الإمارات تستحوذ على أكبر مجمع زراعي في مصر .. تفاصيل "صفقة الهاشمية"

داود علي | منذ ١٤ ساعة

12

طباعة

مشاركة

في صمت ثقيل وخارج دائرة الضوء الإعلامي، انتقلت واحدة من أكبر المزارع الخاصة في مصر إلى قبضة شركة إماراتية.

يأتي ذلك دون إعلان رسمي من حكومة النظام المصري، ودون أي توضيح عن الجهة البائعة؛ حيث أبرمت صفقة استحواذ في 4 أغسطس/ آب 2025، على مجمع زراعي يمتدّ على عشرة آلاف فدان في وادي النطرون. 

ويضمّ المجمع ملايين الأشجار المثمرة وينتج محاصيل إستراتيجية تكفي لإمداد أسواق محلية ودولية.

المفارقة الصادمة أن الشركة الإماراتية المشترية لم تخف نواياها، الهدف، كما جاء في بيانها، هو تعزيز الأمن الغذائي الخليجي، لا المصري.

وفي بلد يئنّ تحت وطأة أزمة غذاء متصاعدة، وتضخم يلتهم قوت الفقراء، يبدو التخلي عن أصول زراعية بهذا الحجم أكثر من مجرد صفقة تجارية. 

بل إنه تخلٍّ إستراتيجي عن شريان سيادي يتصل مباشرة بأمن المصريين الغذائي واستقلالهم الاقتصادي.

صفقة الهاشمية

وفي ظل انشغال الرأي العام المصري بالأزمات الاقتصادية اليومية، مر خبر استحواذ شركة إماراتية على أحد أكبر التجمعات الزراعية في البلاد مرور الكرام. 

الخبر الذي نشرته عدة منصات اقتصادية عربية وأجنبية، يشير إلى أن شركة "إن آر تي سي فود القابضة" الإماراتية، المتخصصة في توزيع الفواكه والخضراوات في الخليج، أعلنت استحواذها الكامل على "مزارع الهاشمية". 

وهي مزارع كبرى تقع في منطقة وادي النطرون، بمساحة شاسعة تقدر بـ10 آلاف فدان، تزرع منها فعليا نحو 70 بالمئة من المساحة الإجمالية.

وتضم المزارع الهاشمية أكثر من مليوني شجرة مثمرة، وتنتج محاصيل إستراتيجية مثل، الحمضيات، الزيتون، والعنب، والمانجو، والتمور، والقمح، وبنجر السكر. 

وتعمل بمنظومة ري حديثة تعتمد على الطاقة الشمسية، وتبلغ طاقتها الإنتاجية السنوية نحو 70 ألف طن.

ورغم أهمية الصفقة وحجمها، يغيب تماما عن البيانات الرسمية أو التغطيات الإعلامية اسم الجهة المصرية التي باعت هذا المجمع الزراعي الضخم، فيما لم تحدد الحكومة، ولا الشركة الإماراتية، هوية المالك السابق ولا تفاصيل الإجراءات القانونية التي تمت بموجبها نقل الملكية.

هذا الغموض يثير علامات استفهام عميقة حول الشفافية والمحاسبة، وحول من يصرف الثروة الزراعية الوطنية في صمت.

ومن الملاحظات في البيان الصادر عن الشركة الإماراتية، أنه أعلن صراحة أن الاستحواذ على مزارع الهاشمية يأتي في إطار "تعزيز الأمن الغذائي الإقليمي لدول مجلس التعاون الخليجي"، وهو ما يطرح تساؤلات بالغة الحساسية، هل تحولت الأراضي المصرية إلى رافد مستقر للموائد الإماراتية؟

خاصة أن الصفقة تأتي في وقت تعاني فيه مصر من شح مائي مزمن وتآكل للرقعة الزراعية بفعل التغيرات المناخية وسوء التخطيط العمراني.

ما يطرح استفسارات عن كيفية تفويت واحدة من أخصب مناطق الزراعة في دلتا مصر إلى مستثمر أجنبي، يمتلك كامل السيطرة على المياه والري والطاقة الإنتاجية وحتى التصدير.

التمدد الإماراتي

وفي عام 2023، أطلقت الحكومة الإماراتية إعلانا بدا وكأنه عنوان لمرحلة جديدة من النفوذ العابر للحدود: "نحن ماضون في إعادة هيكلة النظم الغذائية، إلى أن نكون قادرين على زراعة أي شيء، في أي مكان، بصرف النظر عن المناخ والبيئة."

لم يكن التصريح نظريا أو عاطفيا، بل مقدمة لما يمكن تسميته اليوم بأوسع عملية تملك منظم للموارد الزراعية في المنطقة.

وضمن هذا التوسع، كانت مصر هي الحلقة الأكثر أهمية وخصوبة، فبحسب ما رصدته منظمة "GRAIN" الإسبانية المعنية بحماية السيادة الغذائية، في 3 يوليو/ تموز 2024، فإن الإمارات باتت تملك وتدير ما يقارب 788 ألف فدان من الأراضي الزراعية المصرية. 

وهو رقم ضخم إذا ما وضع في سياقه المحلي، فبين عامي 2014 و2023، أعلنت سلطات النظام المصري أنها استصلحت نحو 1.827 مليون فدان. 

بكلمات أوضح، بحسب المنظمة الإسبانية، فالإمارات باتت تتحكم فعليا في أكثر من 40 بالمئة من إجمالي ما تمَّ استصلاحه من الأراضي المصرية خلال العشرية الأخيرة.

استحواذات الظاهرة

وفي قلب هذا التمدد، تقف شركة "الظاهرة" الإماراتية، الذراع الزراعي الأقوى لمجموعة أبوظبي القابضة. 

هذه الشركة لا تدير مشروعات محدودة أو هامشية، بل تمتد زراعتها على أكثر من ربع مليون هكتار داخل مصر، موزعة بين توشكى وشرق العوينات والصالحية.

القمح، الذرة، البرسيم، البطاطس، التمور، المانجو، العنب، كلها باتت تزرع تحت اسم "الظاهرة"، التي أعلنت بنفسها أنها "أكبر منتج قمح من القطاع الخاص في مصر". 

ووفق تصريحات رئيسها التنفيذي رؤوف توفيق، في 16 أغسطس 2024، فقد سلمت الشركة نحو 450 ألف طن من القمح لوزارة التموين خلال خمس سنوات، إلى جانب 210 آلاف طن من الذرة، و90 ألف طن من بنجر السكر، معظمها ذهبت للسوق المحلي.

لكن المشهد لا يقف عند الإنتاج، ففي يوليو 2023، وقعت القاهرة اتفاقية قرض بقيمة 100 مليون دولار مع صندوق أبوظبي للتنمية، لشراء الحبوب من "الظاهرة". 

نعم، الدولة المصرية اقترضت لتشتري محاصيل من شركة إماراتية تزرع على أرضها.

وتزامنا مع هذا، بدأت مفاوضات بين "الظاهرة" وحكومة النظام للحصول على 500 ألف فدان إضافية في مشروع توشكى، وهو ما قد يرفع حصة الشركة إلى أرقام تُقارب نصف مليون فدان منفردة.

شركة جنان

اللاعب الثاني للإمارات في القطاع الزراعي المصري، هو شركة “جنان” التي اختارت التركيز على إنتاج الزيتون والتمر، وأعلاف الماشية، في مناطق المنيا وشرق العوينات.

وتشارك "جنان" أيضا في مشروع لإنتاج حليب الجاموس، بالتعاون مع شركة محلية.

أما الشركة العائلية الإماراتية القابضة (IHC)، فتتمدّد في القطاع من خلال علامتين: "الهاشمية" و"إثمار"، حيث تركز على إنتاج عنب المائدة والمانجو والحمضيات، وتستهدف أسواق التصدير بشكل مباشر.

ولكن ما يحدث في الحقول لا ينفصل عما يحدث في المصانع، فشركة "أغذية"، التابعة للقابضة أبوظبي، تمتلك حاليا 70 بالمئة من شركة أبو عوف للأغذية الصحية والمعلبة، وتدير أكثر من 175 فرعا في مصر. 

كما أن مجموعة الغرير الإماراتية تسيطر على 70 بالمئة من شركة القناة للسكر، وتشغل مشروعا ضخما في المنيا يعد من أكبر مصانع السكر في الشرق الأوسط.

وفي آخر حلقات سلسلة السيطرة تأتي شبكات التوزيع الكبرى، سلسلة "اللولو" هايبرماركت، التابعة للقابضة أبوظبي، تدير عشرات الفروع في الدلتا، وتعدّ نافذة أساسية لتصريف المنتجات الزراعية الإماراتية داخل السوق المصري. 

كما أن كارفور التي تديرها مجموعة ماجد الفطيم الإماراتية، تدير نحو 70 فرعا في مصر، وأعلنت عام 2023 خططا لمضاعفة عدد الفروع إلى 140 في السنوات القادمة.

إشكاليات السيادة 

وقال الباحث السياسي محمد ماهر: إن التمدد الخليجي الهائل في القطاع الزراعي المصري يتم تبريره رسميا بأنه استثمار يضيف تمويلا لقطاع يعاني من ضعف الموارد المحلية منذ عقود. 

واستدرك ماهر موضحا لـ"الاستقلال" أن “هذا الطرح يفتقر للمنطق إذا ما نظرنا إلى حجم الإنفاق الحكومي على مشروعات استعراضية خلال السنوات الأخيرة”. 

وأضاف: "لو كان الأمر بالفعل يتعلق بنقص التمويل، فلماذا لم توجه 10 مليارات دولار فقط من مئات المليارات التي أنفقت على مشروعات غير إنتاجية لدعم قطاع الزراعة؟ هذا القطاع بطبيعته إنتاجي، ويوفر العملة الصعبة عبر إحلال الواردات أو زيادة الصادرات".

ولفت ماهر إلى أن “كثيرا من الشركات الخليجية تحديدا الإماراتية حصلت على أراضيها في مصر بأسعار زهيدة للغاية”. 

ضاربا المثل بما حدث في توشكى؛ حيث بيعت بعض المساحات بما يعادل 50 جنيها للفدان، وهو ما يجعل الحديث عن ضخّ استثمارات ضخمة غير مقنع، خاصة إذا كانت هذه الأراضي مجهزة سلفا بالبنية التحتية والتقنيات الحديثة.

وأشار إلى أن تبريرا آخر يطرح في مواجهة التخوفات من هذا التغلغل، وهو نقل التكنولوجيا الزراعية. 

لكن في صفقة مثل بيع مزارع الهاشمية لم نر أي مؤشرات على نقل تكنولوجيا جديدة، بل العكس، الشركة الإماراتية استحوذت على أرض مجهزة بالفعل بأحدث أنظمة الري والإنتاج، بحسب ماهر.

كما انتقد الباحث المبرر المتعلق بدعم الاقتصاد عبر العائدات التصديرية، موضحا أن هذه العائدات "تثير إشكاليات تتصل مباشرة بالسيادة الغذائية، وبالكلفة الحقيقية للتصدير، ومن يتحملها في النهاية".

وأكد أن السماح لشركات أجنبية بالتحكم في إنتاج وتوزيع مساحات واسعة من الأراضي الزراعية "يعني فقدان الدولة لجزء من قدرتها على توجيه المحاصيل أو التدخل في أوقات الأزمات، خاصة وأن هذه الشركات تضع أمن الخليج الغذائي كأولوية، وليس أمن مصر".

واختتم ماهر تصريحه بالتأكيد على أن بيع مزارع الهاشمية ليس صفقة تجارية عادية، بل "تسليم لجزء نوعي وصعب التعويض من مقدراتنا الزراعية لشركات معنية أولا بأمن الإمارات وتحقيق الأرباح. 

وتابع: “وهو ما يؤدي إلى تقسيم الثروة الزراعية بين الشركات الإماراتية والجهات السيادية، في قطاع حساس يتعلق بغذاء المصريين، ويضعف الاقتصاد الوطني ويجعلنا عرضة لأزمات سلعية متكررة”.