ذكرى فض رابعة.. شهادات تثبت تعمد السيسي إراقة دماء المعتصمين

أحمد يحيى | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"لم يكن هدف المجزرة فض الاعتصام الذي لم يُشكل خطرا خلال شهر ونصف، وإنما إغلاق كل طريق للحل السياسي، الذي كان سيضمن استمرار المسار الديمقراطي، كما أنه استهدف تقديم نموذج قاس للشعب يكسر إرادته ويُنهي كل طموح للإصلاح والتغيير".

هذا جزء من شهادة السياسي المصري محمد محسوب، الذي شغل منصب وزير الدولة للشؤون القانونية، خلال عهد الرئيس محمد مرسي، عن مجزرة فض اعتصام رابعة العدوية في 14 أغسطس/ آب 2013. 

وفي حين يحاول النظام القائم بقيادة عبدالفتاح السيسي، تحريف كواليس ما قبل الفض، تأتي الشهادات تباعا أنه كان يمكن تجنب إراقة دماء آلاف المصريين، عن طريق المفاوضات والحلول السلمية، ولكن جنرالات الجيش آنذاك، كانت تتجه إلى إفشال الحلول التفاوضية، والوصول إلى الفض الدموي بكل الطرق الممكنة.

وتحدث تقرير وزارة الصحة المصرية عن 670 قتيلا ونحو 4400 مصاب. وأعلن المسؤولون عن الطب الشرعي بالقاهرة -في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2013- أن إجمالي عدد القتلى بلغ 377 قتيلا، من بينهم 31 جثة مجهولة الهوية.

وذكر تقرير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" أن "قوات الأمن المصرية قتلت أكثر من ألف على الأرجح"، بينما قال المستشفى الميداني الذي كان قائما في رابعة حينها: إن الهجوم خلف أكثر من 200 قتيل وأكثر من 4500 مصاب.

ونبه نبيل فهمي (عضو سابق بالمجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر) إلى صعوبة الجزم بإحصائية دقيقة لضحايا الفض "في ظل امتناع عدد من الأهالي عن إيصال الجثث للمشرحة أو المستشفيات، وفي ظل الحديث عن حرق وتجريف جثث أخرى".

شهادة البرادعي

في يوم 14 أغسطس/ آب 2013، وفي خضم المذبحة الدموية التي ارتكبتها الأجهزة الأمنية المصرية بقيادة وزير الدفاع (آنذاك) عبدالفتاح السيسي، ضد المعتصمين السلميين في ميادين القاهرة والجيزة، تقدم الدكتور محمد البرادعي، الذي كان يشغل حينها منصب نائب رئيس الجمهورية (بعد الانقلاب) بالاستقالة للشؤون الخارجية. 

وأخطر مما أورد البرادعي في نص الاستقالة: "كنت أرى أن هناك بدائل سلمية لفض هذا الاشتباك المجتمعي وكانت هناك حلول مطروحة ومقبولة لبدايات تقودنا إلي التوافق الوطني، ولكن الأمور سارت إلى ما سارت إليه. ومن واقع التجارب المماثلة فإن المصالحة ستأتي في النهاية ولكن بعد تكبدنا ثمنا غاليا كان من الممكن - في رأيي - تجنبه".

بعدها غادر السياسي المصري البلاد، مستقرا في منزله بالعاصمة النمساوية فيينا، ليصبح عدوا صريحا للنظام، وفي مرمى هجوم وسائل الإعلام الموالية للسيسي، خاصة أنه بات معارضا صريحا، ودائم الهجوم على السلطة الحاكمة وسياستها الدموية.

وفي 15 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، أدلى البرادعي في بيان مفصل، بوقائع جديدة خاصة بمفاوضات رابعة، كشف فيها عن تلقيه تهديدا من أجهزة سيادية (لم يسمها)، بسبب محاولاته التوصل لحل سلمي لفض اعتصامي "رابعة العدوية" و"النهضة".

وقال: "عندما كنت نائبا لرئيس الجمهورية، اتهمني كاتب معروف (لم يسمه)، فى مقال مطول بجريدة الأخبار الحكومية، بأننى رجل خطر على الشعب والدولة، وشن فى مساء نفس اليوم هجوما شرسا ضدي فى التلفزيون الحكومي". 

وأضاف في شهادته عن فترة ما قبل فض اعتصام رابعة: "أعقب ذلك المقال والهجوم رسالة من أجهزة سيادية، فى اليوم التالي، تخبرني أن ذلك كان مجرد تحذير، وأنها ستدمرني إذا استمررت فى محاولات العمل للتوصل إلى فض سلمي للاعتصامات فى رابعة وغيرها أو صيغة للمصالحة الوطنية".

وأوضح أن معارضته لاستخدام القوة في فض الاعتصامين "ليس فقط لأسباب أخلاقية، وإنما كذلك لوجود حلول سياسية شبه متفق عليها، كان يمكن أن تنقذ البلاد من الإنجراف إلى دائرة مفرغة من العنف والانقسام".

نوايا القتل

لم تكن شهادة البرادعي وحده، المدللة على نية السيسي والسلطة القائمة، للاستخدام المفرط للقوة في فض الاعتصامات السلمية، ووأد أي حل سياسي يمكن طرحه، في ظل حالة الاستقطابات القائمة آنذاك.

خاصة وأن البرادعي تم تعيينه نائبا لرئيس الجمهورية المؤقت عدلي منصور، صبيحة يوم مذبحة الحرس الجمهوري، التي راح ضحيتها قرابة 50 معتصما برصاص الجيش في فجر 8 يوليو/ تموز 2013، وهي أول مجزرة ترتكبها الأجهزة الأمنية في وقت مبكر من الانقلاب.

أما السيسي فكان مستبقا للأحداث، مغلقا أبواب التفاوض وإمكانية الحل. وظهر ذلك عندما دعا لمواجهة أنصار الرئيس المنتخب محمد مرسي، وذلك يوم 24 يوليو/تموز 2013، حيث طلب النزول إلى الميادين يوم الجمعة 26 يوليو/ تموز 2013، لتفويض القوات المسلحة لمواجهة العنف والإرهاب المحتمل بحسب زعمه.

كان ذلك كما يرى مراقبون، سلوك رجل عازم على استخدام القوة، وإشاعة القتل بين خصومه، وهو ما حدث بعد ساعات قليلة من التفويض، في مجزرة المنصة أو أحداث النصب التذكاري، والتي استخدمت خلالها قوات الشرطة، بمعاونة مجموعات من البلطجية الرصاص الحي والخرطوش وقنابل الغاز المسيلة للدموع وزجاجات المولوتوف.

ونقل موقع"ويكي ثورة"، أن المستشفى الميداني استقبل في تلك الليلة أكثر من 50 حالة قنص في الرأس، و150 حالة إصابات مميتة ونزيف حاد، و50 حالة ماتت في الطريق إلى المستشفيات خارج الميدان، و4000 حالة إصابة ما بين كدمات وخرطوش واختناقات وجروح قطعية وعميقة ورصاص حي وكسور.

وكانت هذه المذابح الدموية، رغم فداحتها، ما هي إلا نموذج مصغر ليوم الفض الأكبر الذي وقع يوم 14 أغسطس/ آب 2013، ورسمت خريطة لمخطط النظام الحاكم لوأد الحراك الثوري، ومعاقبة أولئك الذين عارضوا الانقلاب العسكري، دون الرغبة في التفاوض أو الوصول لحل سلمي.

اعتقالات مبكرة

قطع باب التفاوض، وجرى التعامل بقسوة مع المعارضين والنظام الشرعي، بعد ساعات من بيان الانقلاب العسكري الذي ألقاه السيسي عشية 3 يوليو/ تموز 2013، حيث تم على الفور قطع جميع وسائل الإعلام الموالية للرئيس محمد مرسي ومنها القنوات الإسلامية، بالإضافة إلى قناة (مصر 25) القناة الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين حينها، كما ألقت قوات الشرطة العسكرية القبض على بعض المذيعين والإداريين بتلك القنوات. 

ثم اقتحمت أجهزة الأمن المصرية، باقي القنوات الدولية لحجب أي أخبار لا ترد عن نظام الانقلابي، فأغلقوا مكاتب وأستوديوهات قنوات "الجزيرة مباشر مصر"، و"الجزيرة الإخبارية"، و"الجزيرة الإنجليزية"، وأجبرت القوة البوليسية التي سيطرت على القنوات، العاملين والضيوف في"الجزيرة مباشر مصر" على التوقف عن الكلام وإيقاف بث نقل صورة ميدان التحرير.

ثم انقطع بث جميع القنوات المعارضة على القمر الصناعي المصري "نايل سات". 

ومثلت إحدى دلالات قطع السيسي خطوط الاتصال والمفاوضات مع الطرف الآخر، إقدامه على احتجاز القيادات والصفوف الأولى منهم.

وباشرت السلطات في الساعات الأولى من الانقلاب حملة اعتقالات في صفوف جماعة الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى احتجاز الرئيس محمد مرسي في القصر الرئاسي مع بقية فريقه بعد أن حدد الجيش المهلة، ثم عزل عن الفريق ونقل إلى مقر وزارة الدفاع بعد انتهائها. 

وكذلك اعتقل رئيس حزب الحرية والعدالة سعد الكتاتني والنائب الأول للمرشد العام لجماعة الإخوان خيرت الشاطر، ونائبه رشاد البيومي، والمرشد العام السابق مهدي عاكف، وأمين عام حزب الحرية والعدالة بالجيزة حلمي الجزار، كما صدرت أوامر باعتقال 300 عضو من كبار قيادات الجماعة.

واعتقلت السلطات كذلك إسلاميين آخرين بينهم الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل.

تلك الإجراءات طرحت سؤالا أساسيا، عن كيفية إمكانية تفاوض السيسي والقيادات العسكرية، مع الآخرين؟ وقد وضع معظمهم في السجون، وتمت مطاردة القسم المتبقي؟ 

سر الغضب

الطريق الذي مهده السيسي للوصول إلى المذبحة، لم يكن خاليا من وجود أطراف أخرى غير البرادعي تسعى إلى حل الأزمة.

وتواتر حديث بعض المقربين من دوائر الحكم حينها، عن اتصالات واجتماعات كانت تتم بين ممثلين لجماعة "الإخوان المسلمين"، والبرادعي، بواسطة شيخ الأزهر أحمد الطيب، لإيجاد حل لأزمة الاعتصام من دون الوصول إلى عملية الفض بالقوة، في وقت لم يفضل السيسي ذلك الخيار.

ولعل هذا ما أغضب شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب، فعلى النقيض من كافة مؤسسات الدولة، استنكر "الطيب" فض الاعتصام، داعيا جميع الأطراف لضبط النفس وحرمة الدماء.

ثم أعلن الإمام الأكبر في بيان متلفز، أنه لم يكن يعلم بإجراءات فض الاعتصام إلا من خلال وسائل الإعلام صباح اليوم نفسه، مطالبا الجميع بعدم إقحام الأزهر في الصراع السياسي.

الطيب عبر عن أسفه وحزنه إزاء وقوع عدد من الضحايا وترحم عليهم وعزى أسرهم، مؤكدا أن استخدام العنف لا يكون أبدا بديلا عن الحلول السلمية.

بعد هذا البيان، توجه الطيب إلى مسقط رأسه في مدينة القرنة بالأقصر (جنوبا)، ووقتها قال البعض: إن "شيخ الأزهر آثر أن يدخل في خلوة بعيدا عن القاهرة بعد فض الاعتصام"، وتأثرا بما حدث من مجزرة دموية غير مسبوقة في تاريخ البلاد.

ولعل هذا الموقف من شيخ الأزهر، أحد الأسباب الرئيسية التي فجرت الخلاف بينه وبين السيسي، وتسببت في هجوم حاد ومتكرر عليه من قبل الأذرع الإعلامية للنظام. 

قطع السبل

مفاوضات ما قبل فض رابعة، لم تتوقف على المحاولات الداخلية فقط من بعض الأطراف، بل سعت شخصيات دولية إلى تجاوز الأزمة.

ففي 15 يوليو/تموز 2013 زار نائب وزيرة الخارجية الأميركي وليام بيرنز القاهرة، وهي أعلى رتبة تزور مصر منذ عزل الرئيس محمد مرسي، واجتمع بممثلين من الحكومة المؤقتة، ونقل رسائل من البيت الأبيض إلى النظام القائم، بضرورة تجاوز الوضع بصورة سلمية وعدم الانزلاق إلى العنف.

وجاءت الحادثة الأبرز من قبل مسؤول خارجي في يوم 30 يوليو/تموز 2013، عندما التقت كاثرين آشتون مسؤولة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، مع الرئيس محمد مرسي في مكان احتجازه، حيث حاولت التوسط للخروج من الأزمة، وتخفيف وتيرة اعتصام رابعة العدوية.

وفي إطار جولة المفاوضات، فوجئ الرأي العام المصري والعالمي يوم 31 يوليو/تموز 2013، في ثان يوم من لقاء آشتون والرئيس مرسي، بأن مجلس الوزراء يقوم بتفويض وزير الداخلية بإعداد الخطط اللازمة لفض اعتصامي رابعة والنهضة، الذي وصفه بغير المقبول.

وقال المجلس إنه سيتخذ كل الإجراءات اللازمة للتصدي لهذا الخطر ووضع حد له، وهو ما تسبب في ازدياد حالة الغضب، والاتجاه بقوة نحو العنف من قبل الأجهزة الامنية.

شهادة محسوب

كان الدكتور محمد محسوب، الذي شغل منصب وزير الدولة للشؤون القانونية والمجالس النيابية في حكومة هشام قنديل، إبان حكم الرئيس محمد مرسي، من الشاهدين على كواليس زيارة مسؤولة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي كاثرين آشتون إلى القاهرة.

وفي 16 أغسطس/ آب 2016، أشار محسوب إلى أنه "كان طرفا في لقاء مع ممثلة السياسة الخارجية والأمنية السابقة للاتحاد الأوروبي، كاثرين آشتون، في 29 تموز/ يوليو 2013، ضمن وفد ضم رئيس الوزراء السابق الدكتور هشام قنديل وآخرين".

وأكد محسوب أن "الحل الوحيد الذي جرى طرحه هو أن يفوض الدكتور مرسي رئيسا للوزراء، وفقا للدستور، يدير مرحلة تجري فيها انتخابات مع الاحتفاظ بالدستور وعودة الجيش لثكناته، وتساءلت آشتون عن موقف الإخوان، فأكد لها الدكتور محمد علي بشر أنه يمثل الإخوان في اللقاء، وأنه يقبله".

وقال: "كان من ضمن المقترح الإفراج عن المعتقلين والقيادات، ليكونوا شركاء في الحل، وإنهاء الحملات الإعلامية التي تبيح دماء المعتصمين، وتطالب فض الاعتصامات السلمية بقوة السلاح، وقدمنا دعوة علنية لوسائل الإعلام ولهيئات المجتمع المدني والأحزاب للذهاب لأماكن الاعتصامات للتأكد من خلوها من أي سلاح".

وأضاف: "هذا الحل هو نفسه الذي أشار له الدكتور محمد البرادعي وقبله، لكنه رفض أن يُبشر به الشعب المصري في مؤتمره الصحفي مع آشتون، ما دعاها للانسحاب، وتفسير ذلك أن السيسي لم يرض عن ذلك الحل". 

وشدد محسوب في شهادته أن "السيسي طلب من البرادعي تأجيل الإعلان عن الحل متذرعا برفض غالبية ضباط الجيش، وأنه يحتاج وقتا لإقناعهم، واستغل الانقلاب الوقت في التجهيز والإعداد للمجزرة التي ستقطع كل تواصل، وتُغلق كل باب للحلول السياسية، وتضع البلاد أمام انقسام مجتمعي تاريخي وكارثة وطنية، لا سابق لها".

واختتم الوزير المصري السابق حديثه: "لم يكن هدف المجزرة فض الاعتصام الذي لم يُشكل خطرا خلال شهر ونصف، وإنما إغلاق كل طريق للحل السياسي، الذي كان سيضمن استمرار المسار الديمقراطي، كما أنه استهدف تقديم نموذج قاس للشعب يكسر إرادته ويُنهي كل طموح للإصلاح والتغيير".