"الفاشر".. استغاثات تحاصرها الجوع وبنادق الإمارات ويتجاهلها العالم

داود علي | منذ ٦ ساعات

12

طباعة

مشاركة

منذ أكثر من سنتين، تعيش مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، تحت وطأة حصار عسكري خانق تفرضه قوات الدعم السريع المدعومة إماراتيا، في واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية التي يشهدها السودان في تاريخه الحديث. 

وبينما تحاول المدينة الصمود، يدفع سكانها ثمنا فادحا للحرب، في صورة جوع ومرض حتى الموت.

و"أنقذوا الفاشر" ليست مجرد صرخة في الفضاء الإلكتروني، أطلقت يوم 28 يوليو/ تموز 2025، إنما نداء استغاثة حقيقي يعكس حجم المأساة التي تتعرض لها المدينة، وسط تواطؤ دولي وعجز رسمي.

“علف الحيوانات”

وفي مشهد مروّع، بات كثير من سكان الفاشر يعتمدون على "الأمباز"، وهو علف مخصص للحيوانات، كمصدر وحيد للطعام. 

ومع مرور الوقت، أوشك هذا المورد الحيواني أيضا على النفاد، مما ينذر بكارثة جوع شاملة.

المواد الغذائية اختفت من الأسواق، وإن توفرت نادرا، فإن أسعارها تفوق قدرة الأهالي على الشراء، في ظل انقطاع كامل للدخل وانعدام فرص العمل. 

وبحسب إفادة الدكتور محمد سليمان أتيم، أحد منظمي حملة "أنقذوا الفاشر" عبر حسابه بموقع "إكس": فإن الحصار لم يكن مجرد تدبير عسكري، بل "عملية تجويع مبرمجة تهدف إلى خنق الحياة المدنية في المدينة". 

فقد تحوَّلت سياسة الحصار إلى سلاح جماعي يضرب المدنيين في لقمة عيشهم، ويمنع عنهم أبسط وسائل البقاء.

ويقول الطبيب السوداني: "حتى من يملك المال لا يجد ما يشتريه، لا أسواق، ولا بضائع، ولا بائعين.. المدينة تحولت إلى شبح فارغ إلا من أجساد جائعة".

ولم تسلم حتى التكايا، وهي المطابخ الجماعية التي طالما شكّلت شريان حياة لآلاف الفقراء والنازحين في الفاشر، من تداعيات الحصار. 

فقد توقفت تلك المطابخ الخيرية بالكامل عن العمل، بعد أن نضبت مخزوناتها من المواد الغذائية الأساسية.

ويقول نشطاء محليون كانوا يشرفون على تشغيل التكايا في شهادات مؤلمة: "كنا نعد الطعام يوميا لأكثر من أربعة آلاف شخص، وأحيانا كنا نزيد الكمية مع توافد التبرعات". 

أما الآن، فكل شيء توقف، لا زيت، لا ذرة، لا ماء نظيفا، الناس باتوا يبحثون عن الطعام في القمامة، ولا يجدون فيه ما يسد الرمق.

تفشي الكوليرا

لكن الجوع ليس وحده ما ينهش أجساد المحاصرين، فالخدمات الطبية شلت بشكل شبه تام. 

يشير المشرفون إلى أن المحاليل الوريدية والشاش الطبي اختفيا من المستشفى الوحيد الذي لا يزال يعمل بصعوبة، في وقت غادر فيه معظم الأطباء والمتطوعين المدينة، تاركين آلاف العائلات تواجه الموت وحدها، دون أدنى رعاية أو دعم صحي.

وبدأت تقارير محلية في الكشف عن انتشار المرض بسرعة في عدد من المناطق المحيطة بالمدينة، وتحديدا من منطقة طويلة الواقعة غرب الفاشر، والتي تسيطر عليها حركة جيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور.

وأظهرت البيانات الميدانية التي حصلت عليها منسقية النازحين واللاجئين في دارفور، أن منطقة طويلة وحدها سجَّلت حتى يوم الثلاثاء (29 يوليو) أكثر من 2145 إصابة مؤكدة بالكوليرا، بينها 40 حالة وفاة، إضافة إلى أكثر من 207 إصابات في مراكز العزل المنتشرة في المنطقة. 

وتشير الإحصاءات إلى أن معدل الإصابات اليومية في بعض الأحيان يتراوح ما بين 100 إلى 208 حالات، وهو ما يثير مخاوف جدية من خروج الوباء عن السيطرة في ظل انعدام الخدمات الطبية.

وامتدت العدوى إلى مناطق جبل مرة؛ حيث تمّ تسجيل 23 إصابة و7 وفيات في منطقة قولو الواقعة في أعالي الجبال، مما يعكس اتساع رقعة انتشار الوباء من أطراف الفاشر نحو عمق دارفور، وسط بيئة ملوثة ومعدومة الصرف الصحي.

ويحذر المتحدث باسم منسقية النازحين، آدم رجال، من أن مخيمات النزوح مثل "كلمة" و"عطاش" و"السلام" تحولت إلى بؤر موبوءة بسبب تلوث مصادر مياه الشرب وانهيار شبكات الصرف الصحي بالكامل. 

وصرح رجال لصحيفة "ديلي سودان" المحلية: "النساء، الأطفال، وكبار السن هم الفئات الأكثر تضررا من الوباء؛ إذ يعيشون في ظروف صحية كارثية تفتقر إلى أبسط مقومات الوقاية".

وتأتي هذه التطورات في وقت تعمل فيه المستشفيات المتبقية في الفاشر بأقل من طاقتها بكثير، بل ويعتمد بعضها على وصفات الطب التقليدي لتعويض غياب الأدوية الأساسية، مما يحوّل الإصابة بالكوليرا أو حتى بالأمراض المزمنة إلى حكم إعدام فعلي في المدينة المحاصرة. 

الهجوم على قوافل المساعدات

وفي مشهد يجسّد القطيعة التامة مع كل الأعراف الإنسانية والقانونية، تعرضت قافلة مساعدات إنسانية مشتركة تابعة لبرنامج الأغذية العالمي واليونيسف، لهجوم مسلح من قبل الدعم السريع أثناء محاولتها الوصول إلى مدينة الفاشر، التي تعاني من المجاعة والكارثة الصحية تحت الحصار.

وبحسب بيان صدر في 3 يونيو/ حزيران 2025، عن الوكالتين الأمميتين، فإن القافلة التي كانت مكونة من 15 شاحنة، كانت في طريقها لتوصيل إمدادات غذائية وتغذوية منقذة للحياة إلى الأطفال والعائلات في الفاشر. 

وذلك بعد أن قطعت أكثر من 1800 كيلومتر من ميناء بورتسودان. وأكد البيان أن مسار القافلة كان معروفا ومتفقا عليه مسبقا مع الأطراف المتحاربة، وفق البروتوكولات المعتادة للقوافل الإنسانية.

لكن، وقبل أن تتمكن القافلة من إتمام رحلتها إلى المدينة المحاصرة، تعرّضت لهجوم عنيف، ما أدى إلى إصابات وخسائر في الأرواح. 

وأعربت الوكالتان عن "أسف بالغ لعدم وصول الإمدادات إلى الفئات الأضعف"، وقدمتا تعازيهما لأسر الضحايا، مؤكدتين أن "الهجوم شكل خرقا صارخا للقانون الدولي الإنساني".

وشدد البيان على أن "قوافل المساعدات الإنسانية محمية بموجب القانون الدولي، ويقع على عاتق الأطراف المتصارعة التزام قانوني واضح بالسماح بمرور المساعدات إلى المدنيين دون عوائق وبأسرع ما يمكن". 

كما دعت الوكالتان إلى "تحقيق فوري في الحادث ومحاسبة الجناة"، ووقف جميع أشكال الاعتداءات على العاملين في المجال الإغاثي ومرافقهم ومركباتهم.

ويأتي هذا الهجوم في أعقاب سلسلة اعتداءات متكررة على عمليات الإغاثة في دارفور، من بينها قصف استهدف منشآت برنامج الأغذية العالمي في الفاشر، ما ألحق أضرارا بمكاتب وورشة صيانة وعيادة.

ورغم استمرار التهديدات، لا يزال عدد من موظفي الأمم المتحدة والوكالات الإغاثية على الأرض، يحاولون مواصلة مهامهم الإنسانية وسط ظروف غاية في الخطورة. 

واختتم البيان بتحذير واضح: "حياة الملايين في السودان، بمن فيهم سكان الفاشر، باتت على المحك.. هذه الهجمات الممنهجة على المساعدات والكوادر المدنية استمرّت طويلا دون أي مساءلة".

وصمة عار 

وفي 3 أغسطس/آب 2025، أصدر"منتدى العمل الطوعي للتنمية في السودان"، وهو تحالف غير حكومي يضم نحو 100 منظمة طوعية ومتخصصين في المجال الإنساني، نداء استغاثة عبر بيان.

عبر فيه عن قلقه العميق من الكارثة الإنسانية التي تغرق فيها مدينة الفاشر تحت وطأة الحصار القاتل الذي تفرضه قوات "الدعم السريع" المتمردة، والهجمات العشوائية المتكررة التي تتعرض لها منذ أكثر من عام.

وجاء في البيان أن "مئات الآلاف من المدنيين الأبرياء باتوا محاصرين داخل المدينة، يواجهون خطر الموت جوعا ومرضا في ظل انقطاع الكهرباء والاتصالات". 

وتابع: "هناك انهيار شبه كامل في القطاع الصحي، ونقص فادح في الغذاء والماء والدواء، وسط استمرار القصف واستهداف مباشر للسكان والمرافق الحيوية".

واتهم المنتدى في بيانه المجتمع الدولي ومؤسساته الأممية، وكذلك المنظمات الإغاثية الإقليمية والدولية، بالتقاعس الفادح عن أداء مسؤولياتها تجاه المدنيين في الفاشر. 

محملا إياها المسؤولية الأخلاقية والقانونية الكاملة عما وصفه بـ"الكارثة المفتوحة على الإبادة".

كما طالب المنتدى بتحرك دولي عاجل لممارسة الضغط على قوات الدعم السريع لرفع الحصار فورا وفتح ممرات إنسانية آمنة، وتوفير الحماية للمدنيين، مذكرا بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2736. 

والذي يدعو بشكل صريح إلى إنهاء الحصار وضمان إيصال المساعدات الإنسانية، إلى جانب هدنة مؤقتة طرحها الأمين العام للأمم المتحدة وكانت الحكومة السودانية قد وافقت عليها.

وفي ختام البيان، وجه المنتدى نداء حادا إلى الضمير العالمي، جاء فيه: "الفاشر تستغيث.. ما يحدث فيها وصمة عار في جبين الإنسانية، ولن يغفر التاريخ لمن يرون الجريمة ويصمتون.. لم يعد الصمت ممكنا، ولا التقاعس مقبولا".

حاضرة قديمة 

وتقع مدينة الفاشر في غرب السودان، وتعد عاصمة ولاية شمال دارفور وإحدى الحواضر التاريخية في الإقليم. 

وتتمركز المدينة على ارتفاع يقارب 700 متر فوق مستوى سطح البحر، وتبعد نحو 802 كيلومتر إلى الغرب من العاصمة الخرطوم، وقرابة 195 كيلومترا شمال شرق مدينة نيالا، كبرى مدن ولاية جنوب دارفور.

وبحسب دائرة المعارف البريطانية، فإن مدينة الفاشر يعود تأسيسها إلى أواخر القرن الثامن عشر، حين اختار السلطان عبد الرحمن الرشيد، من سلاطين الفور، موقعها ليكون مقرا دائما لحكمه، وذلك بعد أن كانت السلطنة متنقلة.

ويشكل العرب منذ أمد بعيد غالبية السكان في شمال دارفور، بينما تتقاسم قبائل الفور والعرب الكثافة السكانية في الأجزاء الجنوبية من الإقليم. 

ويقطن دارفور أيضا عدد من المجموعات العرقية المتنوعة، من بينها الزغاوة، والداجو، والنوبة، والبجا، ما يجعل الإقليم من أكثر المناطق السودانية تنوعا إثنيا وثقافيا.

أما مدينة الفاشر نفسها، فقد بلغ عدد سكانها وفقا لآخر التقديرات الرسمية الصادرة قبل اندلاع الحرب نحو 450 ألف نسمة، بينهم آلاف النازحين الذين كانوا قد استقروا فيها خلال موجات النزوح السابقة. 

ومع بدء الحرب الحالية، ارتفع عدد السكان بشكل غير رسمي بسبب تدفق موجات جديدة من النازحين إليها، بحثا عن الأمان النسبي قبل أن تتحول هي ذاتها إلى مركز للحصار والمجاعة.