معركة المناهج والمعلمين في فلسطين تتصاعد.. أزمة رواتب أم إعادة صياغة للوعي؟

"الحكومة تُرهب المعلمين بإجراءات تعسفية من بينها الفصل والتهديد به"
بدأ رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس شن حرب على منظومة التعليم الوطنية والمعلمين عبر قرارات جديدة اتسمت بالخضوع للإملاءات الإسرائيلية والشروط الدولية.
فقد بدأ عباس في التحرك لتغيير المناهج الفلسطينية وفق المتطلبات الإسرائيلية الغربية بذريعة احتوائها على "التحريض" ضد تل أبيب، ولضمان الدعم المالي لسلطته.
ويسير عباس اليوم في مسارين يستهدفان المنظومة التعليمية ويهددان مستقبل المعلم الفلسطيني، أولهما تغيير المناهج وكذلك فصل المعلمين المحتجين على عدم صرف رواتبهم.

تغيير المنهاج
ووجّه عباس الحكومة بإرسال وفد فلسطيني رفيع المستوى برئاسة وزير التربية والتعليم العالي (أمجد برهم)، للتشاور مع منظمة الأمم المتحدة للعلوم والثقافة "اليونسكو" حول مواءمة مناهج التعليم الفلسطينية للمعايير الدولية التي تعتمدها المنظمة.
ووفق ما ذكرته وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا" في 15 نوفمبر/تشرين الثاني، فقد جاء التوجيه خلال اتصال هاتفي مع مدير عام "اليونسكو"، المصري خالد العناني، الذي تسلّم مهام عمله أخيراً.
وحسب الوكالة، يأتي ذلك "في إطار سعي دولة فلسطين لتطوير التعليم من حيث الشكل والمضمون، وبما يحافظ على جوهر الوعي الوطني الفلسطيني، ويتلاءم مع معايير اليونسكو والالتزامات الدولية".
ولطالما روجت إسرائيل خاصة بعد عملية طوفان الأقصى عام 2023، لاحتواء المنهج الدراسي الفلسطيني على "تحريض" ضد تل أبيب، وذلك لكونه لا يعترف بالكيان على خريطة فلسطين.
وتبنت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الادعاءات الإسرائيلية وبدأت أخيرا بالمطالبة بتغيير المناهج، كما ربطت الدعم المالي باتخاذ هذه الخطوة فضلا عن إجراء إصلاح شامل في السلطة الفلسطينية.
ووصل الأمر أيضا إلى تبني دول عربية مثل السعودية والإمارات المطلب نفسه، في محاولة لإعادة هندسة الوعي الفلسطيني ورفض أي دعوات للمقاومة المسلحة ضد الاحتلال الجاثم على الأرض الفلسطينية منذ عام 1948.
فبعد توقيعها اتفاق التطبيع مع تل أبيب عام 2020، باتت أبوظبي تتبنى الرؤية الإسرائيلية بالكامل وتسعى لتصديرها عبر الضغط على الفلسطينيين لتفكيك منظومتهم التعليمية.
وفي 14 مايو/أيار 2025، كشفت صحيفة "يسرائيل هيوم" العبرية، أن الإمارات تصر على خضوع النظام التعليمي الفلسطيني لتغيير حقيقي وأن "يتم تطهيره من التحريض ضد إسرائيل".
وفي خضم حديثها وقتها عن مبادرة خليجية كانت الإمارات والسعودية تبحثانها مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن وقف الحرب في قطاع غزة، أصرت الدولتان الخليجيتان على تغيير المنهج الفلسطيني.
وأوضحت الصحيفة أنه "حدثت عملية مماثلة في النظام التعليمي السعودي، على سبيل المثال"، مبينة أن "الرياض وأبوظبي ستشرفان على هذا التغيير".
وجاء هذا الشرط ضمن بند ينص على تنفيذ إصلاحات جوهرية داخل السلطة الفلسطينية تهدف إلى الحد من الفساد، وهو أمر تطالب به الإمارات والسعودية منذ سنوات مقابل الدعم السياسي والمالي.
وكان من اللافت أن ذكرت وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة تسيبي ليفني دولة الإمارات خلال حديثها عن منظومة التعليم الفلسطينية، وذلك في مؤتمر لمركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي في 7 مارس/آذار 2024.
وأوضحت ليفني أن “دولة الإمارات يمكنها إحداث تغيير في مجال التعليم الفلسطيني؛ لأنهم حقا قادة رأي فيما يتعلق بمكافحة التطرف”. وفق تعبيرها.
ويأتي النهج الإماراتي السعودي متساوقا مع الاتحاد الأوروبي الذي يدعو منذ سنوات لتغيير المنهج التعليمي الفلسطيني بضغط من إسرائيل تحت مزاعم “معاداة السامية”، وهي تهمة معلبة تطلقها تل أبيب على كل من يرفض الاحتلال والاستيطان.
وفي 7 مايو 2025، صوت البرلمان الأوروبي للعام السادس على التوالي لصالح سلسلة قرارات تدين بشدة الكتب المدرسية الفلسطينية التي تستخدمها وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا” وسلطة عباس.
وجاء في قرار الإدانة أن المواد المستخدمة "تحتوي على معاداة السامية والتحريض على العنف وخطاب الكراهية وتمجيد الإرهاب". وأمام ذلك، صوت البرلمان الأوروبي لصالح تجميد المساعدات المالية المقدمة للسلطة.
وطالب القرار بحجب التمويل الأوروبي عن السلطة “طالما لم تلتزم المناهج الدراسية بالمعايير التي تضعها منظمة اليونسكو، ولم تُزل الإشارات المعادية للسامية أو الأمثلة التي تحث على الكراهية والعنف”.

فصل المعلمين
وجاء تحرك عباس باتجاه تغيير المناهج في وقت تواجه فيه السلطة الفلسطينية أسوأ أزمة مالية منذ تأسيسها عام 1994، ما دفعها لاتخاذ إجراءات غير عادية تمثلت في تقليص عدد أيام دوام الموظفين العموميين والتأخر في صرف رواتبهم.
ودخلت السلطة مرحلة صعبة من التقشف إثر سياسات إسرائيلية عقابية بعد بدء تل أبيب عدوانها المدمر على قطاع غزة (2023 - 2025).
وبدأت السلطة اقتطاع نسبة من رواتب موظفيها منذ مطلع العام 2024 بسبب ما تقول إنها أزمة مالية تمر بها، نتيجة تأخر المساعدات المالية الخارجية، واقتطاع إسرائيل جزءا من أموال المقاصة.
وهي ضرائب عن الواردات إلى السوق الفلسطيني تجبيها إسرائيل في المنافذ التي تسيطر عليها ويفترض أن تحولها للسلطة الفلسطينية.
وطالت الأزمة المالية المعلمين الذين يتلقون منذ شهور طويلة، ما نسبته 60 بالمئة فقط من إجمالي رواتبهم، ما دفعهم أخيرا للإضراب عن العمل.
وأعلن حراك المعلمين الموحد في الضفة الغربية عن إغلاق المدارس في 19 نوفمبر، وتنظيم اعتصام أمام مديريات التربية والتعليم المركزية في مختلف المحافظات، بدءًا من الساعة 11:00 صباحًا وحتى 12:30 ظهرًا.
وقال الحراك في بيان: إن هذه الخطوة تأتي احتجاجًا على سياسات الحكومة وإساءة استخدام السلطة داخل بعض المديريات وأقسام الوزارة.
وفي خضم هذه التحركات التصعيدية، تفاجأ 8 معلمين يتبعون لمديرية التربية والتعليم في يطا بالخليل جنوب الضفة الغربية، بقرار إيقافهم عن العمل، وإخراجهم من برنامج “مينا مي” للموارد البشرية.
ونقلت شبكة الصحافة الفلسطينية عن مصادر في الحراك قولها: إن الحكومة وأجهزة تابعة لها مارست خلال الأسابيع الأخيرة حملة ضغط منسقة شملت التهديد بالفصل، والتلويح بالملاحقة، ومحاولات استدعاء بعض المعلمين لإجبارهم على التراجع.
وكشفت أن بعض المديريات بدأت تعيين بدلاء عن المضربين عن العمل، في خطوة عدها المعلمون تمهيدا لـ”فصل جماعي” يستهدف كسر إرادتهم.
وقال أحد المعلمين من مدينة الخليل لـ"الاستقلال": إن “اقتطاع الرواتب منذ نحو عام أرهقنا ماديا ونفسيا وجعل حياتنا في وضع يرثى له”.
وأضاف المعلم الذي رفض الكشف عن اسمه خوفا من الفصل: “الأغلبية صامتة اليوم وترضى بنسبة 60 بالمئة حتى لا يجرى تسريحهم نهائيا كما حدث مع عدد من المدرسين أخيرا”.
وأكد أن “الحكومة تُرهب المعلمين بإجراءات تعسفية من بينها الفصل والتهديد به حتى يعودوا عن حراكهم ولئلا تتسع دائرة الرفض ويصعب بعدها إمكانية السيطرة على خطواتهم”.
وتابع: “تضامنا مع الحكومة في البداية حتى زوال الأزمة التي تسببت بها إسرائيل، لكن التعليم قطاع حيوي ويجب ألا يطاله التقليص، خاصة مع معرفتنا بفساد المنظومة كاملة والاهتمام بالقطاع الأمني وترقياته وعلاواته وتهميش القطاعات الخدمية مثل الصحة والتعليم”.
وبدوره، قال المعلم عمر سراحنة وهو أحد الذين نالهم الإيقاف عن العمل، إنه أخبر بذلك رسميا من قبل مديرية التربية والتعليم في يطا التي ردت بأن “القرار صادر من جهة عليها”.
وتابع في حديث لموقع الشاهد المحلي أن القرار كان نصّه شفويا كالآتي “تم إيقافك عن العمل.. لا تداوم”، مشيرا إلى عدم تسلمه وزملائه الآخرين القرار بشكل رسمي حتى اللحظة، على تقدير أنه “غير قانوني”.
ويلفت في تصريحاته إلى أن النقاشات مع مدير التربية والتعليم بيطا ياسر محمد، شهدت مطالبة الأخير للمعلمين الثمانية بوقف الإضراب في يطا مقابل “مراضاتهم”. مضيفا “هذه مداولات غريبة، من نحن حتى نوقف إضراب نحو ألف معلم”.

ما المطلوب؟
وترى صحيفة تايمز أوف إسرائيل أن خطوة عباس الأخيرة بالتوجه إلى اليونسكو، تأتي بعد أن واجه منهج السلطة الفلسطينية انتقاداتٍ لسنواتٍ في خضم دراساتٍ أظهرت أنه يتضمن محتوى معاديًا لإسرائيل ومواد تُشجع على الإرهاب، وفق وصفها.
وقالت الصحيفة منتصف نوفمبر: إنه “خلال العام الماضي (2024)، التزمت السلطة الفلسطينية تجاه الولايات المتحدة بإجراء إصلاحاتٍ مُختلفة، بما في ذلك في مجال التعليم”.
وفي 22 سبتمبر/أيلول 2025، تعهد عباس، بـ "إصلاح" المناهج التعليمية خلال عامين "وفقا لمعايير اليونسكو"، وذلك خلال كلمة ألقاها في "المؤتمر الدولي لتسوية قضية فلسطين بالسبل السلمية وتنفيذ حل الدولتين".
وخلال المؤتمر الذي عقد بنيويورك تعهد عباس كذلك في كلمة عبر تقنية الفيديو، بقطع المستحقات المالية لعائلات الشهدIء والأسرى، وهو أمرٌ ينفذ فعلياً منذ مدة.
وتشترط الجهات الدولية المانحة حذف الأيقونات والرموز الوطنية الفلسطينية من المناهج بوصفها “تحريضية” وتشجع على المقاومة العسكرية، فضلا عن إلغاء المطالبة بحق عودة اللاجئين إلى أراضيهم المحتلة عام 1948.
ويشمل ذلك صور الشهداء والأسرى والخرائط التي تظهر فلسطين من البحر إلى النهر، وهو الشعار الذي انتشر بقوة عالميا بعد 7 أكتوبر، وعدته واشنطن ودول غربية أخرى معاديا للسامية كونه يلغي إسرائيل.
تقول صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية: إنه على الرغم من وعود السلطة الفلسطينية للاتحاد الأوروبي بإصلاح نظام التعليم في غزة مقابل المساعدات، يكشف تقرير صادر عن معهد الأبحاث والسياسات الدولي IMPACT-se في لندن أن شيئًا لم يتغير في الواقع.
وأوضحت الصحيفة خلال تقرير لها في 25 مارس/آذار 2025 أن "التحريض ضد إسرائيل أُدخل في حصص اللغة وحتى الرياضيات. تُشيد الكتب بالشهداء - وكذلك بأعمال المجازر الإجرامية مثل الجهاد وتصويره على أنه بوابة نحو الجنة"، وفق تعبيرها.
وأردفت أنه “بدلاً من الوفاء بالتزاماتها تجاه الأوروبيين، تواصل السلطة توزيع مناهج تشمل التحريض في المؤسسات التعليمية، حتى بعد مجزرة 7 أكتوبر”.
وبحسب ادعائها، “تتضمن مواد المناهج تشجيعًا على العنف، ومظاهر معاداة السامية، وتمجيدًا للإرهاب، ومحو إسرائيل من الخرائط".
وبينت أن المناهج تتناول أيضا قضية العودة، والتحفيز على الجهاد والاستشهاد منذ الصغر، وحفظ أسماء الشهداء وأعداد من قتلوا خلال الانتفاضات والحروب.
وقال المدير العام لمعهد معهد الأبحاث والسياسات الدولي ماركوس شيف: إنّ "هذه كانت لحظة اختبارٍ للسلطة الفلسطينية".
وأضاف: “لقد وقّعت اتفاقية مع الاتحاد الأوروبي والتزمت بإصلاح مناهجها، لكننا نرى مجددًا أن السلطة تواصل ترسيخ الكراهية والعنف في مناهجها، وتستمر في تعليم معاداة السامية، وتمجيد الإرهاب، وإنكار إنسانية الإسرائيليين”. وفق تعبيره.
وأردف: "لا تزال الفصول الدراسية الفلسطينية حاضنة للتطرف، مع مواد تعليمية جديدة تُعزز نفس الخطابات الخطيرة".
وبدوره، أوضح إريك أغاسي، نائب مدير المعهد: “لم يعد ممكنا وجود عالمين متوازيين - عالم يواصل فيه الاتحاد الأوروبي تحويل الأموال إلى السلطة الفلسطينية، التي تؤكد على إصلاح المناهج الدراسية، وآخر لا تُنفّذ فيه أي إصلاحات، وتظل المدارس مليئة بمعاداة السامية والكراهية والتحريض".
وأردف: “لقد علّمنا السابع من أكتوبر أن عصر التحريض في المدارس الفلسطينية يجب أن ينتهي”.
وتابع: "بصفته المساهم الأكبر في السلطة الفلسطينية، خاصةً في رواتب مديري التعليم الذين يكتبون ويُدرّسون هذه الكتب المدرسية، يُمكن للاتحاد الأوروبي أن يجعل هذا حقيقة واقعة".
المصادر
- PA’s Abbas orders delegation to UNESCO to discuss Palestinian curriculum
- President orders delegation to consult with UNESCO on aligning education curricula with international standards
- بدل إنصافهم.. السلطة تلوّح بالفصل والملاحقة ضد المعلمين المضربين
- السلطة تفصل 8 معلمين من يطا لأنهم طالبوا بحقوقهم
- שירי הלל ל-7/10, מוות כ"ערך עליון": בעזה חזרו לבתי הספר - וזו התוכנית לתלמידים














