مرتزقة كولومبيون.. هكذا دفعت بهم الإمارات لمساندة "الدعم السريع" في حصار الفاشر

"من سفكوا الدماء في الخارج من أجل المال يجب أن يحاسبوا جنائيا"
في قلب الصحراء الغربية للسودان، وتحديدا على تخوم مدينة الفاشر المحاصرة منذ شهور، لم يكن المقاتلون الذين واجهتهم القوات السودانية جميعهم من أبناء دارفور أو حتى من جنسية البلد.
فقد أعلنت القوات المسلحة السودانية، عبر بيان صادم، في 3 أغسطس/ آب 2025، أن من بين المهاجمين الذين حاولوا اقتحام المدينة، عناصر أجنبية تحمل الجنسية الكولومبية، قتل قائدهم خلال المعارك.
وهذا دليل جديد على أن الحرب السودانية لم تعد شأنا محليا، لكن السؤال الأخطر لا يتعلق فقط بجنسية هؤلاء المرتزقة، بل بمن جلبهم ومولهم ودفع بهم إلى ميدان القتال.
وكل المؤشرات تشير إلى الإمارات، المتهمة منذ سنوات بإدارة شبكات أمنية خاصة تضم مقاتلين سابقين من أميركا اللاتينية، استخدموا سابقا في اليمن وليبيا، ويبدو أن الفاشر أصبحت المحطة الجديدة لمغامراتهم القتالية.
وفي ظل التعتيم الدولي على ما يجرى غرب السودان، يتم الكشف عن أخطر عملية تدخل خارجي في الصراع، عبر استقدام مرتزقة كولومبيين للمشاركة في حصار مدينة مأهولة بالسكان، تمهيدا لاجتياحها.
والاجتياح المرتقب هو ضمن مخطط أكبر لفرض الأمر الواقع بالقوة والسلاح والأموال الأجنبية.
طريقة التجنيد
ومنذ بداية الحرب لم تقتصر أشكال الدعم الذي قدَّمته الإمارات لمليشيا “الدعم السريع” المتمردة على الأسلحة وشحنات المساعدات، بل تعدت ذلك إلى استقدام مقاتلين أجانب من أميركا اللاتينية، وتحديدا من كولومبيا، للقتال إلى جانب المليشيا في دارفور.
ففي تحقيق نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية في 12 ديسمبر/كانون الأول 2024، كشف النقاب عن مقاطع فيديو مصورة بهاتف محمول، تم التقاطها في مناطق نائية من إقليم دارفور، أظهرت مشاهد لمقاتلين يرتدون الزي العسكري وهم يستعرضون أسلحة وأغراضا شخصية تعود لأسرى تم القبض عليهم حديثا.
وفي أحد تلك المقاطع، يسمع صوت أحد المسلحين وهو يقلب جوازات السفر التي وجدت بحوزة الأسرى، قائلا بلهجة عربية مائلة إلى لهجة الزغاوة: "انظروا إلى هذا.. إنهم ليسوا سودانيين، هؤلاء يحملون جوازات سفر كولومبية.. هؤلاء هم من يقتلوننا".
الصحيفة الأميركية أكدت، عبر تحقيق موسع شمل مقابلات مع أكثر من 12 مسؤولا دوليا ومحاربا كولومبيا سابقا، أن هؤلاء المرتزقة تم تجنيدهم خلال النصف الأول من العام 2024 بواسطة شركة إماراتية تدعى "المجموعة العالمية للخدمات الأمنية" (GSSG) ومقرها أبوظبي.
وتعرف هذه الشركة، حسب ما ورد في وثائقها الرسمية ومواقعها الإلكترونية، بأنها المزود المسلح الحصري للخدمات الأمنية الخاصة لدى الحكومة الإماراتية، وتدرج ضمن عملائها جهات سيادية مثل وزارات الشؤون الرئاسية والداخلية والخارجية.
ومطلع يناير/ كانون الثاني 2025، نشرت شبكة "عين" السودانية الناطقة بالإنجليزية تحقيقا موسعا استعانت فيه بالصحفي الكولومبي سانتياغو رودريغيز، الذي أورد تفاصيل صادمة عن شبكة دولية لتجنيد المرتزقة.
وذكر أنها تستهدف الجنود الكولومبيين السابقين، وتدفع بهم للقتال في صفوف مليشيا الدعم السريع في السودان، عبر وعود زائفة وعقود أمنية مضللة.
وأوضح رودريغيز أن جنودا كولومبيين سابقين تم استدراجهم من خلال عروض وظيفية تبدو في ظاهرها مشروعة، قدمتها شركات تجنيد تعمل بين كولومبيا والإمارات، وعلى رأسها شركة "A4SI" الكولومبية، وشركة “المجموعة العالمية لخدمات الأمن”.
ووفقا لما كشفه التحقيق، فإن هذه الشركات عرضت عقودا مغرية تتعلق بحماية منشآت نفطية في الخليج، لكن ما إن وصل الجنود إلى الإمارات، حتى تبين أن وجهتهم الحقيقية هي ليبيا ثم السودان؛ حيث طلب منهم الانخراط في العمليات العسكرية إلى جانب الدعم السريع.
وقال رودريغيز في حديثه مع "عين": "لقد خُدع العديد من هؤلاء العسكريين السابقين بشأن طبيعة المهمة.. قيل لهم إنهم سيعملون في منشآت آمنة، ثم وجدوا أنفسهم فجأة يُرسلون إلى جبهات قتال في السودان".
شهادات الجنود
واعتمد التحقيق على شهادات مباشرة من جنود سابقين، بالإضافة إلى تسجيلات صوتية ووثائق وصور ولقطات شاشة من مجموعات واتساب تستخدم في تنسيق التحركات.
كما أشار إلى أن بعض المجندين كانوا على دراية مسبقة باحتمال إرسالهم إلى ساحات قتال، لكن الغالبية لم تُمنح خيارا حقيقيا.
وتقاطع تحقيق "عين" مع تحقيق منفصل لموقع "Bellingcat" الهولندي، المتخصص في الصحافة الاستقصائية المستقلة، والذي وثق تحرّكات المرتزق الكولومبي كريستيان لومبانا مونكايو، حيث غادر أبوظبي في 11 أكتوبر/ تشرين الأول 2024 متجها إلى بنغازي الليبية، قبل أن ينتقل برا إلى السودان.
وفي حين أعلنت القوات المشتركة السودانية المتحالفة مع الجيش مقتل 22 مرتزقا كولومبيا خلال المواجهات في دارفور، أشار رودريغيز إلى غياب الأدلة الميدانية، متسائلا: “لماذا لم يقدم الجيش السوداني أي توثيق أو إثبات؟”
وأضاف أن نشر تحقيقه أدى إلى زيادة الضغط على المرتزقة في الميدان، حيث قامت الشركات المتورطة برفع رواتبهم مقابل التزامهم بالصمت، وهدّدت من يخرق تعليمات السرية بعواقب.
ورغم خطورة هذه المزاعم، لم تصدر الإمارات ولا قيادة الدعم السريع أي رد رسمي على ما ورد في التحقيق.
ولفتت شبكة "عين" إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي تتورط فيها شركات أمنية إماراتية في خداع أفراد وإرسالهم إلى ساحات قتال ضمن صراعات تمس مصالح أبوظبي الإقليمية.
ففي عام 2020، كشفت تقارير عن تورط شركة "بلاك شيلد" في استقدام مئات السودانيين للعمل كحراس أمن في أبوظبي، قبل أن يفاجأوا بإرسالهم إلى ليبيا للقتال هناك.
طريقة النقل
وفي تحقيق منفصل نشرته صحيفة "لا سيلا فاسيا" الكولومبية، في 2 مارس/ آذار 2025، تبين أن شركة GSSG قامت بنقل مئات المرتزقة الكولومبيين إلى السودان مرورا بمعسكرات مؤقتة داخل مطار بوصاصو في إقليم بونتلاند الصومالي.
ويعتقد أن هؤلاء المقاتلين استفادوا من خلفياتهم السابقة ضمن وحدات خفر السواحل التي درّبتها الإمارات في بونتلاند منذ عام 2010، ما أتاح لهم تحركا لوجستيا سريا داخل القرن الإفريقي دون إثارة الانتباه.
وفي تطور لافت، استهدفت طائرات بيرقدار “TB2” تركية الصنع تابعة للجيش السوداني، في 3 مايو/أيار 2025، مطار نيالا في جنوب دارفور، بقصف جوي قالت مصادر عسكرية: إنه استهدف طائرة يشتبه بأنها تقل عناصر كولومبية تمَّ إدخالها للقتال إلى جانب “الدعم السريع”.
وتسبَّبت هذه الضربة بتوتر شديد بين الخرطوم وأبوظبي، لم يلبث أن تصاعد حين شنّت الدعم السريع، المدعومة من الإمارات، هجوما على منشآت عسكرية في مدينة بورتسودان، استمرّ لستة أيام متتالية.
وفي الثالث من ديسمبر 2024، أعلنت وزارة الخارجية السودانية أنها تلقت اعتذارا رسميا من الحكومة الكولومبية بشأن تورط عدد من مواطنيها في القتال إلى جانب الدعم السريع.
وجاء الاعتذار خلال اتصال هاتفي أجراه وزير الخارجية الكولومبي، لويس جلبيرتو موريللو، مع نظيره السوداني علي يوسف.
وعبر الجانب الكولومبي عن أسفه لمشاركة مرتزقة كولومبيين في العمليات العسكرية التي تشهدها البلاد، مؤكدا أن تلك المشاركة لا تمثل السياسة الرسمية للدولة الكولومبية.
موقف الدولة
وفي خضم تصاعد الجدل حول تورط جنود كولومبيين متقاعدين في صراعات مسلحة خارج بلادهم، وعلى رأسها الحرب في السودان، خرج الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو بموقف حازم يدعو إلى وقف هذه الظاهرة وتجريمها.
وفي منشرو عبر "إكس" في نوفمبر 2024، شدد بيترو على أن "المستوى المعيشي للعسكريين في كولومبيا يجب أن يتحسن، ولكن من سفكوا الدماء في الخارج من أجل المال يجب أن يحاسبوا جنائيا".
وفي خطوة عملية، دفعت الحكومة الكولومبية مشروع قانون إلى الكونغرس يهدف إلى تجريم الشركات والمنظمات التي تستغل العسكريين المتقاعدين وتدفع بهم إلى ساحات حروب خارجية.
ويستند التشريع الجديد إلى اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1989 الخاصة بمناهضة تجنيد واستخدام المرتزقة، والتي رغم أنها لم توقع سوى نحو ثلاثين دولة فقط، فإنها تمثل – بحسب الباحث القانوني أورينيا – "خطوة ذكية في الاتجاه الصحيح لتجريم من يتربحون من استغلال البشر".
ورغم أن السودان هو أحدث المحطات التي ظهر فيها المرتزقة الكولومبيون علنا، فإن هذه الظاهرة تمتد إلى مناطق أخرى، وسبق لهؤلاء الجنود السابقين أن شاركوا في حروب اليمن والعراق وأفغانستان.
وبرزت أسماؤهم أيضا في واحدة من أكثر القضايا شهرة، وهي اغتيال الرئيس الهايتي جوفينيل مويس عام 2021، في عملية نفذها نحو 20 كولومبيا، غالبيتهم من العسكريين المتقاعدين.
هذه الحوادث المتكررة باتت تثير قلقا متزايدا في الأوساط الكولومبية والدولية، بشأن تحول بعض الجنود السابقين إلى أدوات في صراعات إقليمية تدار بالوكالة عن قوى خارجية، في انتهاك صارخ للقانون الدولي ومبدأ سيادة الدول.
المصادر
- الجيش السوداني ينشر فيديو يكشف مشاركة مرتزقة كولومبيين إلى جانب مليشيا الدعم السريع في معارك الفاشر
- Los mercenarios colombianos, la nueva apuesta de los paramilitares en la guerra civil de Sudán
- “LOBOS DEL DESIERTO”: ASÍ OPERAN LOS MERCENARIOS COLOMBIANOS EN SUDÁN
- Colombian Mercenaries in Sudan Show Internationalization of Conflict
- Foreign mercenaries and the RSF—Colombians misled into battle