الضغط عبر الأسرى.. كيف كشف "طوفان الأقصى" صلابة حماس التفاوضية؟

خالد كريزم | منذ يوم واحد

12

طباعة

مشاركة

كشف هجوم "طوفان الأقصى" عن تحوّل جذري في نهج التفاوض الفلسطيني؛ حيث ظهر نموذج جديد لمفاوض يتميّز بالصلابة والقدرة على إدارة المحادثات بحكمة مستندة إلى قوة ميدانية فعلية. 

فلم يعد التفاوض مجرّد مسار سياسي تتحكم فيه الغطرسة الأميركية الإسرائيلية والضغوط الدولية، بل بات أداة توظّفها المقاومة الفلسطينية بوعي لتحقيق مكاسب ملموسة، مما فرض معادلات جديدة في الصراع مع الاحتلال.

وعلى مدى العقود الماضية، هيمنت على المشهد شخصية المفاوض التقليدي الذي جعل من التفاوض غاية بحد ذاتها، مقدمًا تنازلات متتالية منذ مؤتمر مدريد للسلام (1991) واتفاقية أوسلو (1993).

وأيضا ما تبعهما من اتفاقيات مرحلية لم تفضِ إلى إنهاء الاحتلال أو تحقيق السيادة، بل كرّست واقعا سياسيا هشا استغلته إسرائيل لتعزيز هيمنتها على الأرض وتوسيع الاستيطان.

آخر اختبار

كان آخر شواهد المفاوضات الناجحة عندما أدارت حركة المقاومة الإسلامية حماس ظهرها لتهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو باستئناف العدوان على غزة.

وكان ترامب توعّد الحركة الفلسطينية بـ"الجحيم" ما لم تفرج بحلول السبت (15 فبراير/شباط 2025) عن "جميع الأسرى" الإسرائيليين الذين مازالت تحتجزهم في قطاع غزة.

ورددت إسرائيل تلك التهديدات وقالت: إنها ستشن "حربا جديدة" في غزة تتيح تنفيذ خطة ترامب لتهجير سكان القطاع الفلسطيني إذا لم تفرج حماس عن الأسرى.

فيما استدعى الجيش الإسرائيلي قوات احتياط استعدادا لاحتمال استئناف الحرب في غزة إذا لم تلتزم حماس بإطلاق سراح مزيد من الأسرى الإسرائيليين مع انقضاء المهلة.

وجاءت هذه التهديدات بعد أن أعلن أبو عبيدة الناطق باسم كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس، في 10 فبراير عن تأجيل الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين لدى الحركة إلى حين التزام الاحتلال ببنود الاتفاق وتعويض استحقاق الأسابيع الماضية وبأثر رجعي.

وقال أبو عبيدة: إن قيادة المقاومة راقبت خلال الأسابيع الثلاثة الماضية انتهاكات العدو وعدم التزامه ببنود اتفاق وقف إطلاق النار، وتأخير عودة النازحين إلى شمال قطاع غزة واستهدافهم بالقصف وإطلاق النار.

وأضاف أن "العدو عمل على تأخير عودة النازحين لشمال قطاع غزة واستهدفهم بالقصف وإطلاق النار في مختلف مناطق القطاع"، كما منع إدخال المواد الإغاثية بأشكالها كافة بحسب ما اتفق عليه، في حين نفذت المقاومة كل ما عليها.

وقبل حلول السبت، اليوم الذي تتبادل فيه حماس وإسرائيل الأسرى، رضخت سلطات الاحتلال لشروط المقاومة وبدأت بتنفيذ البروتوكول الإنساني من الاتفاق، والذي يتضمن إدخال الخيام والآليات الخاصة بإزالة الركام وزيادة المساعدات الإنسانية.

وأظهرت هذه التجربة مدى صلابة موقف المقاومة التفاوضي وعدم تراجعها أمام التهديدات الأميركية والإسرائيلية، ورضوخ الاحتلال لتنفيذ بنود اتفاق وقف إطلاق النار.

ولم تظهر صلابة المفاوض الحمساوي هذه المرة فقط، فعلى مدار 15 شهرا من الحرب، أصرت الحركة الإسلامية على إيقاف العدوان وانسحاب الاحتلال وعودة النازحين من جنوب إلى شمال قطاع غزة، كشرط لأي اتفاق.

وكانت إسرائيل تريد استعادة نحو 120 من أسراها لدى المقاومة ثم تعود لاستئناف العدوان، وهو ما وقفت حماس حاجزا أمامه، مؤكدة أنه لن يجرى الإفراج عن أي منهم عبر “الضغط العسكري” وأن السبيل لذلك فقط هو توقيع اتفاق.

وبعد تسليمها الدفعة السادسة من الأسرى خلال المرحلة الأولى من الاتفاق الذي يتضمن 3 مراحل، أكدت حركة حماس، أن إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين في غزة لن يتم إلا من خلال المفاوضات، مشددة على أن الهجرة الفلسطينية لن تكون إلا باتجاه القدس فقط.

وأضافت الحركة "هذا هو ردنا على كل دعوات التهجير والإبادة سواء من ترامب أو من أنصاره في القوى الاستعمارية والاحتلالية".

ويأتي رد حماس قبل بدء المرحلة الثانية من مفاوضات وقف إطلاق النار، والتي قالت وسائل إعلام إن إسرائيل تشترط فيها نزع سلاح المقاومة، في حين رفضت الحركة أي مقترح من هذا القبيل.

فقد قالت هيئة البث الإسرائيلية في 19 فبراير: إن نتنياهو قرر البدء رسميا في مفاوضات المرحلة الثانية الأسبوع المقبل، على قاعدة نزع سلاح حركة حماس ورفض خطة نقل السيطرة إلى السلطة الفلسطينية.

وأوضحت القناة أن هناك استعدادات لاستئناف القتال، نظرا لصعوبة تقييم فرص نجاح المرحلة الثانية، بحسب تعبيرها. 

ولم تستجب حماس لمثل هذه المقترحات في السابق وأكدت أن قرار اليوم التالي لغزة هو فلسطيني بامتياز.

سقف مرتفع

ولطالما كان سقف حماس التفاوضي مرتفعا جدا على عكس حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح التي تدير السلطة الفلسطينية بالضفة الغربية.

وعلى مدار السنوات الماضية، تجاهلت إسرائيل مطالبات سلطة محمود عباس بوقف الاستيطان والإفراج عن أسرى قدامى مما أوقف مفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية منذ أبريل/ نيسان 2014.

وترفض إسرائيل التفاوض مع السلطة على أي مسار سياسي يمكن أن يؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، وتتهمها برعاية الإرهاب.

وفي المقابل تتمسك السلطة بما تسميه “التنسيق والتعاون الأمني” مع الاحتلال، على الرغم من عدم استجابة الأخير لأي من مطالبها.

أما حركة حماس، فقد طالبت  بالإفراج عن 6000 فلسطيني وعربي من السجون الإسرائيلية في مقابل أسرى الاحتلال، بمعنى تبييض السجون تماما. 

وعلى الرغم من عدم تحقق هدف تبييض السجون بالكامل خلال هذه المفاوضات، فقد استطاعت حماس إجبار الاحتلال على الإفراج عن فلسطينيين تحرروا سابقا في صفقة وفاء الأحرار وأعادت إسرائيل اعتقالهم.

كما تضمن الاتفاق الأخير الإفراج عن عشرات الأسرى المحكومين مدى الحياة وبمؤبدات عالية، ضمن إنجاز تلهث السلطة وراء إسرائيل لتحقيقه منذ سنوات دون نجاح.

ومثلت صفقة وفاء الأحرار واحدة من أكبر نجاحات حماس في التفاوض؛ حيث اضطرت إسرائيل للإفراج عن 1027 أسيرا فلسطينيا في 11 أكتوبر 2011 مقابل الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط الذي أسرته المقاومة عام 2006.

ولم تقتصر نجاحات حماس التفاوضية على التبادل فقط، فقد دفعت إسرائيل في أكتوبر 2009 للإفراج عن 20 أسيرة فلسطينية من الضفة الغربية وقطاع غزة، مقابل حصولها على مقطع مصور حديثا مدته دقيقتان يظهر فيه شاليط.

وكانت هذه هي المرة الأولى التي يعود فيها جندي إسرائيلي حيا منذ عام 1985، كما كانت عملية تبادل الأسرى هي الأكبر في تاريخ الصراع.

وكان أحد الأسرى الذين جرى تبادلهم، يحيى السنوار، الذي أصبح فيما بعد رئيسا للمكتب السياسي لحماس خلال العدوان، واستشهد قبل وقف إطلاق النار.

وقال مسؤولون إسرائيليون وأميركيون: إن السنوار كان متشددا في المفاوضات ويتأخر في الرد على الوسطاء لأنه كان معزولا عن العالم الخارجي.

وادعى المسؤولون في أكتوبر 2024 أنه على عكس السنوار، قد يكون قادة حماس الآخرون أكثر استعدادا للاستسلام وحتى الذهاب إلى المنفى كجزء من صفقة لإنهاء الحرب، وهو ما لم يحدث، مما يشير إلى نهج مؤسساتي استشاري قوي في التفاوض يتجاوز الأشخاص.

وذكرت صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية في نفس الشهر أنه عُرض على السنوار في مرحلة ما فرصة مغادرة قطاع غزة مقابل السماح لمصر بالتفاوض نيابة عن الحركة بشأن صفقة الأسرى.

وردا على الاقتراح، قال السنوار للوسطاء العرب بعد وقت قصير من بدء عملية طوفان الأقصى: "أنا لست تحت الحصار، أنا على أرض فلسطينية"، وفق الصحيفة.

وضمن المفاوضات، جرى تداول مقترح إنهاء العدوان مقابل خروج قيادات حماس إلى المنفى وإنهاء حكمها في غزة، وهو ما رفضته الحركة.

وبرز رئيس حماس في غزة خليل الحية خلال العدوان على الساحة الإقليمية عبر قيادته الناجحة للمفاوضات من الخارج والتمسك بشروط الحركة.

وأمام كل ذلك، فشل نتنياهو في تحقيق أهدافه المتمثلة في الانتصار الكامل والقضاء على حماس وإنهاء سيطرتها في غزة. 

فبمجرد توقيع الاتفاق خرج مقاتلو القسام في استعراض مهيب للقوة للقول إنهم باقون في القطاع، مع تدشين مراسم غير اعتيادية لتسليم الأسرى.

إستراتيجية حماس

وخلال العدوان، ضغطت حماس على إسرائيل في ملف المفاوضات عبر ورقة الأسرى الإسرائيليين لديها، ودفعت ذويهم للتظاهر في تل أبيب من خلال مقاطع فيديو أصدرتها بشكل مستمر.

وحملت أغلب الفيديوهات شعار “الوقت ينفد” في إشارة إلى أن استمرار العدوان يعني نهاية حياتهم، حيث قتل جيش الاحتلال عددا منهم خلال عمليات القصف إما عمدا للتخلص من ورقة الضغط هذه أو أثناء الاستهدافات العشوائية للقطاع.

وقالت صحيفة تايمز أوف إسرائيل في سبتمبر/أيلول 2024، إن "حماس وضعت إستراتيجية للحرب النفسية من خلال الرهائن حتى يزداد الضغط الشعبي على الحكومة" الإسرائيلية".

وتابعت: "تجلى هذا التوجه من خلال نشر حماس بشكل دوري مقاطع فيديو تظهر الرهائن يتوسلون للإفراج عنهم وأخرى لآخرين قتلوا في الحرب".

وادعت صحيفة بيلد الألمانية في سبتمبر 2024، الحصول على وثيقة لم يسبق رؤيتها من قبل عُثر عليها على حاسوب يحيى السنوار وتلقي الضوء على إستراتيجية الحركة التفاوضية، بما في ذلك ما أسمته “التعذيب النفسي لأسر الرهائن”.

ويقال: إن الوثيقة التي حصلت عليها بيلد وتحققت منها من مصدرين مستقلين، تعود إلى ربيع عام 2024 وقيل إنه جرت الموافقة عليها من قبل السنوار شخصيا. 

ووفقا لصحيفة بيلد، تسرد الوثيقة العديد من العوامل التي أرادت حماس مراعاتها عند التفاوض على اتفاق وقف إطلاق النار.

وتشمل "إرهاق" الجهاز العسكري الإسرائيلي، وزيادة الضغوط الدولية على إسرائيل، والحفاظ على قدرة حماس المسلحة وتعزيز موقفها التفاوضي من خلال المحتجزين.

ولفتت إلى أن "هذه التعليمات تتضمن الاستمرار في ممارسة الضغط النفسي على عائلات الرهائن الإسرائيليين حتى تتصاعد الاحتجاجات ضد حكومة نتنياهو".

وفي تلك الأيام، وفي أعقاب اكتشاف جيش الاحتلال جثث ستة أسرى إسرائيليين في نفق تحت رفح، أصدرت حماس عدة مقاطع فيديو تتضمن تصريحات لهؤلاء قبل مقتلهم. 

وتحتوي هذه المقاطع على إشارات لفشل الحكومة الإسرائيلية، ومناشدات لإعادتهم إلى ديارهم، وتفاصيل عن الظروف المعيشية المروعة لهم.

وبدوره، قال مركز القدس للأمن والشؤون الخارجية (إسرائيلي) :إن حماس استخدمت تكتيكات المماطلة في مفاوضاتها مع إسرائيل، مما سمح لها "باللعب على الوقت" وشل التقدم الإسرائيلي.

وأوضح خلال دراسة نشرها في مايو/أيار 2024 أنه “خلال التأخير، كانت إسرائيل تتعرض للضغوط للابتعاد عن رفح جنوب القطاع، وزيادة المساعدات الإنسانية، والسماح لسكان غزة بالعودة إلى الشمال - كلها أهداف حماس”.

وأردف: "أصبحت إستراتيجية حماس واضحة: لعب لعبة الانتظار حيث يكون الوقت هو المتغير الذي يخدم مصلحتها".

وتابع: “كلما مر الوقت، زاد الضغط على إسرائيل للامتناع عن العمليات العسكرية، وصياغة خطط ما بعد الحرب (بما في ذلك التطبيع مع المملكة العربية السعودية)، والخضوع للمطالب العامة والإعلامية لإبرام صفقة رهائن”.

وأردف المركز أنه "من خلال الظهور بمظهر المنخرطين في مفاوضات جادة، وتسريب بيانات مختلفة بشأن اهتمامهم بالصفقة، والاستمرار في التفاوض، تتجنب حماس إلقاء اللوم عليها لرفضها الصفقة في حين تعطل في الوقت نفسه إستراتيجية الجيش الإسرائيلي".

وقبل شهور من توقيع اتفاق وقف إطلاق النار واصل المركز القول: إن "حماس هي الطرف المسيطر على المفاوضات".

وأكد أن “حماس هي من تحدد مسار ووتيرة المفاوضات، وتقرر ما إذا كانت ستتوصل إلى اتفاق”.

وأوضح أن الحركة “تفعل ذلك في حين تستمر المساعدات الإنسانية في التدفق، وفي حين لا تزال حدود رفح مع مصر خارج السيطرة الإسرائيلية، وفي حين تحتفظ بقدرتها على الاستعداد لهجوم محتمل. وفي الوقت نفسه، تواصل تعزيز عودتها إلى المناطق الشمالية والوسطى من القطاع”.

وشدد على أن “الوقت في صالح حماس، وستؤدي إستراتيجيتها إلى خفض احتمالات شن إسرائيل عملا عسكريا مستمرا، وزيادة احتمالات عدم إعادة جميع الرهائن دون تقديم تنازلات كبيرة، والأكثر أهمية من ذلك بالنسبة للحركة، ضمان بقائها في حكم غزة التي سيعاد بناؤها في نهاية المطاف”.