هل استخدمت إسرائيل قنابل محرمة دوليًا جنوب لبنان؟ أدلة جديدة تكشف الحقيقة

القنابل العنقودية تعتمد على نشر حاوية تضم عشرات الذخائر التي تتساقط على مساحة واسعة تصل إلى عدة ملاعب كرة قدم
تكشف صور جديدة لبقايا ذخائر عُثر عليها في جنوب لبنان ملامح واضحة لاستخدام إسرائيل قنابل عنقودية محظورة دوليا على نطاق واسع خلال الحرب الأخيرة التي امتدت لثلاثة عشر شهرًا. وتمثّل هذه الصور أول دليل موثّق على لجوء الجيش الإسرائيلي إلى هذا النوع من السلاح منذ ما يقرب من عشرين عامًا.
وقد حصلت صحيفة الغارديان البريطانية على هذه الصور بشكل حصري، قبل أن تُعرض على ستة خبراء متخصصين في الذخائر والأسلحة النوعية لفحصها وتحليلها.
وبحسب التحقيق المنشور في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، أكد الخبراء أن بقايا الذخائر الظاهرة في الصور تعود إلى نوعين من القنابل العنقودية الإسرائيلية. وقد جرى العثور عليها في ثلاثة مواقع مختلفة جنوب نهر الليطاني، وتحديدًا داخل الوديان الكثيفة الأشجار في كل من وادي زبقين، ووادي برغوز، ووادي دير سريان.

موت منتظر
يُعد هذا الكشف بمثابة دليل حيّ على "موت منتظر"؛ فهو أول مؤشر ملموس على أن إسرائيل أعادت استخدام الذخائر العنقودية منذ حرب عام 2006. لكنه لا يقتصر على ذلك، بل يكشف أيضًا عن أن النوعين الجديدين اللذين جرى العثور عليهما ــ القذيفة M999 “باراك عيتان” عيار 155 ملم، والصاروخ الموجّه “رعم عيتان” عيار 227 ملم ــ يمثلان أول ظهور ميداني موثّق لهما.
وبحسب الخبراء، تعتمد القنابل العنقودية بطبيعتها على إطلاق حاوية كبيرة تحمل عشرات الذخائر الصغيرة أو ما يُعرف بـ"البومبليت"، والتي تتناثر فوق مساحة واسعة قد تمتد إلى ما يعادل عدة ملاعب كرة قدم. وتكمن خطورتها في أن ما بين 10% و40% من هذه الذخائر لا ينفجر عند ارتطامها بالأرض، لتتحول إلى ألغام كامنة تنتظر مرور أي شخص قريب منها.
ورغم أن اتفاقية حظر القنابل العنقودية، التي انضمت إليها 124 دولة، تحظر تمامًا استخدام هذا السلاح أو نقله أو تخزينه، فإن إسرائيل ليست طرفًا في الاتفاقية، ولا تلتزم بأي من بنودها.
ومع ذلك، تؤكد منظمات حقوقية دولية أن استخدام هذه الذخائر يتعارض في جوهره مع مبادئ القانون الدولي الإنساني، نظرا لطابعها العشوائي وعدم القدرة على توجيهها بدقة نحو أهداف عسكرية محددة، فضلا عن عدم وجود أي ضمان يمنع سقوطها في مناطق مدنية أو تركها كخطر قاتل قد ينفجر بعد سنوات طويلة من انتهاء الحرب.
تشويه المدنيين
قالت تمار غابلنيك، مديرة تحالف القنابل العنقودية: إن "هذا النوع من الذخائر يشكّل انتهاكًا واضحًا لواجب احترام القانون الدولي الإنساني"، مشددة على أن نطاق تأثيره الواسع يحول دون قدرته على التمييز بين المقاتلين والمدنيين، فيما تستمر بقاياه في قتل وتشويه المدنيين لعقود طويلة بعد انتهاء الحروب.
أما الجيش الإسرائيلي فلم يؤكد ولم ينفِ استخدام هذا السلاح، مكتفيًا بالقول: إنه "يلجأ فقط إلى أسلحة قانونية، وبما يتوافق مع القانون الدولي، مع الحرص على تقليل الأذى اللاحق بالمدنيين".
واندلعت الحرب بين إسرائيل وحزب الله في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأدت إلى مقتل نحو أربعة آلاف شخص في لبنان، وما يقرب من مئة وعشرين في إسرائيل. ورغم توقيع اتفاق وقف إطلاق النار العام الماضي، ما تزال إسرائيل تشن غارات شبه يومية على جنوب لبنان الذي لا يزال غارقا في دمار واسع النطاق.
ويمتلك لبنان سجلا مؤلما مع القنابل العنقودية، منذ أن أغرقت إسرائيل أراضيه بنحو أربعة ملايين قنبلة منها خلال الأيام الأخيرة من حرب 2006، وسط تقديرات تشير إلى أن نحو مليون قنبلة لم ينفجر. ومنذ ذلك الوقت، قُتل أكثر من أربعمئة مدني لبناني بسبب الذخائر غير المنفجرة، وهي مأساة إنسانية شكلت حافزًا مهمًا لولادة اتفاقية حظر القنابل العنقودية عام 2008.

أدلة موثقة
ورغم أن إسرائيل ليست طرفًا في اتفاقية حظر الذخائر العنقودية، فإنها كانت من أوائل الجهات التي دانت استخدام إيران لهذه الأسلحة خلال هجماتها على إسرائيل في الحرب التي اندلعت في 13 يونيو/حزيران 2025. فقد قال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، العميد أفي ديفرين: إن "النظام الإيراني استخدم أسلحة ذات تأثير واسع بهدف تعظيم الضرر وإيذاء المدنيين".
وبالعودة إلى الأدلة الميدانية، تمكن خبراء الأسلحة من التحقق من أن بقايا الذخيرة الأولى تعود إلى القذيفة M999 “باراك عيتان” التي تصنعها شركة "إلبيت سيستمز" منذ عام 2019. وتطلق كل قذيفة من هذا الطراز تسع ذخائر فرعية تنفجر إلى نحو 1200 شظية من التنجستن، وفقًا لكتيب تدريبي للجيش الأميركي. ويُعد التنجستن واحدًا من أصلب المعادن المعروفة، وتجعله خصائصه يتفتت إلى شظايا صغيرة حادة وقاتلة عند الانفجار.
أما الصور الأخرى فتعود إلى بقايا ذخيرة عنقودية لم يتمكن معظم الخبراء من تحديدها بدقة بسبب محدودية المعلومات المتوفرة عنها، غير أن اثنين من الخبراء أكدا أنها تعود إلى صاروخ “رعم عيتان” الموجَّه الذي جرى تطويره عام 2017. وقد ذكر الإعلام الإسرائيلي أن هذا الصاروخ يحمل 64 ذخيرة فرعية تتناثر على شكل دائرة واسعة قاتلة لكل من يتواجد ضمن محيطها.
وبحسب بيان للجيش الإسرائيلي صادر في فبراير/شباط 2024، فقد جرى تزويد القوات المنتشرة على الحدود الشمالية بهذا النوع من الذخائر استعدادًا لاحتمال اندلاع مواجهة مع حزب الله. وتقول تقارير إسرائيلية: إن هذه الذخائر طُورت خصيصًا لخفض نسبة الذخائر غير المنفجرة، مدعية أن معدل التعطل في صاروخ "رعم عيتان" لا يتجاوز 0.01%.
غير أن خبراء الأسلحة يشككون بقوة في صحة هذه الأرقام، مؤكدين أن النسب المعلنة من الشركات الدفاعية تكون عادة أقل بكثير من الواقع. ويستشهد هؤلاء بما حدث عام 2006، عندما أعلنت الصناعات العسكرية الإسرائيلية أن نسبة تعطل ذخائر M85 لا تتجاوز 0.06%، بينما أثبتت الدراسات اللاحقة أن النسبة الحقيقية وصلت إلى نحو 10%.
وتؤكد منظمات حقوق الإنسان أن القنابل العنقودية لا يمكن استخدامها بطريقة تقلل فعليًا من الخطر على المدنيين، وأن أي محاولة لتقديمها على أنها أكثر أمانًا أو دقة من النماذج السابقة ليست سوى محاولة للتغطية على طبيعتها العشوائية. ويقول برايان كاستنر، من منظمة العفو الدولية: إن هذه الذخائر "محظورة دوليًا لسبب واضح، فهي أسلحة عشوائية بطبيعتها ولا يمكن استخدامها بطريقة قانونية أو مسؤولة، وتستمر في تهديد حياة المدنيين لعقود طويلة بعد توقف القتال".

آثار مدمرة
ووفق تقرير موسع نشرته منظمة "هيومن رايتس ووتش" في 6 فبراير/شباط 2025، فإن التلوث الواسع الذي خلّفته القنابل العنقودية خلّف آثارًا اجتماعية واقتصادية مدمرة على المجتمعات الزراعية في جنوب لبنان. وتشير التقديرات إلى أن مئات الآلاف، وربما ما يصل إلى مليون، من الذخائر الفرعية غير المنفجرة ما تزال منتشرة داخل الحقول والقرى، متسببة في زعزعة اقتصاد محلي يقوم في جوهره على الزراعة.
ويذكر التقرير أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي قدّر مساحة الأراضي الزراعية الملوثة بنحو 20 كيلومترًا مربعًا، بينما قدّرت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) أن القنابل العنقودية أصابت ما نسبته 26 بالمئة من الأراضي الزراعية في الجنوب، وهو تقدير وصفه مركز تنسيق إزالة الألغام بأنه "محافظ للغاية".
ويشير التقرير إلى أن هذا التلوث لم يحرم النساء والرجال من الوصول الآمن إلى حقولهم فحسب، بل منع كثيرين منهم أيضًا من دخول منازلهم وحدائقهم وبساتينهم. ونقل عن كريس ألارك، مدير البرامج في مركز تنسيق إزالة الألغام بجنوب لبنان، قوله: "ليس من المبالغة القول إن كل شيء تأثر". لافتًا إلى أن نحو 70 بالمئة من دخل الأسر في المنطقة يعتمد بشكل مباشر على الزراعة.
وأضاف ألارك أن الذخائر العنقودية التي بقيت كامنة تحت التربة بعد الهجمات جعلت آلاف المزارعين غير قادرين على جني محاصيلهم أو إعادة زراعة أراضيهم، ما دفع الكثيرين إلى فقدان مصدر رزقهم الأساسي.
كما أكدت حبوبة عون، منسقة مركز موارد الألغام، أن المزارعين يواجهون اليوم أزمة وجودية، قائلة: "هم يحتاجون إلى المساعدة أكثر من أي وقت مضى، لم يعد بإمكانهم تأمين الحد الأدنى من الموارد التي تكفي للعيش".

الذخائر العنقودية
استُخدمت القنابل العنقودية لأول مرة على نطاق واسع خلال الحرب العالمية الثانية، قبل أن تتحول لاحقا إلى أحد الأسلحة الرئيسة في حروب القرن العشرين. وقد بلغ استخدامها ذروته في حرب فيتنام، حين أسقطت الولايات المتحدة نحو 260 مليون قنبلة صغيرة فوق لاوس، تاركة وراءها تلوثًا هائلًا ودمارًا ما تزال آثاره حاضرة حتى اليوم.
وتؤكد منظمة "هانديكاب إنترناشونال" أن هذه القنابل تتحول عمليًا إلى فخاخ موت يمكن أن تظل نشطة لعقود طويلة، ما يجعل الأراضي المتضررة غير صالحة للسكن أو للزراعة. ويبرز ذلك بوضوح في بعض مناطق لاوس التي ما تزال تعاني من تركة القصف الأميركي بعد أكثر من نصف قرن، وكذلك في لبنان الذي أصيب بشدة نتيجة استخدامها خلال حرب 2006.
ويُعد المدنيون الفئة الأكثر تضررًا من هذا السلاح؛ إذ تشير بيانات منظمة "هانديكاب إنترناشونال" لعام 2022 إلى أن 97 بالمئة من ضحايا الذخائر العنقودية هم من المدنيين، وأن الأطفال يشكلون 66 بالمئة من القتلى والجرحى.
ورغم الإجماع الدولي المتزايد على حظر هذا النوع من الذخائر، ما تزال بعض الدول تواصل استخدامه، من بينها روسيا وأوكرانيا وإسرائيل.
أما على صعيد الإنتاج، فيُعتقد وفق أحدث الأبحاث الصادرة عام 2022 أن 16 دولة تعمل على تصنيع الذخائر العنقودية أو تخطط لتصنيعها، وتشمل: مصر، والبرازيل، والصين، واليونان، والهند، وإيران، وإسرائيل، وكوريا الشمالية، وباكستان، وبولندا، ورومانيا، وروسيا، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية، وتركيا، والولايات المتحدة. ويعكس ذلك استمرار انتشار هذا السلاح على الرغم من الإدانات الدولية الواسعة لمخاطره وآثاره الكارثية.















