثنائي" كما وصفتها مجلة "جون أفريك" الفرنسية، فبعد انتخابه مباشرة تلقى الرئيس الجديد للنيجر محمد بازوم في 30 مارس/ آذار 2021، مكالمة من نظيره الجزائري عبد المجيد تبون، ولو سمحت صحته بذلك، لربما شارك تبون في حفل تنصيب بازوم في 2 أبريل/ نيسان 2021.
حضور رئيس الوزراء عبد العزيز جراد، إلى جانب وزير الخارجية صبري بوقادوم، حفل التنصيب كان دليلا على الأهمية المعطاة للحفاظ على العلاقات الجيدة بين الجزائر ونيامي، واعتبرت خطوة في إستراتيجية الجزائر الجديدة تجاه جيرانها في الساحل.
بعد أسبوع من ذلك، تم إرسال طائرتي شحن تابعتين للقوات الجوية الجزائرية إلى نيامي لتسليم 60 طنا من المساعدات الغذائية، ولم يتوان السفير الجزائري في نيامي علي درويش، الذي حضر تسليم الشحنة، عن التأكيد لوسائل الإعلام النيجيرية على "التضامن" الذي أبدته الجزائر تجاه جارتها في الجنوب، عشية شهر رمضان.
خلف التصريحات الأخوية الكلاسيكية بين الجزائر والنيجر، واجهت العلاقات بين البلدين بعض العقبات خلال فترة حكم الرئيس السابق محمد إيسوفو، وقد ضاعف الأخير على وجه الخصوص الإعلانات المناهضة لاتفاقات الجزائر الموقعة في عام 2015 والتي من المفترض أن تمهد الطريق لحل سياسي في شمال مالي.
أجرى الجيش الجزائري، في 2 أبريل/نيسان 2021، مناورة بالذخيرة الحية في منطقة "عين قزام" الحدودية مع النيجر، بإشراف رئيس الأركان سعيد شنقريحة، وقالت وزارة الدفاع، في بيان، إن المناورة جرت تحت شعار "تحدي تيريرين 2021"، بمشاركة القوات الجوية والبرية، وطائرات مقاتلة ومسيرة.
وخلال السنوات الماضية، حشدت الجزائر آلاف الجنود عبر الشريط الحدودي الجنوبي مع مالي والنيجر وليبيا، لصد ما تقول السلطات إنها محاولات تسلل لعناصر إرهابية وتهريب السلاح.
وتنشط بمنطقة الساحل الإفريقي، خاصة في مالي والنيجر الحدوديتين مع الجزائر، جماعات إرهابية محسوبة على تنظيمي "القاعدة" و"الدولة"، وتعلن السلطات الجزائرية بين الفينة والأخرى، حجز أسلحة وتوقيف مسلحين حاولوا اختراق حدود البلاد.
ملفات إقليمية
من جهته، أدان رئيس حركة "البناء الوطني"، المرشح الرئاسي الإسلامي السابق، عبد القادر بن قرينة "اللوبي الفرنسي"، وتحدث في تجمع شعبي في 9 أبريل/نيسان 2021، عن ضغوط فرنسية على الشعب الجزائري "بملفات إقليمية"، ومن الواضح أن ملف مكافحة الإرهاب في الساحل الإفريقي يتصدر القائمة.
وقالت صحيفة "الخبر" الجزائرية، في 11 أبريل/نيسان 2021، إن فرنسا طلبت من الجزائر "المساعدة في الحرب على الإرهاب شمال مالي"، وهو ما رفضته الجزائر جملة وتفصيلا.
وسبق لوزارة الدفاع الجزائرية، بحسب وكالة "الأناضول"، أن كذبت في فبراير/ شباط 2021، أخبارا راجت على مواقع التواصل الاجتماعي تفيد بإرسال قوات عسكرية إلى منطقة الساحل للقتال إلى جانب قوات مجموعة دول الساحل الخمس ضد الجماعات الإرهابية، تحت مظلة قوات أجنبية (عملية برخان الفرنسية).
ومطلع أغسطس/ آب 2014، أطلقت فرنسا عملية "برخان" العسكرية في مالي، بمشاركة 4500 جندي، بهدف القضاء على الجماعات المسلحة في منطقة الساحل الإفريقي والحد من نفوذها.
وجدد قائد الجيش الجزائري، لرئيس أركان الجيوش الفرنسية فرنسوا لوكوانتر، تمسك الجزائر بلجنة العمليات المشتركة التي تضم النيجر ومالي وموريتانيا، كإطار لتبادل التنسيق والمعلومات لمكافحة الإرهاب في المنطقة، في إشارة إلى رفض التحالف الفرنسي الموازي.
وفي 21 أبريل 2010، تشكلت لجنة العمليات المشتركة التي تضم الجزائر والنيجر ومالي وموريتانيا، بهدف محاربة الإرهاب ومواجهة الخطر المتزايد لتنظيم "القاعدة" في منطقة الساحل والصحراء الإفريقية.
مصالح اقتصادية
يعتبر البعض أن إعادة العلاقات بين الجزائر ونيامي هي مقدمة لاستثمار كبير من قبل الجزائر في المنطقة، ومنذ أشهر رددت السلطة وعودا بإنهاء الأزمة الاقتصادية من خلال تصدير المنتجات الوطنية إلى بلدان الساحل.
النيجر ليس البلد الإفريقي الوحيد الذي يعرف تقاربا مع الجزائر، إذ تراهن الأخيرة على تفعيل تجارة المقايضة مع مالي أيضا، في ظل أزمات متذبذبة مع الشريك الإستراتيجي، فرنسا.
وسجلت أولى عمليات تجارة المقايضة مع دول الجوار باستقبال سلطات ولاية إليزي في أقصى الجنوب الشرقي لأكثر من 100 رأس غنم مقابل تصدير 20 طنا من التمور، لتكون بذلك فاتحة عودة النشاط المذكور بين الجزائر ودولة مالي، بعد سنوات من غلق الحدود البرية بين البلدين بسبب الأوضاع الأمنية وجائحة كورونا.
وأولت الحكومة الجزائرية في مخطط عملها أهمية قصوى لتجارة المقايضة (تبادل البضائع) في خطوة تستهدف النهوض بالحياة الاقتصادية في المناطق الحدودية مع دول الجوار، والتمهيد لتفعيل الوجهة الجنوبية باعتبارها سوقا تقع تحت منافسة شرسة بين القوى الاقتصادية الكبرى.
وتراهن الجزائر على تفعيل مبادلاتها الاقتصادية والتجارية مع دول الجوار في إطار إستراتجية العودة إلى العمق الإفريقي في ظل معوقات التصدير إلى دول الضفة الشمالية لحوض المتوسط، ودخول عدة قوى اقتصادية على خط المنافسة الإفريقية الأمر الذي يهدد المصالح الإستراتجية للجزائر.
أعلنت الحكومة الجزائرية استكمال فتح جميع المعابر الحدودية البرية التي تربطها مع دول الجوار في شمال وجنوب القارة الإفريقية لتعزيز التجارة مع بلدانها، بعد فتح المعابر التي تربطها مع موريتانيا والنيجر.
وقال وزير التجارة الجزائري كمال رزيق، في مؤتمر حول تعزيز التبادل التجاري مع الدول الإفريقية 8 أبريل/نيسان 2021: "الحكومة ستواصل فتح المعابر البرية للسماح بتدفق السلع والبضائع الجزائرية إلى القارة الأفريقية التي تمثل الامتداد الإستراتيجي والاقتصادي للجزائر".
وأضاف: "نحن نتطلع لأن تكون منتجاتنا الوطنية في 54 دولة إفريقية"، مشيرا إلى أن "ترقية المبادلات التجارية بين الدول الإفريقية شغلنا الشاغل، ونطمح لرؤية التجارة مزدهرة ونحن نرافق أي مسعى يهدف إلى تطوير الصادرات وتعزيز التعاون التجاري".
الهيمنة الفرنسية
لم ينف أستاذ العلاقات الدولية، مراد بن قيطة، أن الأزمات المتكررة مع فرنسا دفعت الجزائر للبحث عن شريك جديد قائلا: "الجزائر ومنذ سنوات، وتحديدا منذ بداية الألفية الجديدة، انخرطت فيما يسمى بناء التحالفات والشراكات الإستراتيجية المتنوعة، سواء مع أوروبا أو أميركا، وأيضا بلدان إفريقية، وإن جاء التقارب مع الأخيرة متأخرا نوعا ما".
تبقى الأزمات مع فرنسا محددا مهما جدا لردود الأفعال الجزائرية، خاصة تجاه إفريقيا، إذ تبقى العلاقات مع أميركا وأوروبا راسخة ومتفقا عليها من طرف مختلف النخب في الجزائر، في حين العلاقة مع البلدان الإفريقية وتحديدا دول الساحل، متعلقة بعدد من المتغيرات.
ابن قطية قال لـ"الاستقلال": "هذه البلدان لها علاقات خاصة مع فرنسا، وتعمل الجزائر على عدم استثارة الحضور والنفوذ الفرنسي في تلك البلدان، خصوصا عندما يتعلق الأمر بتعارض القضايا والملفات، وتحديدا ما تعلق منها بالجوانب الأمنية والثقافية".
يرى خبير العلاقات الدولية، أنه من المؤكد أن التوجه الجزائري تجاه هذه البلدان هو خيار إستراتيجي أولا، ثم عامل مهم جدا للمناورة في العلاقة مع فرنسا.
شدد بن قيطة، أن أي توجه مستقل بعيدا عن دائرة الهيمنة الفرنسية على بلدان المنطقة المغاربية وتحديدا الجزائر، يشكل نقطة تحول في العلاقات الثنائية، وبالتالي فأي توجه جزائري نحو تعميق العلاقة مع دول الساحل الإفريقي، يشكل تحديا وتهديدا للمصالح الفرنسية.
لفت الأستاذ الجامعي، إلى أن التقارب الجزائري مع منطقة الساحل يبقى مرهونا بعدد من المعطيات والمتغيرات، وأيضا بمدى تصلب الموقف الفرنسي من هذا التقارب.
أوضح بن قيطة، أن فرنسا التي تعيش مرحلة صعبة في المنطقة على الصعيدين الأمني والسياسي، بالنظر إلى حالة الرفض الشعبي وحتى الرسمي الكبير جدا، الذي بات يعترض سياساتها، هو سبب آخر سيؤدي إلى تأزيم العلاقة مع الجزائر أكثر، في ظل تقارب الأخيرة مع دول الساحل.
أستاذ العلاقات الدولية، أفاد بأن دول الساحل امتداد للأمن القومي الجزائري، لعمق العلاقات التاريخية التي تربطها بها، فكلتاهما فضاء إستراتيجي وحيوي للأخرى.
يعتبر بن قيطة، أن التوجه الجزائري نحو هذه المنطقة وإعادة تفعيل هذا البعد، ولو أنه أتى متأخرا، إلى أنه مثمر وإستراتيجي يجب المراهنة عليه لما للجزائر من روابط حضارية وتاريخية وثقافية وإنسانية واجتماعية واقتصادية وأمنية.
وزاد: "هذه الدول هي فضاء حيوي لدور جزائري يهدف إلى الارتقاء بالوضعية الاقتصادية والاجتماعية للمنطقة، ومجال لتمدد أدوار الجزائر بالقارة الإفريقية وعودتها إلى تفعيل دبلوماسيتها وأدوارها التاريخية".
قال المتحدث: "ينبغي التخطيط إستراتيجيا لهذا الرهان الواقعي، لوضع سياسة جزائرية متوازنة تهدف لاحتواء الأزمات في المنطقة وتطويقها، وأن تقدم نفسها كبديل تنموي يمكنه أن يقدم فرصا لشعوب منطقة الساحل".
وختم متخصص العلاقات الدولية، بالقول: "الجزائر لا يمكنها سوى أن تكون حاضرة في هذه الدول، التي يعتبر أمنها من أمن البلد، وأمن القارة الإفريقية كاملة".
المصادر
- الجزائر وفرنسا.. هل عادت مساعي التطبيع إلى نقطة الصفر؟
- الرئيس تبون يُجري مكالمة هاتفية مع رئيس النيجر
- الجزائر تراهن على تجارة المقايضة للانفتاح على أفريقيا
- رئيس الوزراء الجزائري يشارك في حفل تنصيب رئيس النيجر المنتخب
- الجيش الجزائري يجري مناورة عسكرية على حدود النيجر
- الجزائر ترسل 60 طنا من المساعدات الغذائية إلى النيجر
- الجزائر... منحة للتجار على كل عملية تصدير نحو إفريقيا
- الجزائر تخطط لفتح مزيد من المعابر البرية لزيادة صادراتها إلى أفريقيا