اختفاء حميدتي وسط الحرب السودانية وانتصارات الجيش.. مناورة أم هروب؟

داود علي | منذ شهرين

12

طباعة

مشاركة

بينما تشتعل المعارك في السودان بين الجيش ومليشيا الدعم السريع، يطفو على السطح سؤال يحير الجميع، أين يقيم قائد تلك المليشيا محمد حمدان دقلو “حميدتي؟"

الرجل الذي كان يوما ما يملأ المشهد السياسي والعسكري السوداني صخبا، ويقود قواته بقبضة من حديد، وكاد أن يسيطر على العاصمة الخرطوم، واتخذ فيها مقرا ثابتا إبان اندلاع الحرب، اختفى فجأة من الواجهة، على وقع خسائر قواته في الفترة الأخيرة. 

ومع غياب حضوره الميداني ظهرت مجموعة من الأسئلة من قبيل: هل هو انسحاب تكتيكي وإعادة تموضع؟ أم أنه ضحية لصراعات داخلية؟ أم أن هناك يدا خفية أسقطته من المعادلة؟ وما تداعيات تلك الحالة على قواته التي مازالت تخوض القتال في أماكن مختلفة ضد الجيش؟

ويخوض الجيش و"الدعم السريع" منذ منتصف أبريل/ نيسان 2023 حربا خلّفت أكثر من 20 ألف قتيل ونحو 14 مليون نازح ولاجئ، وفق الأمم المتحدة والسلطات المحلية، في حين قدّر بحث لجامعات أميركية عدد القتلى بنحو 130 ألفا.

وتتصاعد دعوات أممية ودولية لإنهاء الحرب بما يجنب السودان كارثة إنسانية بدأت تدفع ملايين الأشخاص إلى المجاعة والموت جراء نقص الغذاء بسبب القتال الذي امتد إلى 13 ولاية من أصل 18.

اختفاء حميدتي

وفي آخر ظهور له، أقر “حميدتي” في 31 يناير/ كانون الثاني 2025، بخسارة قواته مناطق لصالح الجيش السوداني في العاصمة الخرطوم.

ودعا حميدتي قواته في فيديو مسجل إلى عدم الالتفات إلى المواقع التي استعادها الجيش وسيطر عليها أخيرا، مضيفا أن قواته قادرة على طرد الجيش من الخرطوم مرة أخرى كما فعلت من قبل، على حد قوله.

وقال: "إلى كل القوات في كل المحاور، يجب عدم التفكير فيما أخذه الجيش منا في القيادة (وسط الخرطوم) وسلاح الإشارة (بمدينة بحري) وبلدة الجيلي (شمال الخرطوم) ومدينة ود مدني (عاصمة ولاية الجزيرة)".

من جانبها، تحدثت وسائل إعلام سودانية محلية، وأخرى عربية منها "العربية" و"الحدث" السعوديتين في 9 فبراير/ شباط 2025، أنه بدا لافتا عدم ظهور “حميدتي” علنا، منذ أشهر، ما يثير تكهنات حول مكان وجوده.

خاصة أن غيابه حضوريا في هذا التوقيت العصيب أدى إلى إحباط معنويات مقاتليه، الذين انسحب المئات منهم من العاصمة الخرطوم باتجاه منازلهم في دارفور، وفقا لمسؤولين ونشطاء سودانيين.

بدورها، ذكرت قناة "العربية" أن من يتولى قيادة قوات الدعم السريع المتقهقرة، نائب حميدتي وشقيقه الأكبر عبد الرحيم حمدان دقلو. 

وعن تداعيات اختفاء حميدتي، تحدث مقاتل سابق بالدعم السريع يعيش حاليا في المنفى بأوغندا لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، أن معظم مقاتلي قوات الدعم السريع، يشعرون أن حميدتي تخلى عنهم. 

وفي 12 فبراير، استرد الجيش السوداني معظم المدن والأحياء في الخرطوم، والتي كانت حتي وقت قريب تحت قبضة المليشيا، مثل مصفاة الجيلي، ومنطقة أبو قوتة ومناطق بشرق النيل وكافوري.

كما قصف الجيش بالمسيرات مواقع الدعم السريع في أحياء شرق الخرطوم، في ظل استمرار الهجوم الذي شنه منذ بضعة أسابيع لبسط سيطرته على كامل العاصمة بمدنها الثلاث (بحري وأم درمان والخرطوم عموم). 

وأوضح السياسي السوداني، الدكتور عبد العظيم عوض، في مقالة لصحيفة "الأصداء السودانية" أن اختفاء حميدتي يرجع إلى الهزائم السريعة والمتلاحقة التي ظل يتلقاها جيشه المندحر، وسط تهليل وفرح شعبي شمل كل السودانيين.

وتابع أنه "بالقدر ذاته كان السخط والكراهية له ولظهيره السياسي من معظم فئات الشعب السوداني الذي كان يحلم بحكمه والتحكم فيه بعد أن يجلب لهم ديمقراطية الوهم، بئس الحلم والخيال".

رواية مغايرة

ومع ذلك فإن غياب حميدتي فتح بابا لشائعات كثيرة وصلت إلى التشكيك في حياته وأنه ربما قتل، وهي رواية أثبت كذبها حيث إن الصور التي انتشرت لمقبرته من قبل حسابات إلكترونية، ثبت أنها قديمة ومفبركة. 

لكن إعلام الدعم السريع وبعض المواقع التابعة للإمارات مثل "إندبندنت" العربية، ردت بروايات مختلفة عن غياب حميدتي. 

واستشهدت تلك المواقع بأن غياب حميدتي حاليا ليس الأول، فسبق أن حدث غياب مماثل طوال الأشهر الأولى من الحرب.

وحينها ظلت وسائل الإعلام مشغولة بتجدد الخبر ومحاولات إثباته من تيارات داعمة للجيش، ونفيه من أخرى مؤيدة لـ"الدعم السريع". 

وقتها تصاعد الجدل في شأن مصير حميدتي الذي بات يكتفي بتسجيلات صوتية ومصورة، بعد أن كان يحرص على الظهور المتكرر قبل الحرب.

فمثلا، خلال الفترة التي قضاها في منصب نائب رئيس مجلس السيادة كان حضوره طاغيا، حتى على رئيس المجلس وقائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان. 

إضافة إلى تحركاته الداخلية التي شملت معظم أقاليم السودان، في زيارات رسمية ولقاءات جماهيرية، كانت له جولات إقليمية ودولية، حتى تنبأ بعضهم بأنه يعد نفسه لدور الرئيس القادم، لا سيما أنه كان يرتدي أحيانا (البدلة) المدنية بدلا من الزي العسكري المعروف به.

أين حميدتي؟ 

وفي ظل تلك التساؤلات والفرضيات، كان هناك سؤال آخر ملح يطرح نفسه، إذا كان حميدتي غائبا ولم يمسه سوء، فأين يمكن أن يوجد؟ 

تحدثت قناة "ليبيا الأحرار" الليبية المناهضة للجنرال الانقلابي خليفة حفتر، عن إجابة لهذا السؤال في 5 فبراير 2025، عندما أشارت إلى سعي "حميدتي" لتشكيل حكومة موازية في الغرب توازي حكومة الخرطوم.

في مسعى يشبه إلى حد كبير الوضع الليبي، حيث تنقسم البلاد بين الجنرال خليفة حفتر شرقا وحكومة الوحدة غربا.

وذكرت أن سير المعركة الكبيرة بين الجيش والدعم السريع، يتجه غربا نحو إقليم دارفور، ما يجعل من الفكرة أقرب للواقع.

تحديدا بعد الهزائم المتتالية في الخرطوم وأم درمان، موضحة أن الغرب يمثل حاضنة شعبية للدعم السريع؛ لأن حميدتي من تلك المنطقة، وله نفوذ قبلي داخلها منذ أيام مليشيا الجنجويد.

وفي نهاية يناير/ كانون الثاني 2025، كشفت صحيفة "سودان تربيون" أن قوات الدعم السريع بدأت في نقل معدات ثقيلة وأسلحة نوعية من قاعدة السارة، الواقعة على الحدود السودانية التشادية، إلى إقليم دارفور.

وهو ما جاء بالتوازي مع إعلان ياسر العطا، مساعد قائد الجيش السوداني، أن 25 بالمئة من قوات الدعم السريع هم من المرتزقة القادمين من ليبيا، بالإضافة إلى عناصر من تشاد ودول أخرى، وأشار العطا إلى أن هذه القوات تتلقى دعما مباشرا حاليا من خليفة حفتر، بما في ذلك الأسلحة والعتاد.

وفي ديسمبر/ كانون الأول 2024، كشفت تقارير عن هروب جنود من قوات "الدعم السريع"، إلى مدن ليبية تقع تحت سيطرة خليفة حفتر.

وبالتوازي أكدت القوة المشتركة السودانية "أنها تمكنت من صد هجمات مرتزقة ومقاتلي الجنجويد، ما دفع إلى فرار بعضهم إلى الأراضي الليبية.

وأكد بيان القوة المشتركة أن "دولة الإمارات كانت تحضر منذ شهور في شرق ليبيا لشن مثل هذه العمليات العسكرية، من أجل إنقاذ قوات "حميدتي"، لكن تم إفشال هذه المحاولة اليائسة".

“في أسوأ حالتهم”

وتفاعلا مع هذه التكهنات، كشف الصحفي السوداني محمد نصر، أنه على تواصل مع كثير من المصادر المقربة من الدعم السريع، التي ذكرت له أن حميدتي يتنقل ما بين مسقط رأسه بمدينة "الضعين"، عاصمة ولاية شرق دارفور، التي تعد مركز قبيلته "الرزيقات"، ومناطق أخرى على الحدود ما بين ليبيا وتشاد، تحسبا لاستهداف الجيش. 

وفي تصريحات لـ"الاستقلال"، قال نصر، إن حميدتي ليس رجلا سهلا، وليس من السهل إلقاء القبض عليه.

وأضاف أنه “يعرف كيف يناور ويتحرك بطريقة تجعله بعيدا عن أعين خصومه، وهذه واحدة من التكتيكات التي جعلته حتى الآن خارج دائرة الاستهداف المباشر”.

ومضى نصر يقول: “حميدتي ليس موجودا في مكان ثابت، بالعكس، في حركة مستمرة بين مسقط رأسه في الضعين وبين المناطق الحدودية مع ليبيا وتشاد، وهذا أسلوب محسوب كي يصعب على الجيش تحديد مكانه وضربه”. 

فهذ المنطقة ذاتها لها خصوصية بالنسبة إليه؛ لأنه يمتلك نفوذا فيها، وعلاقات قوية مع المجموعات القبلية والجهات الخارجية التي من الممكن أن تساعده في التخفي والحماية، بحسب الصحفي السوداني.

وقال: حميدتي يمتلك جيشا ضخما، وقبائل، ومرتزقة، وعربات مدرعة، وذخائر بكميات كبيرة، تجعل من الصعب أن يتلاشى بين يوم وليلة. لكن مع ذلك، يمكن أن يتم تحجيمه وضرب خطوط إمداده كي تقل قوته تدريجيا. 

ولفت إلى أن “الحسم السريع في مثل هذه الحروب صعب، فحتى لو استطاع الجيش أن يقتل حميدتي، الدعم السريع لن ينتهي بين يوم وليلة، فهم يمتلكون قيادات أخرى جاهزة للاستلام بدلا منه، على رأسهم أخوه عبد الرحيم”. 

وشدد على أن “هذه المليشيا قائمة على شبكة قيادية ولا تعتمد على رجل واحد، وهذا يجعل القضاء عليها بشكل نهائي بحاجة لخطة طويلة النفَس وتكتيكات مختلفة، خاصة أن دعمها الأساسي يأتي من الإمارات، التي لديها مشروع محدد لتقسيم السودان، وأهداف خبيثة لاستنزاف ثرواته من الذهب والمعادن”.

ومضى يقول: “المعركة ضد الدعم السريع ليست معركة سهلة، وحميدتي يعرف كيف يلعب لعبته. وطالما لديه ملاذات آمنة ودعم إقليمي وقوة عسكرية معتبرة، سيكون من الصعب إنهاء وجوده في وقت قريب”. 

لكن في النهاية، الحرب لن تستمر للأبد، والتطورات القادمة سوف توضح كيف سيكون مستقبل الدعم السريع والقيادات المرتبطة به، وهذا لا ينفي أنهم حاليا في أسوأ أيامهم ومراحلهم، وكان هذا في حد ذاته هدفا بعيد المنال، لكن استطاع السودان جيشا وشعبا أن يصل إليه، يختم نصر.