اقتطاع الرواتب وتقليص العمل.. أزمة سلطة عباس المالية إلى أين؟

خالد كريزم | منذ ٨ ساعات

12

طباعة

مشاركة

تواجه السلطة الفلسطينية أسوأ أزمة مالية منذ تأسيسها عام 1994، ما دفعها لاتخاذ إجراءات غير عادية تمثلت في تقليص عدد أيام دوام الموظفين العموميين والتأخر في صرف رواتبهم.

ودخلت السلطة مرحلة صعبة من التقشف على إثر سياسات إسرائيلية عقابية بالتزامن مع مواصلة تل أبيب عدوانها المدمر على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

تبعات الأزمة

ففي 29 يوليو/تموز 2025، صرفت الحكومة الفلسطينية في رام الله رواتب بنسبة 60 بالمئة للموظفين الذي يتقاضون أقل من 3000 شيكل (1 دولار = 3.41 شيكلا).

ولكن المفاجأة أن هذا الراتب يعود لشهر مايو/أيار من نفس العام؛ إذ تمر الحكومة بأزمة مالية من جراء حجب إسرائيل عائدات الضرائب التي تجبيها لصالح السلطة.

وأكدت وزارة المالية أن بقية المستحقات القائمة حتى تاريخه هي ذمة لصالح الموظفين (يصل عددهم الكلي إلى 153 ألفا)، وسيتم صرفها عندما تسمح الإمكانيات بذلك.

وفي 4 يونيو/حزيران فقط، صرفت السلطة الدفعة الثانية والأخيرة من رواتب شهر أبريل/نيسان واحتسبتها على أساس 70 بالمئة.

وبدأت السلطة اقتطاع نسبة من رواتب موظفيها منذ مطلع العام 2024 بسبب ما تقول إنها أزمة مالية تمر بها، نتيجة تأخر المساعدات المالية الخارجية، واقتطاع إسرائيل جزءا من أموال المقاصة الضريبية.

وهي أموال ضرائب عن الواردات إلى السوق الفلسطيني تجيبها إسرائيل في المنافذ التي تسيطر عليها ويفترض أن تحولها للسلطة الفلسطينية.

وفي 17 يوليو، عقدت الحكومة جلسة طارئة لبحث “التداعيات الخطيرة لاستمرار احتجاز أموال المقاصة”، أكدت خلالها أن “القطاعات الحيوية مهددة بالتوقف”.

وقالت في بيان صدر بعد الاجتماع: إن “استمرار هذا الوضع وعجز الحكومة عن الإيفاء بالتزاماتها، قد يدفعنا لاتخاذ قرار بإيقاف مؤقت لعمل بعض الدوائر الرسمية وتقليص حادِ في دوام الموظفين".

وأكدت أن “قيمة الأموال المحتجزة باتت تفوق 8.2 مليارات شيكل، بالإضافة إلى مقاصة الشهرين الماضيين بحيث يصل إجمالي المبلغ المحتجز إلى حوالي 9.1 مليارات شيكل” (2.7 مليار دولار أميركي).

ودشنت النقابات المحلية حراكات احتجاجية وقلصت عدد أيام دوامها بسبب عدم قدرة الموظفين على تدبير أمور معيشتهم ما اضطر الحكومة إلى الإعلان عن التقليص رسميا في مؤسساتها من 5 إلى 3 أيام.

وأوضحت الحكومة في 19 يوليو أن "التقليص الحاد في دوام الموظفين يأتي لتخفيف أعباء التنقل مع ضمان الخدمات الأساسية وحماية مؤسساتنا الوطنية".

وذكر مدير مركز الاتصال الحكومي محمد أبو الرب أن الحكومة ومنذ تسلمها مهامها، اتخذت أكثر من 60 خطوة إصلاحية مرتبطة بترشيد النفقات ووقف غير الأساسية منها وتوجيه الموارد المالية تجاه القطاعات الحيوية.

وقالت موظفة في إحدى الهيئات الحكومية لـ"الاستقلال": إن “الرواتب لم تنتظم منذ شهور طويلة ما أثر على حياتنا وجعلنا نعيش في حالة يرثى لها”.

وأوضحت الموظفة التي رفضت الكشف عن اسمها خوفا من مواجهة ضرر وظيفي، أن “الاقتطاع في الراتب أدخلنا في حالة ديون ودفعنا للاقتراض من أجل أداء التزاماتنا الشهرية”.

وواصلت القول: “وصلني أمر بإخلاء المنزل الذي أقطن فيه بالإيجار مع عائلتي لعدم قدرتي على دفع الإيجار منذ عام ونصف العام، ما سيضطرني أنا وزوجي وطفلينا إلى الانتقال لبيت العائلة".

وذكرت أن السلطة لا تقيم الاقتطاع بحسب احتياج الموظف ووضعه المادي وقيمة راتبه، مؤكدة أن الأزمة أصابت الموظفين عموما بالشلل وأثرت على الوضع الاقتصادي بالضفة.

أزمة داخلية

لكن على الرغم من أن الأزمة مفتعلة من قبل إسرائيل، تحدث رجل الاقتصاد والأعمال الفلسطيني سمير حليلة عن أسباب أخرى تشير إلى سوء إدارة الأموال العامة.

وقال في مقال نشره خلال يوليو 2025، إن “المساعدات الدولية لميزانية السلطة تراجعت بشكل كبير في العقد الأخير من حوالي ملياري دولار سنويا إلى ما يقارب 400 مليون دولار”.

واستطاعت السلطة عبر حكوماتها المتتابعة أن ترفع وتحسن إيراداتها بشكل كبير ولكن دون تمكنها من تغطية العجز السنوي المتراكم، ولذلك لجأت للاقتراض من مصادر محلية كالبنوك وهيئة التقاعد والقطاع الخاص، وفق تقديره.

وأوضح الاقتصادي الفلسطيني أن الدين العام وصل في نهاية العام 2024 ليصبح 11.8 مليار دولار، أي 85.7 بالمئة؜ من الناتج المحلي الاجمالي.

وأضاف سببا مهما يتعلق بمعدل رواتب موظفي السلطة والذي يتراوح حول 14 بالمئة؜ من الناتج المحلي بينما تتراوح معدلات دول المنطقة حول 11 بالمئة.

واستدرك أن النقطة الأكثر أهمية في تكلفة الرواتب لم تكن زيادة عدد الموظفين، بل الزيادة الهائلة المستمرة في العلاوات والإضافات على الراتب التي يتلقونها دون ربطها بأداء مهني أو دور وظيفي، حيث لا تنعكس الزيادات على الأداء الحكومي المتراجع.

ولفت حليلة إلى أن نفقات السلطة الكبيرة لم تستطع خلق نمو مستدام أو استثمارات وفرص عمل جديدة، وفق الكاتب. 

ورأى أن معالجة كل ما ذكره لن يحل الأزمة بالكامل، و"لكنها خطوات إصلاحية متوسطة المدى تمنع وقوعنا في هاوية سحيقة إذا استمرت الحكومة في تسيير أعمالها بالدفع الذاتي".

هذا المقال أثار غضبا داخل أروقة السلطة ودفع بسام زكارنة رئيس نقابة العاملين في الوظيفه العمومية وعضو المجلس الثوري لحركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح إلى الرد.

وقال زكارنة في مقال مطول: إن الحديث عن “علاوات تُمنح بلا مبرر” غير دقيق بل غير موجودة إطلاقاً وهناك نقص فيها، مبينا أنها تمنح فقط وفق قوانين رسمية.

وفند حديث حليلة عن الرواتب، مبينا أنها لم ترتفع منذ عام 2014 وأنه لم تُصرف علاوة غلاء المعيشة رغم أن القانون ينص على ربط الأجور بها.

وقال: إن النتيجة كانت تآكل القيمة الحقيقية للرواتب بنسبة تصل إلى 40 بالمئة، مشيرا إلى أنها “لم تدفع كاملة منذ أكثر من 44 شهرًا”.

وواصل قائلا: “تراكمت مستحقات الموظفين لما يزيد عن 12 شهرًا من الراتب الكامل ولم تلتزم الحكومة بدفع فوائد التأخير وهكذا خسر الموظف ما نسبته 11 بالمئة من قيمة المتأخرات”.

بل وأكثر من ذلك، “اضطر الموظف للاقتراض من البنك و دفع 11 بالمئة عليها بمعنى أن هناك خسارة له بنسبة 22 بالمئة من قيمة مستحقاته”، وفق زكارنة.

وذكر أن ما يُصرف فعليًا لا يتجاوز 54 بالمئة من الاستحقاق الكلي للموظف ولا يزال صامداً يخدم شعبه، “ومع ذلك لم يُسجَّل أي تعافٍ مالي في الموازنة… إذن ما السبب الحقيقي للعجز ؟، ببساطة الاحتلال ووقف الدعم الأوروبي والعربي وليس علاوة الموظف المسحوق”.

أسباب ونتائج

وتدور اليوم تساؤلات عن أسباب تصاعد التضييق الإسرائيلي على السلطة وما إذا كانت تهدف لإيصالها إلى مرحلة الانهيار في ظل رفض أي دور للنهوض بها وترميمها وعرقلة إصلاحها.

فقد رفضت إسرائيل منذ بداية العدوان على غزة، أي دور مستقبلي لسلطة محمود عباس في القطاع المحاصر واتهمتها برعاية الإرهاب.

ومن اللافت أن هذا التضييق يأتي بالتزامن مع خطط إسرائيل المتسارعة لضم الضفة الغربية، في خطوة ترغب تل أبيب من خلالها إلى نسف أي محاولة مستقبلية لحل الدولتين عبر قضم واحتلال المزيد من الأراضي.

وأيد الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) في 23 يوليو بأغلبية 71 نائبا من أصل 120، اقتراحا يدعم ضم الضفة الغربية المحتلة وغور الأردن إلى إسرائيل. كما تهدد حكومة الاحتلال بضم أراض من قطاع غزة في ظل استمرار العدوان عليها.

كما يأتي التضييق في ظل موجة اعتراف دولي واسعة بدولة فلسطين بدأت عام 2024، باتخاذ ثلاث دول أوروبية وهي، النرويج، وإسبانيا، وإيرلندا لهذه الخطوة.

وأيضا، تعتزم فرنسا وبريطانيا وكندا ودول أخرى الاعتراف بدولة فلسطين خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك في سبتمبر/أيلول 2025.

واليوم تعترف أكثر من 140 دولة من أصل 193 عضوا في الأمم المتحدة رسميا بدولة فلسطين التي أعلنتها القيادة الفلسطينية في المنفى عام 1988.

في المقابل، يغيب الدعم المالي العربي للسلطة على الرغم من التأكيد المستمر على أنها الجهة الوحيدة الممثلة للشعب الفلسطيني وأنه لا بد من دعمها لتحقيق حل الدولتين.

وتحدث مدير مركز الاتصال الحكومي محمد أبو الرب عن "إشارات إيجابية" من عدة دول تمارس ضغوطا على إسرائيل للإفراج عن الأموال المحتجزة، لكن دون حدوث تطور.

ولم تقف الأزمة عند احتجاز الأموال، فقد أصدر وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش في يونيو/حزيران 2025، تعليمات للمحاسب العام لدولة الاحتلال لإلغاء الغطاء الممنوح للبنوك الإسرائيلية لمراسلة نظيرتها الفلسطينية.

وهذا الغطاء هو بمثابة آلية تعويض، أُقرت في السنوات الماضية، وكانت تهدف إلى حماية البنوك الإسرائيلية من دعاوى قضائية محتملة في الداخل والخارج، في حال اتُّهمت بتحويل أموال إلى جهات مرتبطة بما تعد “أنشطة معادية”.

 ومع إلغاء هذه الحصانة، بدأت البنوك الإسرائيلية إعادة النظر في استمرار تعاملها مع نظيرتها الفلسطينية، خشية تعرضها للمساءلة القانونية.

وقالت الإذاعة العبرية العامة في يونيو: إن القرار قد يُحدث هزة في العلاقة المالية بين البنوك الإسرائيلية والفلسطينية.

وتوقعت أن تؤدي التعليمات الجديدة إلى تباطؤ كبير في حركة الأموال القادمة من السلطة الفلسطينية، الأمر الذي من شأنه أن ينعكس سلبًا على أداء مؤسساتها الاقتصادية.

وقالت وسائل إعلام عبرية: إن الخطوة جاءت على خلفية ما وصف بـ”حملة نزع الشرعية التي تقودها السلطة الفلسطينية ضد إسرائيل في الساحة الدولية”.

ويقول مجلس الشرق الأوسط للشؤون العالمية: إن استقرار السلطة يزداد هشاشة على خلفية الخطوات الإسرائيلية الأخيرة.

وأردف في دراسة نشرها في ديسمبر/كانون الأول 2024: “في حين دأبت إسرائيل على استخدام أدوات الضغط الاقتصادي للضغط على السلطة سياسيًا، فإن الأزمة المصرفية الأخيرة تُنذر بتداعيات أعمق بكثير”.

وأكد أن القطاع المصرفي، الذي كان يعد في السابق ركيزة أساسية للاستقرار في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يواجه اليوم ضغوطًا غير مسبوقة بسبب إجراءات إسرائيل الأخيرة وسط بيئة اقتصادية وسياسية صعبة في ظل الحرب على غزة. 

وبدورها، رأت صحيفة جيروزاليم بوست العبرية أن “مستقبل سلطة عباس يقف عند نقطة غموض كبيرة، على شفا انهيار اقتصادي واحتمال تغيير قيادي قادم”.

وأكدت خلال تقرير في 3 يوليو 2025، أن طريقة تعامل السلطة مع الأزمة المالية المستمرة يعد مؤشرًا آخر على عدم استقرارها. 

وأردفت: "لقد ضعفت السلطة بشكل ملحوظ منذ بداية الحرب بين إسرائيل و(حركة المقاومة الإسلامية) حماس، ووفقًا لتقديرات المؤسسة الأمنية، فإنها غير مؤهلة لتحمل مسؤولية قطاع غزة.

مع ذلك، لا تزال السلطة الفلسطينية تؤدي مهامها، وتسعى جاهدة لإثبات قيمتها لإسرائيل كأصل لا عبئًا، وفق تعبير الصحيفة.